سعيد مرزوق.. إسم بارز في عالم الإخراج السينمائي المصري. إستطاع أن يجد له
مكاناً مرموقاً بين أساتذته وزملائه المخرجين.. بل أنه أثبت بجدارة موهبته
الفنية، وذلك بأسلوبه المتميز والواعي لماهية السينما وحرفيتها. وقد بدى
ذلك واضحاً من خلال أفلامه الأولى.. تلك الأفلام التي ناقش فيها مواضيع
جديدة وأفكار هامة لصيقة بأزمة الإنسان المصري والعربي. فكانت شخصياته
واقعية جداً، وتشكل نماذج حقيقية إستقاها من صميم المجتمع وقدمها برؤية
وفهم جديد للغة السينمائية.
نحن أمام مخرج عاشق للسينما.. يتعامل معها بحب وإحترام، مبتعداً بذلك عن كل
ما هو هابط ومبتذل. مخرج يقدم رؤية فكرية وقيمة فنية من خلال أعماله
السينمائية. لذلك نراه مقلاً في إنتاجه السينمائي، ورافضاً للتنازل عما
يحمله من أفكار ومباديء من أجل الإنتشار فقط. فسعيد مرزوق، ومن خلال مسيرته
الفنية الطويلة، خصوصاً في العشرين عاماً الأولى (1971 ـ 1983)، قدم خمسة
أفلام روائية طويلة فقط. يقول مرزوق: (...أرفض أفلام
التسلية، وأرفض الإسفاف والتنازل لمجرد أكل العيش.. لهذا أحرص دائماً على
أن تكون حياتي بسيطة، بحيث لا أحتاج للعمل لمجرد أكل العيش.. وبحيث أضل
هاوياً مدى الحياة، حتى لو إضطر الأمر بأن لا أقدم إلا فيلماً واحداً كل
عشر سنوات.. فأنا لست مجرد منفذ.. المخرج في نظري مثل صاحب القلم.. هو يكتب
بقلمه وأنا أكتب بالكاميرا.. وكل منا له فكره وفلسفته ووجهة نظره.. هذه هي
كشكلتي مع الفن ومع السينما...).(9)
وفي موضوعنا هذا، سنحاول التعرف على الفكر السينمائي لسعيد مرزوق، وذلك من
خلال تناولنا لأفلامه الخمسة الأولى بالنقد والتحليل. ولكن قبل البدء في
ذلك، سنقوم بعرض موجز لنشأته الفنية التي أهلته لإخراج فيلمه الروائي
الأول.
ولد سعيد مرزوق عام 1940، وتربى في أسرة فقيرة حيث تحمل عبء المسؤولية وهو
صغير السن، وذلك لإعاشة والدته وإخوته الأربعة بعد وفاة والده. ومن الطبيعي
أن يجعله هذا العبء الثقيل عرضة للعديد من المشاكل والأزمات، والتي فجرت في
داخله أحاسيس إنسانية، إنعكست بالتالي على إهتماماته وهواياته، حيث كانت هي
المنفذ الوحيد له للتعبير عن هذه المعاناة. هذا إضافة الى أن سعيد مرزوق قد
تفتحت عيناه على عالم السينما وهو في سن الثانية عشرة. فقد كان منزله
ملاصقاً لأستوديو مصر، وكان لذلك تأثيره المباشر على حياة مخرجنا. حيث
أبهره هذا العالم الغريب، بكل مواصفاته.. من ديكورات وممثلين وكاميرات..
وأخذ يراقب كل هذا بحب وإهتمام وإعجاب. الى أن شاهد يوماً ما، المخرج
الكبير "سيسيل دي ميل"، وهو يصور فيلم (الوصايا العشر) في صحراء الهرم..
فكانت هذه هي نقطة البداية الحقيقية عندما أحس مرزوق بعظمة دور المخرج
وأهميته بالنسبة للسينما. يقول سعيد مرزوق: (...في
العاشرة من عمري بدأت أتذوق الفن.. شاهدت (الوصايا العشر) للمخرج سيسيل دي
ميل وعشقت هذا المخرج الجاد والفنان، بل وإتخذته مثلاً أعلى لي.. تمنيت أن
أجلس على هذا الكرسي الذي يتحرك عالياً، والذي يجلس عليه المخرج.. وقتها
بدأ حب الفن ينمو بداخلي بشكل غريب.. كنت أمارسه بشكل آخر في الرسم
والنحت.. وبدأ مشواري الفني، وإبتدأته بالقراءة فقط...).(8)
البداية:
لم يدرس سعيد مرزوق السينما على يد أحد، ولم يكن من خريجي أحد المعاهد
السينمائية إنما كانت السينما نفسها هي مدرسته، حيث إعتمد على قراءاته فقط
في تنمية موهبته وإهتماماته السينمائية. وقبل أن يقدم أول فيلم له كمخرج..
إشتغل مساعداً لزميله المخرج الشاب إبراهيم الشقنقيري. ثم بعدها مباشرة قام
بإخراج فيلمين قصيرين مدة كل منهما خمس دقائق. وكان عمله الثالث هو إخراجه
لأغنية (أنشودة السلام) ومدته عشر دقائق، والذي أختير كأحسن عمل تليفزيوني
لعام 1965. بعد ذلك قدم فيلمه التسجيلي (أعداء الحرية ـ 1967) وشارك به في
مهرجان »ليبزغ« الألماني، وحصل على الجائزة الثانية في هذا المهرجان. ثم
قدم فيلم (طبول ـ 1968) ونال أيضاً جائزة الدولة في الإخراج والتصوير
والمونتاج في ذلك العام. كما أنه قام بإخراج فيلم (دموع السلام ـ 1970)
الذي أختير كأفضل فيلم عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
زوجتي والكلب
-
1971
لقد أكسبته مجمل هذه الأعمال التسجيلية القصيرة خبرة سينمائية، أهلته
للتحضير
لأول أفلامه الروائية الطويلة (زوجتي والكلب - 1971)، والذي سنتوقف كثيراً
أمامه، فهو يعد من بين الأفلام
القليلة - بل والنادرة - التي مازالت حاضرة في ذاكرة الجمهور والسينما على
السواء
.فيلم
مازال يحتفظ بنفس البريق الأخاذ، ويشكل بحق علامة بارزة في تاريخ السينما
المصرية. هذا
الفيلم، الذي أحدث انقلابا فنياً خطيراً في موازين لغة السينما المصرية
آنذاك،
حيث استطاع سعيد مرزوق - بهذا الفيلم - أن يحطم الكثير من قيود وتقاليد
السينما
المصرية المتوارثة منذ بدايتها، وقدم فيه مستويات جديدة في اللغة
السينمائية، من
سيناريو ومونتاج وتصوير وإخراج.
كتب السيناريو والحوار لفيلم (زوجتي والكلب) سعيد مرزوق،
إضافة إلى الإخراج.. ولكن لظهور مثل هذا الفيلم إلى النور، كان لابد من
وجود منتج
فنان، منتج جاد وجريء، ليقدِم مخرجاً جديداً وفيلماً جريئاً كهذا.. فكان
هذا
المنتج هو الفنان المبدع عبدالعزيز فهمي، وهو منتج ساهم - من قبل - في ظهور
العديد
من المخرجين الجدد والأفلام الجادة والجيدة، كـ"المومياء"، و"المستحيل"..
وغيرهما.
يقول عبدالعزيز فهمي: (...بالنسبة لفيلم "زوجتي
والكلب".. كان تجربة حقيقية، لإكتشاف العديد من القضايا التي تلح على
الفيلم الجديد.. وفي تقديري أن في مقدمة هذه القضايا جميعاً، قضية المخرجين
الجدد.. فهنا نلتقي بمخرج شاب يقدم فيلماً سينمائياً لأول مرة، وتحس به
كعملاق، وأنا أحسست به لأول مرة، أحسست أن في داخله طاقة قوية على العطاء..
والفنان الحقيقي في تقديري يولد عملاقاً!!...).(2)
ويقول المخرج الأمريكي روبرت فريمان: (...إنتهي عصر
الحدوته، ولم يعد للسرد الأسطوري في الفيلم أي مكان.. مثلما أصبحت لغة
الديكورات الفخمة والمناظر المبهجة، والخدع بألوانها في خبر كان.. فيلم
الييوم أصبح كالحياة نفسها، في قلقها، في تنوعها، في عدم تسلسلها، في عدم
خضوعها لخطة منطقية على وتيرة واحدة. أصبحت الصورة بكل مستوياتها
وتدرجاتها، هي سيدة الموقف: الصورة تفرزها ألف عين في لحظة واحدة، وبألوان
متنوعة متغيرة!!..).(3)
سعيد مرزوق، عندما أراد أن
يقدم فيلمه الأول، قد أخذ بعين الاعتبار أن يكون هذا الفيلم كالحياة نفسها،
في
قلقها وتنوعها وعدم تسلسلها، وفي عدم خضوعها لخطة منطقية على وتيرة واحدة.
وكان حريصاً على أن تكون الصورة - بكل مستوياتها وتدرجاتها - هي سيدة
الموقف. حيث أننا نلاحظ ، في (زوجتي والكلب)، بأن السيناريو لم يكن إلا
وسيلة لصناعة الصورة
السينمائية وتشكيلها، خصوصاً إن مرزوق قد ابتعد عن السرد والحكاية
التقليدية،
وأخضع المعاني للغة الكاميرا. كما أنه ابتعد عن تراكم الأحداث والعلاقات،
وركز
على الانفعالات والأحاسيس داخل الإنسان نفسه.. حيث أعتبر هذا الفيلم محاولة
ناجحة
من سعيد مرزوق للدخول في أعماق النفس الإنسانية للشخصية المحورية، وذلك من
خلال
شخصية الريس مرسي (محمود مرسي).. فنحن هنا أمام شخصية مريضة نفسياً وأسيرة
للهواجس وأحلام اليقظة القاتلة، فهو في وحدته يتصور بأن زوجته (سعاد حسني)
تخونه
مع أعز أصدقائه وزميله في العمل (نور الشريف)، رابطاً بين هذا الفعل وبين
مغامراته
السابقة مع زوجات أصدقائه، والتي رواها مرة لصديقه هذا. وحول هذه الشخصية
تتشابك
العلاقات وتدور أحداث الفيلم، والتي تجري في فنار مهجور، يعمل فيه رجال
قساة
الوجوه، يحيون بعيداً عن بهجة المدينة وفرح الأهل والأصدقاء.. ومن الطبيعي
أن
تكون هذه العزلة، والتي تتطلبها ظروف عملهم، سبباً في تكثيف حرمانهم وتصعيد
واجسهم وقلقهم حتى الذروة
.
لغة جديد:
أما بالنسبة للغة الإخراج في (زوجتي والكلب)، فقد كانت جديدة ومبتكرة إلى
حد كبير، حيث استطاع سعيد مرزوق، من خلال لغة الصورة، تقديم مشاهد تمتاز
بالبساطة في الشكل، لكنه ضمَّنها شحنات فكرية عميقة، ذات
دلالات رمزية أحياناً، وأحياناً أخرى تحمل دلالات كوميدية ساخرة، مبتعداً
بذلك عن
أي افتعال أو تعقيد. كما إنه، وبأسلوبه الجديد هذا، قد حطم ذلك الأسلوب
التقليدي
التتابعي في الإخراج، وحاول السير على نهج الفكر الجديد في السينما، والذي
يعتمد
أساساً على الصورة كسبيل لمخاطبة المتفرج، مستعيناً عن الحوار بإيماءات
الصورة
وتلميحاتها
.
ومما لاشك فيه، بأن تعاون سعيد مرزوق مع عبدالعزيز فهمي قد أثمر
فيلماً جديداً وجميلاً، كان بمثابة مفاجأة حقيقية للوسط الفني والسينمائي
المصري
آنذاك. فقد وجد عبدالعزيز فهمي في هذا الفيلم ـ أيضاً ـ ما يطمح أليه هو،
حيث أن
هذا الفيلم كان مناسبة لإبراز إمكانياته وقدراته الفنية في التصوير، علماً
بأنه
يعد من أبرز وأهم مديري التصوير العرب وأكثرهم خبرة، وهو بهذا الفيلم يقدم
نموذجاً هاماً وملفتاً بالنسبة للصورة السينمائية وتطويرها في مصر والوطن
العربي، وهو ـ
أيضاً ـ باجتهاده الفني هذا، يعطي مفاهيم وموازين جديدة للصورة السينمائية
في
الفيلم العربي، كما إنه يقدم بلورة شاملة لفهمه بتكوين الصورة في السينما
الحديثة.. حيث برز هذا بشكل واضح في فيلم (زوجتي والكلب)، فقد كان للصورة
دوراً هاماً
في إبراز الحالة النفسية لشخصيات الفيلم وتجسيدها في كادرات قوية وجميلة
وممتعة،
كان للإضاءة فيها دوراً درامياً خلاقاً
.
لقد اشترك الاثنان، سعيد مرزوق وعبدالعزيز فهمي، في فيلم (زوجتي والكلب)،
في
تقديم فيلم متكامل يحوي مشاهد قوية ومعبرة وجميلة كثيرة، أهمها: المشاهد
الشاعرية الشفافة التي تجمع الريس مرسي وزوجته في الفراش.. أيضاً مشهد عودة
الريس مرسي إلى
الفنار، وفرحة الأصدقاء برجوعه إليهم، فهي ـ حقاً ـ فرحة يشترك فيها البحر
والكلب والأصدقاء، بمصاحبة توليف متقن للمونتاج، ساهم كثيراً في تجسيد هذه
الفرحة
وصياغتها بشكل موحي ومؤثر. وهناك أيضاً مشاهد الفلاش باك، التي عاشها الريس
مرسي
مع زوجته، ومقارنتها باللحظات الآنية التي يعيشها في بعد وحرمان ولوعة في
هذا
المكان البعيد والمقفر. كما أن المشاهد التي تناولت حالة الحرمان الجنسي
لدى (نور
الشريف)، قد استطاعت أن تجسد بحق أحاسيس القلق والفراغ، فقد كان التركيز
على
الصور العارية إيحاءً موفقاً للوسيلة الخاطئة التي اتخذها نور لإشباع
رغباته الجنسية. كما لا تفوتنا الإشارة إلى أن استخدام سعيد مرزوق للجنس
كان ذكياً، ولم
يكن ـ قط ـ مبتذلاً.. بل إنه كان تعبيراً موفقاً عن الوحدة والحرمان وأزمة
الإنسان
في بُعده عن أقاربه والمدينة، ووجوده في عزلة قاتلة كهذه. ثم أن سعيد مرزوق
قد
استحدث تقليداً جديداً في الفيلم المصري، وذلك عندما وصلت للريس مرسي رسالة
من
زوجته، فنراها وهي بجواره تقرأ له بصوتها وبجسدها.. دلالة على قربها منه
ومن
واقعه ولا تنفصل عنه كإحساس وشعور. كذلك مشهد قصاصات الصور العارية وهي
عائمة على سطح البحر، وتخيُل نور بأنها حقيقية قافزاً معها ومداعباً إياها
في البحر.. حقاً، إنه أسلوب جديد ومعبر تماماً عن تلك الحالة من القلق
والحرمان الجنسي الذي يعيشه
نور
.
الكلب.. رمزاً وبطلاً:
لقد استخدم سعيد مرزوق شخصية الكلب بشكل موفق، حيث أعطاها أبعاداً كثيرة،
لتصبح رمزاً وبطلاً حقيقياً وهاماً في فيلمه هذا.. فقد كان رمزاً لوحشية
الإنسان
وبدائيته مثلما كان رمزاً للإخلاص والوفاء والطيبة.. كذلك أظهره للدلالة
على الشبق
الجنسي، وذلك عندما يقارن ـ في مشهد معبر ـ بين لسانه ولسان نور وهو يشاهد
الصور
العارية على مائدة الطعام. كما أن مرزوق عن، دما يظهر الريس مرسي وهو يضرب
الكلب
بقسوة، يشير إلى أن الكلب هو أقرب لمرسي مثل صديقه نور، وبالتالي يكون
بمثابة المتنفس الوحيد لغضبه من صديقه وشعوره بالضياع والحرمان.
أما بالنسبة لاختيار
مرزوق لأماكن التصوير، فقد كان ذكياً وموفقاً ولصيقاً بمضمون أحداث الفيلم،
ولم
يكن مجرد خلفية إضافية تتحرك فيها الشخصيات.. فالبحر، بكل ما يحمله من رموز
وإيحاءات، قد أعطى إحساساً بجو الرهبة والقلق والمجهول، خصوصاً أثناء
هيجانه
وتلاطم أمواجه بأحجار الشاطئ.. هناك ـ أيضاً ـ الفنار الذي يمثل دليل
الهداية
للسفن الضالة ويشكل ـ في نفس الوقت ـ السجن والمنفى المعزول عن العالم
بالنسبة
لشخصيات الفيلم.. وهذه، في مجملها، إيحاءات تناسب وتقوّي المضمون والسرد
الدرامي
للفيلم، بل وتساهم في تجسيد حالات القلق والتوتر والحرمان التي تعيشها
شخصيات الفيلم
.
كما لا تفوتنا الإشارة إلى أن استخدام سعيد مرزوق للمونتاج جاء موفقاً
إلى حد كبير، وكان له الدور الأساسي والبارز في تحليل الشخصيات وخلق حالات
وعلاقات
متباينة بين المشهد والآخر، إضافة إلى خلقه لذلك الإيقاع المشوق في الفيلم
ومساهمته في تصاعد الحدث الدرامي
.
حقاً.. نحن أمام فيلم سينمائي متكامل إلى حد
كبير، فجميع عناصر الفيلم الفنية والتقنية تجانست بشكل مدروس لتشكل وتعطي
عملاً
قوياً وجميلاً ذو مستوى فني وتقني جيد، استطاع ـ بحق ـ أن يجد له مكاناً
هاماً
وبارزاً في ذاكرة السينما المصرية
.
يقول سعيد مرزوق عن أول أفلامه الروائية: (...زوجتي
والكلب، كان بالنسبة لي فرصة حقيقية لإثبات وجودي كمخرج جديد في عالم
السينما، يهمه اظهار شكل بعيد عن الحدوتة التقليدية، كان الفيلم ترجمة
لأحاسيس إنسان بالصورة، وكانت تجربة جريئة وصعبة، بعدها بدأ الإحساس
بالصورة يتخذ شكلاً جديداً في الفيلم المصري، من خلال تجارب المخرجين
الآخرين.. انني أعتبر هذا الفيلم بداية لموجة جديدة، برغم أن نسبة التجديد
والإبتكار فيه 50% فقط، بينما كان في ذهني أن يكون التجديد شاملاً ولكننا
اضطررنا لذلك!!...).(6)
الخوف – 1972:
وها هو سعيد مرزوق في فيلمه الثاني (الخوف – 1972) يعبر بلغة السينما،
ويتحرر مرة ثانية من أسوار الحدوتة التقليدية.. ويحاول الإنطلاق إلى أعماق
الإنسان ومكنوناته. فالإنسان عند سعيد مرزوق هو الموضوع الأهم، ومن خلاله
يمكن تناول مواضيع كثيرة مهمة.
فيلم (الخوف)، يعد من أبرز الأفلام المصرية التي تناولت موضوع الخوف بطريقة
مختلفة عما سبق من أفلام مصرية، واستخدام لغة الصورة السينمائية، في
التعبير عن ذلك، حيث كان الفيلم محاولة ناجحة إلى حد كبير، للانطلاق إلى
أعماق النفس البشرية والبحث في مكنوناتها. متحرراً من أسوار الحدوتة
التقليدية.
فالفيلم يقدم الإنسان في صراعه مع الخوف.. الخوف من الحاضر، الذي يحمل
تساؤلات
كثيرة دون إجابات.. الخوف من المستقبل المجهول، وما سوف يحمله من أحداث
ومفاجآت.. الخوف من الموت والخراب، الذي يتجسد في الحرب. وكل هذه أشكال
متعددة للخوف، تناولها سعيد مرزوق في فيلمه هذا، والذي دعا فيه ـ أيضاً ـ
الإنسان بمحاربة خوفه
الاجتماعي والنفسي، حفاظا على إنسانيته.
لقد تعرض مرزوق في (الخوف) لأعنف
الاهتزازات التي واجهها الشعب المصري، والشعب العربي بشكل عام، إثر هزيمة
يونيو 67. فهو يقدم لنا قصة فتاة (سعاد حسني) نزحت إلى القاهرة بعد أن قاست
مرارة وقسوة
العدوان على مدينتها السويس.. هذه المدينة التي أصبحت، بفعل الحرب، مجرد
أطلال
وحطام من المساكن، اختلطت بجثث أهلها وأصدقائها وذويها. وهي تأتي للقاهرة،
مع
الكثيرين من المهجرين والمغتربين، لتجدها مدينة مزدانة بالأضواء ومزدحمة
بالمقاهي
العامرة.. الحياة العامة فيها طبيعية، لا يعكر صفوها سوى ذكرى العدوان
الغاشم. تلتقي بمصور شاب (نور الشريف) في أحد معارض الصور الفوتوغرافية،
والتي يطل بها أهل
القاهرة على مأساة وبشاعة الحرب من خلال هذه الصور، دون العيش في المأساة
نفسها. تبدأ بين الاثنان قصة حب رقيقة.. استطاع سعيد مرزوق أن يقدمها في
إطار إنساني شاعري.. دون أن ينسينا الحدث الأهم، فهو يذكرنا دائماً بآثار
الحرب النفسية على بطلته، والمتجسدة في الخوف الساكن في أعماقها. إن سعيد
مرزوق يضعنا بصدد مقارنة بين هذه
الفتاة المنكوبة، والتي عاشت مأساة الحرب واكتوت بنارها، وبين أناس يعيشون
حالة الطمأنينة المزيفة، متناسين قرب النار منهم، وإن عليهم أخذ الحذر منها
ومقاومتها.
وفي الجزء الأخير من فيلمه (الخوف)، يتخذ سعيد مرزوق من حارس العمارة رمزاً
لمصدر الخوف الذي تعيشه مصر وبطليّ الفيلم في نفس الوقت، فالحارس هو الذي
يهدد خلوتهما ويخلق لديهما الإحساس بالخوف، إضافة إلى استفزاز الخوف الكامن
في أعماق الفتاة، ومن ثم تفجير خوفها هذا في وجه الشاب، واتهامه بالسلبية
والجبن، وبالتالي استفزازه هو أيضاً وهجومه على الحارس والقضاء عليه.
لقد أراد سعيد مرزوق
- هنا - الإيحاء بأن التخلص من الحارس يعتبر تخلصاً من الخوف وهزيمة
الهزيمة نفسها. إلا أن مرزوق قد أخفق في ما أراده، وكان تعامله مع الحارس
خارجياً فقط، متناسياً المضمون الاجتماعي والنفسي الذي تجسده شخصية الحارس،
وبأنه - في النهاية
- مجرد إنسان خاضع لنفس ظروف القهر والخوف التي يخضع لها البطلين. لذلك
جاءت
النهاية مباشرة وساذجة بعض الشيء، بل وتذكرنا بالقصص الكلاسيكية
الرومانسية، والتي تنتهي عادة بانتصار المحب على الشر وتخليص حبيبته من
براثنه، ومن ثم نهاية
سعيدة بزواجهما.
بالرغم من النهاية السعيدة في فيلم (الخوف)، والتي أضرت بالفيلم كثيراً،
إلا أن
سعيد مرزوق قد نجح في تجسيد الخوف الذي يسكن داخل الإنسان ويسيطر على
تفكيره، ويجعله عرضة للكوابيس والأحلام الزائفة.. فهو هنا يحدثنا حديثاً
سينمائياً، يعتمد
على الصورة السينمائية، بحيث لا تحتاج لحوار لغوي لفهم واستيعاب المشاعر
والمواقف
التي توحي بها هذه الصورة، حيث أنه استطاع أن يسخر لغة الصورة ويوظفها
لخدمة المضمون العام في الفيلم. كما أن الحوار، الذي كتبه مصطفى كامل، كان
ذكياً
ومركزاً يبتعد عن المباشرة والتطويل، ونجح في إثارة الكثير من المشكلات
الاجتماعية.
ويبقى أن نقف وقفة تأملية لما قدمه سعيد مرزوق، من لمحات ومميزات فنية
وتكنيك
سينمائي جديد، شاهدناه في الكثير من المشاهد.. كان أهمها: مشهد الحلم
المشترك للعاشقين وهم يمارسان الحب على ورق الصحف الملقاة على الأرض،
وإظهار لقطات تبين عناوين مثل لا قيود على الحريات الشخصية، وعناوين عن
الحرب والقتال مع إسرائيل، وعناوين أخرى عبرت بصورة خلاقة من غير كلمة حوار
واحدة. كذلك التناقض في شريط
الصوت والصورة، في مشهد وصف الشاب لشقته في البنسيون أثناء حديثه في
الهاتف، استخدمه مرزوق بشكل موفق، متخذاً من الصورة تجسيداً حقيقياً لهذا
الوصف. وهناك
أيضاً المشهد الذي يطلب فيه
الشاب من الفتاة أن تشاهد القاهرة من خلال المنظار، حيث نعرف بأنها لا ترى
سوى الخراب الذي حل بمدينتها، فهذه المأساة التي عاشتها
تسيطر عليها ولا تجعلها ترى سوى شيء واحد، هو مدينتها المنكوبة، والقريبة
جداً من
وجدانها. أما المشهد التخيلي لذهاب الفتاة إلى البنسيون، فهو مشهد مكرر
لمشهد وصف
الشاب له، وكان من الأفضل اختصاره أو حذفه. وقد جاء اختيار سعيد مرزوق
للعمارة (تحت الإنشاء) الغارقة بين أكوام الحجارة والرمال وسقالات البناء،
لتكون ميداناً
لأحداث النصف الثاني من الفيلم، اختيارا موفقاً وذكياً منه، حيث المقارنة
بين كل
هذا وبين الخراب والدمار في مدينة السويس، والتعبير عن حالة الخوف التي
ساهمت في تجسيدها حركة الكاميرا السلسة وزوايا التصوير المدروسة بعناية،
هذا إضافة إلى المؤثرات الصوتية. أما اختياره لشخصية البطل كمصور صحفي، فلم
يكن اختياراً
عشوائياً أو اعتباطياً، وإنما جاء ليكون - هذا الصحفي - شاهداً على
الأحداث، دون
المشاركة الفعلية فيها بالطبع.
ومع كل هذا المستوى الفني والتقني، الذي
جسده سعيد مرزوق في (الخوف)، إلا إننا نلمس ذلك البطء والرتابة في أحداث
الفيلم، مما أفقده عنصري التشويق والمتابعة. وربما يكون هذا البطء مقصوداً
من قبل
المخرج، إلا أنه في فيلم (الخوف) قد تناول موضوعاً حساساً ومهماً، قد جعله
عرضة لتدخل الرقابة الرسمية، التي حذفت مشاهد كاملة من الفيلم، وكان لها
دور في وصول
الفيلم إلى النهاية التي شاهدناها.
يتحدث سعيد مرزوق عن هذا الفيلم، فيقول: (...في
فيلمي الثاني – الخوف – حاولت دفع التجرية في الشكل والمضمون معاً، ولكنني
لم أتمكن، برغم أن تكنيكه كان أكثر رقياً من الفيلم الأول، والسبب أنني
أرغمت على تعديله مرتين، الأولى بسبب الرقابة، التي حذفت مشاهد كاملة، تصور
معاناة المهاجرين من مدن القناة، بعد نكسة يونيو 67، والثانية بسبب تصميمها
على تغيير نهاية الفيلم التي كان من المفروض أنها تلخص المعنى كاملاً، ولكن
تغييرها أفقد الفيلم مغزاه، لتصبح النهاية ثغرة خطيرة في العمل!!...).(6)
وفي مكان آخر، يقول مرزوق: (...عندما حققت – الخوف –
على اثره كنت أرغب في تقديم مشكلة ماسة وجوهرية بالنسبة للناس، لكن
السيناريو الذي عدل أكثر من مرة، وتدخلات المنتج "رمسيس نجيب" المتكررة
مدفوعاً برغبته في تسويق الفيلم أولاً وأخيراً.. أثرت على العمل ككل، ففقد
السيناريو الكثير من أفكاره!!...).(5)
أريد حلاً
-
1975
يعد فيلم (أريد حلاً)، الذي أنتج عام 1975، واحداً من العلامات البارزة،
ليس في مشوار الفنانة فاتن حمامة.. بل هو يعد من أنجح أفلام مخرجه الراحل
سعيد مرزوق..!!
ويأتي فيلم (أريد حلاً - 1975) ليضع سعيد مرزوق أمام تحد مباشر وخطير، لما
يسمى بالمعادلة الصعبة.. أي الفيلم الجماهيري الجاد.. وهي قضية تشغل العديد
من مخرجي السينما المصرية.
يقول سعيد مرزوق: (...أستطيع أن أقول أنني مع "أريد
حلاً" قد اخترت صيغة صعبة، تسمى بالمعادلة الصعبة، وهي عبارة عن تقديم
مواضيع جادة، إنما تهم كل الناس، وأسلوب شكلي محترم، إنما لا يتضايق منه
أحد، وتحقيق ذلك هو الصعوبة بالتحديد، فالخيط بين العمل الجاد وبين تحوله
عن جديته رغم وضوحه، يظل خيطاً رفيعاُ، وعلى المخرج دوماً أن يعرف كيف
يحفظه!!...).(5)
وربما نتفق مع سعيد مرزوق قليلاً فيما قاله.. ولكنه عندما قدم الفيلم
الجماهيري، قد وضع نفسه في تحد كبير ومباشر، واختار أن يقدم الفيلم
الجماهيري، متخلياً بذلك عن الكثير من لغته السينمائية.. علماً بأنه في هذا
الفيلم قد ناقش - بشكل جاد - مشاكل المرأة العربية وحقوقها، مع محاولته
إبراز الظروف القمعية التي تعيشها في ظل القوانين الوضعية.
إن فيلم (أريد حلاً) يعتبر أول حوار وجدل بين السينما وقانون الأحوال
الشخصية، فهو يفجر قضية اجتماعية بالغة الخطورة وهي الطلاق. وتكمن الخطورة
في أن مرزوق قد ناقش حق المرأة في طلب الطلاق، بل وقف بجانبها في المطالبة
بان تعامل كانسان مكتمل له الحرية الكاملة في تقرير مصيره. كما انه حاول
الكشف عن الثغرات التي يحتويها قانون الأحوال الشخصية.
قصة الفيلم كتبتها الصحفية حُسن شاه باتفاق مع الفنانة فاتن حمامة، التي
بدورها رشحت سعيد مرزوق لإخراجها. وبعد مشاورات طويلة مع المخرج وافق بشرط
أن يعيد الصياغة عند كتابته للسيناريو. وقد اعتمد في ذلك على ملفات وكتب
قانونية وزيارات متكررة قام بها طوال ثلاثة أشهر لقاعات المحاكم، كان
خلالها يحضر الجلسات ليدرس ويراقب ما يدور فيها.
ويتحدث سعيد مرزوق عن الفيلم، فيقول: (...أردت من
العمل أن يكون حقيقياً، بمعنى أن علي أن أكون واقعياً وصادقاً. وأدركت أن
أي خطأ قانوني، قد يعرض العمل إلى الضياع، والظهور بمظهر الملفق، المهتم
بالحدوته الميلودرامية البعيدة عن الحقيقة. هذا يعني أنني أخذت بعين
الاعتبار، التحضير للعمل بتؤدة قبل المباشرة به. وقد اعتمدت على الكتب
القانونية، التي صففتها أمامي، مطالعاً كل ما يتعلق بشئون الأحوال الشخصية
والمذاهب المتعلقة بها، ووجدت أن الإسلام قد حدد أموراً واضحة فيما يتعلق
بموضوعي، إنما تطبيقها أمر آخر!!...).(5)
كل هذا - بالطبع - يحسب لصالح سعيد مرزوق كمخرج ملتزم وواع بدور السينما
الاجتماعي وتأثيرها الجماهيري، لكننا إذا نظرنا إلى السيناريو الذي قدمه
فسنجد انه قد افتقر إلى رسم دقيق لأعماق شخصياته. فالفيلم يطرح قضيته من
خلال ثلاث نماذج نسائية.. الأولى وهي صاحبة القصة الرئيسية (فاتن حمامة)،
والتي ترفع قضية طلاق ضد زوجها (رشدي أباظة) الرافض لطلبها هذا. فتبدأ
رحلتها الشاقة في سبيل انتزاع حقها في نيل حريتها، مستنجدة في ذلك بقانون
الأحوال الشخصية. لكنها تخسر القضية أمام قانون جامد وضعه الرجل نفسه
ليعطيه الحق في النيل من حرية المرأة وكرامتها.
وبالرغم من إن هذه القصة هي الرئيسية في الفيلم، إلا أن السيناريو قد اهتم
بصاحبتها اهتماما شكلياً فقط، بل ومبالغاً أحياناً في تجسيد معاناتها
وانفعالاتها. كما انه لم يستطع تقديم صورة واضحة لشخصية الزوج، وتعامل معها
بشكل سطحي غير مقنع، بل لم يحاول الدخول في أعماق تلك الشخصية وتجسيد
الجوانب التي تجعلها شخصية منبوذة من قبل شخصية الزوجة ومن المتفرج أيضا،
يبرر للبطلة الاستماتة في طلب الطلاق بهذا الشكل الصارخ. واكتفى فقط
بالإشارة إلى أن الزوج رجل شرير، أناني، شهواني وزير نساء، يتردد على أماكن
اللهو مع عشيقاته.. فهل هذا يكفي لخلق شخصية مكروهة من المتفرج العربي
للرجل العربي؟ هذا إضافة إلى أن السيناريو قد وقع في منزلق مدمر، عندما
فاجأنا بعلاقة حب غير مبررة بين بطلته وصديق أخيها، الأمر الذي أدى إلى
تقليل تعاطف المتفرج مع البطلة، والتي تخوض معركة مصيرية. علماً بان شخصية
البديل هذا جاءت شخصية باهتة وسطحية أيضا، حيث من المفترض أن تتميز تميزاً
حقيقياً عن شخصية الزوج، ولكنها بدت شخصية تفتقد إلى الكثير من العمق
والحيوية.
أما النموذجان النسائيان الآخران، فقد تعرفنا عليهما في المحكمة من خلال
تواجد بطلة القصة الأولى هناك. فنحن منذ الدخول الأول للمحكمة نجدها مكاناً
بائساً ومزدحماً، يكتظ بنماذج نسائية منهكة تبدو على وجوهها علامات القهر
والظلم. حيث تتحرك الكاميرا بسرعة خاطفة لتنقل لنا عشرات الوجوه لنساء
فقيرات ومتشحات بالسواد، الأمر الذي جعل بطلة الفيلم الأنيقة تبدو كجسم
غريب وسط طوفان المعدمات البائسات. ومن بين قاعات وزوايا المحكمة يختار
سعيد مرزوق وجهين من هذه الوجوه.
الأول لمطلقة شابة (سعاد حسين) تحاول الحصول على نفقة لتربية طفليها من زوج
لا يبين الفيلم لماذا طلقها. وأمام التأجيل المتواصل لقضيتها لا تستطيع
الصمود أمام مغريات القواد (سيد زيان) الذي يطاردها فتنحرف بدوافع الجوع
والخوف من المستقبل وتستسلم له في النهاية.
أما الوجه الثاني فهو مأساة واقعية لسيدة كبيرة في السن (أمينة رزق) طلقها
زوجها بعد عشرة دامت ثلاثون عاماً ليتزوج بفتاة صغيرة. ترفع هذه السيدة
قضية نفقة عندما تجد نفسها عرضة للجوع والتسول بعد أن أنفقت مؤخر الصداق،
إلا أنها تخسر القضية بعد تأجيلات عديدة مع مطالبة المحكمة لها بدفع
المصاريف كاملة. ورغم ذلك ترفع قضية جديدة لكن الموت لا يمهلها لتسمع حكم
القاضي فيها. وقد جاء موتها هذا ليكون من أصدق وأقوى الطعنات الموجهة إلى
قانون الأحوال الشخصية.
يقول سعيد مرزوق: (...شخصية أمينة رزق هي إحدى
الشخصيات التي اكتشفتها أثناء تردادي للمحكمة، مشكلتها كانت تماماً نفس
المشكلة المعروضة في الفيلم، وكذلك شخصية القواد...).(5)
من الملاحظ هنا، في فيلم (أريد حلاً)، بان القصة الرئيسية والتي أخذت الحيز
الأكبر من الوقت قدمت بشكل سطحي غير مدروس، بينما كانت القصتان الثانويتان
أكثر عمقاً ومصداقية، وان صدقهما هذا قد أدى إلى كشف زيف وإدعاء القصة
الرئيسية.
بالنسبة للإخراج فانه من المؤسف حقاً أن نقول بان سعيد مرزوق في فيلمه هذا
لم يوظف إمكانياته الفنية والتقنية للارتقاء بالمستوى الإبداعي الفني
للفيلم. إلا انه من الجدير الإشارة إلى أن المشاهد التي قدمها داخل
المحكمة، والتي تعد من أفضل وأصدق مشاهد الفيلم على الإطلاق، حيث قدم لنا
محكمة حقيقية وخرج بكاميرته من سجن الأستوديو وتحرر من زيفه وضعف إمكانياته
في تجسيد الصدق والواقعية. كما يتضح منذ الوهلة الأولى نشاط الكاميرا
الملحوظ في حركتها بين صاحبات قضية المرأة الحقيقيات بصدق وحرارة، تذكرنا
بحركتها في بناية سعيد مرزوق في فيلمه (الخوف). بينما تبدو الكاميرا عاجزة
في تصويرها لقصة فاتن حمامة الرئيسية، لدرجة إنها تنقل ما يدور أمامها من
ثرثرة وانفعالات من خلال كادر واحد وثابت طويل وممل وكأنه مشهد مسرحي. مما
ساهم في بطء السرد الدرامي وافتقاد الفيلم لعنصر التشويق، والشعور بالملل
في أحيان كثيرة.
يبقى أن نقول بان سعيد مرزوق لم يظهر بمستواه السابق لتقديم رؤية إبداعية
جديدة في هذا الفيلم، وإنما اعتمد على نمط الإنتاج السينمائي التقليدي
التجاري، وساعده على نجاح الفيلم تجارياً قوة الموضوع وجرأته، وقيام
الفنانة الكبيرة فاتن حمامة بالبطولة، حيث استمر عرضه خمسة عشر أسبوعاً.
المذنبون –
1976
فيلم (المذنبون ـ 1976)، يعد واحداً من أبرز الأفلام التي صاحبتها ضجة
رقابية صاخبة.. عندما أتهم بأنه يشوه صورة مصر في الخارج.. وتم إثر ذلك
مجازات كامل الرقابة التي أجازت الفيلم..!!
وبفيلمه (المذنبون) يواصل سعيد مرزوق نجاحه في تقديم الفيلم الجماهيري
الجاد، والذي بدأه في (أريد حلاً)، ويحقق في هذين الفيلمين ما فشل في
تحقيقه من قبل، وهو فهمه للغة التخاطب مع الجماهير العريضة.
فعن قصة لنجيب محفوظ وسيناريو ممدوح الليثي، يقدم سعيد مرزوق ريبورتاجاً
سينمائياً، لنماذج وانحرافات في المجتمع، وذلك برؤية فنية واضحة ومحددة
وصريحة. فهو يشير بأصابع الاتهام إلى الانتهازيين والمستغلين والوصوليين
المنافقين في مواقع العمل المختلفة. وينبه المجتمع من الفساد الذي يصنعه
هؤلاء المذنبون.
يبدأ الفيلم بمقتل الممثلة سناء كامل (سهير رمزي)، ويتم استدعاء كل من له
علاقة بالقتيلة والتحقيق معهم. ويعتمد المحقق (عمر الحريري) على مجموعة من
الصور لحفلة أقامتها الممثلة ليلة وقوع الجريمة. وأول سؤال يطرحه المحقق
على المتهم هو ذلك التقليدي الذي يتكرر كثيراً في الفيلم.. (أين كنت وقت
ارتكاب الجريمة؟). وكان على المتهم تحديد مكان تواجده أثناء ارتكاب
الجريمة، وإلا اتهم بجريمة قتل الممثلة. وللإجابة على هذا السؤال يأتي
المتهم تلو الآخر ليحاول تبرئة نفسه من جريمة القتل، ولكنه يكشف عن جريمة
أخرى، بل أهم يرتكبها ضد المجتمع بأكمله.
لقد اكتملت للفيلم كل عناصر التشويق والإثارة، التي ترتبط دائماً بالأفلام
البوليسية، علما بأن فيلم (المذنبون) قد يتشابه معها في الشكل فقط، أما
المضمون فهو اجتماعي سياسي يتناول الفساد من خلال تشريح كامل للمجتمع..
لكننا نلاحظ أن عنصر التشويق الذي ابتدأ به الفيلم، لا يلبث أن تخف حدته
وحرارته، بعد النصف ساعة الأولى من الفيلم. ويرجع ذلك لسببين، الأول وهو أن
المشاكل والانحرافات التي قدمها الفيلم ليست جديدة، وسبق وأن اطلع عليها
الناس من خلال الصحافة. كما قدمت من خلال المسرح والسينما من قبل، وأصبحت
تفاصيلها معروفة. أما السبب الثاني فهو لجوء السيناريو لأسلوب سينمائي واحد
لم يتغير طوال الفيلم، وهو أسلوب (الفلاش باك).. وذلك باستعراض شخصيات
المذنبين أثناء تكذيب الاتهامات الموجهة لهم، فنحن ما أن ننتهي من مشهد
(فلاش باك) حتى يأتي آخر جديد.. وهكذا. وهذا ما جعل مشاهد الاستجواب تبدو
بطيئة إلى حد الملل، حيث تكرر فيها نفس السرد الدرامي ونفس حركة الكاميرا
الجامدة التي تتحرك بطريقة آلية، لا تختلف فيه أبداً في كل قصة لكل متهم
جديد. ولو أن كاتب السيناريو حاول البحث عن أسلوب فني آخر، لتجنب هذا الشكل
الثابت الممل، واستطاع أن يخرج بفيلم مثير وشيق.
كما ساعد في ضعف السيناريو، ذلك التطويل والتمطيط في مشاهد كثيرة، إضافة
إلى الحوار الكثيف الذي أضعف من قوة الصورة السينمائية. فالفيلم في بعض
الأحيان يبتعد عن الموضوع الرئيسي إلى تفاصيل لا داعي لها.. فنحن لا يهمنا
إذا كان مدير الجمعية الاستهلاكية (توفيق الدقن) متديناً ويصلي، أو إنه
مدمن مخدرات، بل ما يهمنا هو جريمته ضد الشعب، وهي الاتجار في بضائع
الجمعية لحسابه الخاص، وتوزيعها على أصدقائه وأقاربه. هذه هي الجريمة
المهمة بالنسبة لمضمون الفيلم ولنا.. كذلك قصة (حياة قنديل) ومشكلتها مع
الفقر والرذيلة، كانت قصة زائدة على الفيلم، ولا تخدم مضمونه بتاتاً. أما
علاقة رئيس مجلس الإدارة (صلاح ذو الفقار) بزوجة صديقه الدكتور (يوسف
شعبان)، بالإضافة إلى أنها كانت بصورة مبالغ فيها وبشكل مقحم على أحداث
الفيلم، فهي كذلك قد فقدت المضمون الذي وضعت من أجله، وذلك لما احتوته من
تطويل أكثر من اللازم، جعلنا نشعر بسذاجة هذه العلاقة.
أما بالنسبة لمضمون الفيلم بشكل عام، فقد افتقر إلى تحليل الفساد الاجتماعي
الذي يعبر عنه، فهو يدين هذه النماذج ويفضحها دون إعطاء توضيح لأسباب هذا
الفساد وكيفية مواجهته. فالتحليل الدرامي الاجتماعي، يجعل من السينما أداة
توعية وليست أداة لامتصاص مشاعر السخط فقط.
وإذا جئنا إلى الإخراج، فسنلاحظ أن سعيد مرزوق وللمرة الثانية، يستخدم
الأسلوب السهل، في تقديم هذا الموضوع الحساس، أسلوب السينما التجارية
التقليدية. فهو في (المذنبون) لم يستفيد من قدراته الفنية والتقنية في
إبراز كوادر متقنة، وزوايا تصوير مدروسة، لتجسيد مستوى تقني عالي، قد يفيد
ويساهم في نجاح الفيلم فنياً أيضاً، إضافة إلى نجاحه جماهيرياً (13 أسبوعاً
في دار العرض). حتى أن مرزوق قد أخفق أحياناً في إدارة ممثليه، وخصوصاً في
الانفعال المبالغ فيه للمحقق ومساعده، أثناء استجوابهما للمتهمين، لدرجة أن
أحدهم قد نبههما لذلك. فالمفروض أن يتحلى المحقق بالصبر والهدوء وراحة
البال، بل ويساهم في تهدئة انفعالات المتهم، وليس العكس. ومن أهم مشاهد
الفيلم، ذلك المشهد الذي يصور تدافع الناس نحو طابور الجمعية الاستهلاكية،
وسرقة الفراخ ومعاكسة السيدات، كل هذا جسده مرزوق بواقعية، ولو كان فيه شيء
من المبالغة.كذلك المشهد الجنسي بين سهير رمزي وعادل أدهم، قدمه بدون إثارة
جنسية مبتذلة، وتم في دقيقتين فقط دون صراخ أو حركة مثيرة.. جسده سعيد
مرزوق بلغة الصورة السينمائية، صورة متطورة ومبتكرة.
وهذا ما يثبت لنا، بأن سعيد مرزوق لديه الكثير من حرفية وتقنية وإبهار
سينمائي، لكنه آثر أن يقدم السهل المتداول، ليحاول كما يقول:
(...الموازنة بين ما أريد أن أقدمه في السينما، وبين
ما تريده الجماهير!!).(4)
وعن (المذنبون) يقول مرزوق: (...هذا الفيلم يعتبر
ثلاثة أفلام مجتمعة.. من حيث أماكن التصوير والمشاهد والممثلين. وأصبحت لي
تجربة كبيرة في الإخراج، كما ربطني هذا الفيلم بأغلب الفنانين السينمائيين
في مصر، وذلك وفر علي وقتاً للتعرف عليهم سينمائياً.. كما أن قصة الفيلم
تعالج شرائح مختلفة في مجتمعنا المصري وهي شرائح متناقضة ومتنافرة!!).(4)
ليس هناك أي خلاف على أن سعيد مرزوق موهبة فينة وإبداعية كبيرة. وإنه في
(المذنبون) قدم موضوعاً جماهيرياً حساساً وهاماً.. إلا أنه لو أعطى اهتماما
أكثر بالسيناريو وجعله قيد البحث والدراسة المتأنية لاستطاع الخروج بفيلم
متكامل جيد وجاد.
مشاريع أخرى لم تنفذ:
بعد (المذنبون).. كان هناك أكثر من مشروع لأفلام تعاقد سعيد مرزوق على
تنفيذها، مثل (قاهر الظلام، وداعاً يا صديق العمر)، إلا أنه ولسبب خلاقات
مع المنتجين – ربما تكون هذه الخلافات شخصية أو فنية إنتاجية – حالت دون
تنفيذها على يد سعيد مرزوق، ونفذت بمخرجين آخرين. كما أن مرزوق قد قطع
شوطاً طويلاً للإعداد لفيلم (عاشت بين أصابعه)، حيث يقول:
(...قضيت سنة في الإعداد له، وتم تسجيل أغانيه لعفاف
راضي ثم توقف المشروع في آخر لحظة، لأسباب لا علاقة لي بها!!...).(9)
كما يتحدث عن مشروع آخر، فيقول: (...من هذه المشاريع
(ملحمة الحرافيش) الذي أمضيت سنة في إعداده مع مصطفى محرم، ثم وافقت عليه
الرقابة، وأصبح السيناريو جاهزاً للتصوير، ولكن منتج الفيلم يوسف شاهين،
توقف فجأة.. لماذا؟ لا أدري.. يقال أن السبب هو انشغاله بفيلم
نابليون!!...).(9)
كل هذه مشاريع سينمائي، أعطاها سعيد مرزوق الكثير من وقته.. ولأنه فنان جاد
وملتزم، يعطي لموضوع الفيلم وقتاً كافياً لتتبلور معه كل الأفكار، قبل
البدء في التنفيذ، مما أدى إلى نفور أغلب المنتجين عنه، والإتجاه إلى
مخرجين آخرين أقل كلفة وأسرع تنفيذاً لأي فيلم.. يقول سعيد مرزوق في هذا
الصدد: (...يبدأ الموضوع عندي من فكرة أو إحساس طاريء، ويكون بداية لعمل
فيلم كبير، ولا أستطيع أن أنفذها في سيناريو قبل أن تتحول هذه الفكرة إلى
عمل سينمائي متكامل بإحساسي الشخصي، ثم بعد ذلك أكتب السيناريو، لأنني لست
مخرجاً منفذاً، بل يجب أن تكون روحي في العمل كله، وأتواجد في مكان التصوير
قبل نصف ساعة، ثم أقوم بكتابة المشهد، ولا أكتبه في مكتبي، وفي أحيان كثيرة
أقوم بكتابته المشهد بالكاميرا، ولذلك استخدم الكثير من الفيلم
الخام...).(4)
وبمحاولة منه في استثمار الأموال العربية، والهروب من سيطرة المنتجين
المصريين.. تعاقد سعيد مرزق على تنفيذ فيلم عن القضية الفلسطينية تحت اسم
(القربان)، وبدأ بالفعل الإعداد له بشكل مكلف، أملا لأن يجعل منه أول فيلم
عالمي يتحدث بشكل مباشر عن حق الفلسطينيين في تقرير المصير، إلا أن هذا
المشروع أيضاً لم يظهر إلى النور.. ولم يعرف السبب قط.
ولكن سعيد مرزوق، وفي الفترات المتقطعة التي بين هذه المشاريع، اتجه إلى
التلفزيون وأخرج سبعة أفلام تلفزيونية قصيرة، أنتجتها ومثلتها "فاتن حمامة"
للتلفزيون المصري.. وهي(أغنية الموت، ساحرة، أريد هذا الرجل، موقف مجنون،
النائبة المحترمة، أريد أن أقتل، ضيف على العشاء).
وعن الأفلام الأربعة الأخيرة من هذه السلسة، التي سنحت لي الفرصة
لمشاهدتها، يمكن القول بأن سعيد مرزوق اعتمد فقط على الأفكار المثيرة التي
تطرحها هذه القصص، ولم يبرز له أي تكنيك جديد فيها، وربما برر مرزوق ذلك
بذكر عبارة "سيناريو مسرحي" على تترات هذه الأفلام.
كذلك إتجه إلى التلفزيونات العربية الأخرى، لتقديم المسلسلات التاريخية،
الباهظة التكاليف. ففي السعودية قدم (صقر قريش) الذي تكلف مليون دولار. وفي
الكويت قام بتنفيذ (ابن سيناء) وتكلف هو الآخر رقماً خيالياً. وعلى إثر ذلك
اشيع في مصر أن سعيد مرزوق غير موجود في مصر، وإنه هاجر للبلاد العربية
ليقدم أعمالاً هناك، رغبة منه في العائدات المادية!! إلا أنه يرد على هذه
الإتهامات، ويقول: (...بصراحة شديدة، قد وجدت
الإمكانيات متوفرة وموجودة، لخلق أعمال جيدة، فأقدمت على المشاركة، لأنه
متوفر لهذه الأعمال كل أسباب النجاح المادي والفني، وكنت أتمنى أن أقثدم
مثلهما في مصر، ولكن المؤسف.. لا يوجد من يجرؤ ويقد هذه النوعية بسبب
تكاليفها الباهظة!!...).(8)
وعن سبب توجهه للتلفزيون، قال سعيد مرزوق:
(...التلفزيون هو الفن الشامل المعاصر، هو التوجه إلى عامة الناس، وتجاهل
التلفزيون هو تجاهل للفن المعاصر، نحن نعيش عصر التلفزيون، وحرفية الإخراج
تقريباً واحدة في الحالتين.. السيناريو والتلفزيون، ثم لا ننسى أنني في
الأصل مخرج تلفزيوني، ونجاحي فيه قادني إلى السينما...).(7)
مرزوق والرقابة:
قبل البدء في تناول فيلم (إنقاذ ما يمكن إنقاذه)، لا بد لنا من تناول
المشاكل التي تعرض لها سعيد مرزوق مع الرقابة، حيث من المعروف بأنه من أبرز
المخرجين المصريين الذين تعرضت أفلامهم لمقص الرقيب، ففيلمه (الخوف) حذفت
منه الرقابة مشاهد كاملة، كما أصرت على تغيير نهاية الفيلم. وفيلم
(المذنبون) منع بعد السماح بعرضه جماهيرياً، نتيجة للشكاوي التي بعث بها
أبناء الجالية المصرية في الخارج إلى المسئولين يدعون فيها بأن الفيلم
يعتبر تشويهاً وإساءة لسمعة مصر وكرامتها وعزتها وكبريائها، مما أدى بوزير
الثقافة لمشاهدة الفيلم وتشكيل لجنة بقرار وزاري للنظر في قضية هذا الفيلم،
وإعادة النظر في أسلوب وسياسة الرقابة.. كما صدر قرار وزاري آخر، بشأن
القواعد الأساسية للرقابة على المصنفات الفنية. ومن بعدها عوقب الرقباء
الذين أجازوا عرض الفيلم، عقاباً مادياً ومعنوياً، وتم توقيع جزاء قاس
عليهم، تراوح ما بين خصم خمسة عشر يوماً من راتبهم الشهري، إلى إنذار
بالفصل.
أما سعيد مرزوق، فهو يعتبر الرقابة من أهم مشاكل الفيلم المصري، حين يقول:
(...ليست هناك أفلام سياسية مصرية، لأن الإنسان إذا
أراد أن يقول شيئاً، فأما أن يقوله بوضوح تام، أو يصمت، وأنا أعتبر فيلمي
(زائر الفجر) و(الخوف) أفلاماً سياسية ناقصة، لأنهما لم يكونا واضحين بما
فيه الكفاية، وربما كان هذا سبباً هاماً من عدم ظهور تيار أو موجة للسينما
الجديدة، لأن التجديد في السينما يجب أن يشمل كل شيء، فالمفروض أن تتعرض
السينما الجديدة، لما لا تستطيع أن تتعرض له السينما التقليدية، ولكن
الرقابة مثلاً جعلت كل مخرج يعرف ما هو ممنوع، وبذلك يفرض رقابة ذاتية على
نفسه، وحدوداً لا يتعاداها!!...).(6)
إنقاذ ما يمكن إنقاذه
-
1983
يأتي فيلم (إنقاذ ما يمكن إنقاذه)، بعد انقطاع اضطراري من سعيد مرزوق عن
الإخراج السينمائي دام سبع سنوات.. يأتي ليوقف ويفضح كل الإتهامات
والأقاويل التي واجهها أثناء انقطاعه هذا. كما أنه يأتي ليجلب معه، أكبر
ضجة رقابية يتعرض لها فيلم قبل عرضه، في تاريخ السينما المصرية، وفيما يبدو
أن سعيد مرزوق قد أصبح مقدراً له – دون قصد طبعاً – أن يقوم بفضح المستوى
الفكري والعقلي المتخلف الذي وصلت له الرقابة، والتنبيه إلى جوانب عديدة،
عقلية وإدارية في هذا الجهاز الخطير.
بدأت مشاكل الفيلم مع الرقابة، بعد الإنتهاء من تنفيذه.. علماً بأن المخرج
والمنتج قد حصلا على كل الموافقات المسبقة اللازمة والقانونية على
السيناريو وتعديلاته. ولكن بعد مشاهدة الرقابة للفيلم جاهزاً، اشترطت عمل
بعض التعديلات والحذف، حتى يمكن عرضه جماهيرياً.
وبعد مشاورات ونقاشات بين الرقابة وبين المخرج والمنتج، رفضا حذف أي مشهد،
إلا أنهما وأمام إصرار الرقابة على موقفها، توصلا إلى وضع فيه نوع من
الإعتدال بحذف بعض المشاهد وتخفيف البعض الآخر. وكان من الممكن أن يعرض
الفيلم جماهيرياً، وينتهي دور الرقابة هنا، إلا أنه – ولسوء حظ الفيلم
والرقابة معاً – قد عرض الفيلم عرضاً خاصاً على النقاد والمسئولين، بهدف
الدعاية للفيلم وأصحابة، ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان، إذ أعلن النقاد في
قاعة العرض وعلى صفحات صحفهم ومجلاتهم، سخطهم على الفيلم وصانعيه، وطالبوا
بمنع عرضه ومحاكمة أصحابه، كما طالبوا بتدخل اللجنة العليا للرقابة وإعادة
النظر في عرض هذا الفيلم على الجماهير، وأشرس نقد وجه للفيلم كان من قبل
الناقد رؤوف توفيق، عندما وصفه بأنه تحريض للإرهاب العسكري والفكري واتهم
مخرجه، في قوله: (هل يتصور ذلك الفتى أنه أصبح
عالماً ومفكراً.. وزعيماً.. وبماذا..؟ بالقتل وسفك الدماء واشعال الفتنة..
هل هذا عقل.. أم جنون؟ هل هذا رأي.. أم هلوسة مريض عقلياً؟ وليس الأمر
مرهوناً بظروف معينة.. ولكن المسألة أكبر من هذا.. المسألة باختصار.. هل
نقبل في أي زمان.. وفي أي مكان.. أن يتم تصحيح الأخطاء بإعلان
الإرهاب!!).(10)
إعادة النظر..!!
وأمام هذا الهجوم على الفيلم من قبل النقاد، ما كان من الرقابة، ومن وزير
الثقافة شخصياً، إلا أن يعيدوا النظر مرة أخرى، في تصريح الإجازة للفيلم
بالعرض، وتمثل في تقرير آخر لمديرة الرقابة.. جاء فيه: (إن الفيلم يظهر
المجتمع المصري بكل طبقاته وطوائفه في صورة سيئة.. كما جسد الإهمال في
التصدي إلى قضايا ومشاكل الجماهير، وصور الفيلم مصر، باعتبارها بيت دعارة
كبير، يديره المنتفعون والمنحرفون، ولا مكان فيه لأي قيم. كما أبرز أن الحل
النهائي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، هو في قيام ثورة دينية لتقضي على كل مظاهر
الفساد!! أما مطالب مديرة الرقابة، فهي:
·
تحقيق نوع من التوازن بين مظاهر الفساد، والمظاهر الإيجابية لمقاومة
الفساد، وتصحيح صورة المجتمع المصري.
·
تعديل نهاية الفيلم بحيث ينتصر الخير دون ثورة، حشرها المؤلف ليركب الموجة
الدينية البارزة في مجتمعنا، دون أن يحسب النتائج.
·
الحد من مظاهر الفساد المنتشرة في أكثر من 50% من مشاهد الفيلم.
·
مراعاة اظهار مصر في صورة أنظف، وعدم التركيز على القاذورات والمنازل
المتهدمة والأحياء القديمة.
وأمام مطالب الرقابةهذه، كان لا بد من إعادة الحوار بين الرقابة وأصحاب
الفيلم، للوصول إلى حل وسط، وفعلاً تم الحذف بمعرفة المنتج بشكل مرضي
للرقابة. إلا أن هناك بقيت ملاحظات أخرى، بلغ عددها 15 ملحوظة ما بين جملة
حوار ولقطة من مشهد.. ومشهد. لذلك شكلت لجنة من شيخ المخرجين والنقاد أحمد
كامل مرسي والمخرج كمال الشيخ للنظر في الفيلم وقرار الرقابة ضده، وكان
قرارهما في صالح الفيلم نوعاً ما، حين قررا: (إن
الرقابة قامت بحذف بعض اللقطات بالإتقاق مع المنتج، حتى لا ينطبع في ذهن
المشاهدين ضرورة سيطرة بعض الإتجاهات التي يرفضها المجتمع.. والفيلم كما
شاهدناه أصبح خالياً من هذه الإشارة، وإن كنا نرى حذف لقطة من الفصل الأخير
والتي تصور بعض المصلين في ثياب بيضاء في طريقهم إلى جامع الأزهر في خلفية
الكادر، وذلك حتى لا يتبقى أي إيحاء قد يثير إتجاهاً ضد الفيلم!!).(13)
أما رأي اللجنة العليا للرقابة فكان مع الفيلم بصورته الحالية، بعد حذف
الحديث الشريف (من رأى منكم منكراً...إلخ). وكان من الطبيعي أن يعترض أصحاب
الفيلم على بعض الملاحظات التي أبدتها الرقابة، حيث تقدموا بتظلمهم إلى
لجنة التظلمات للإعتراض على:
·
حذف الحديث الشريف.
·
حذف جملة وردت على لسان السكرتيرة والراقصة (أنا خريجة كلية آداب.. قسم
إنجليزي).
·
حذف كلمة شبرا من جملة (بيدن في شبرا).
وقد جاء قرار لجنة التظلمات ضد أصحاب الفيلم، وموافقاً على ملاحظات الرقابة
في الحذف. وبقرار لجنة التظلمات هذا، يسدل الستار على قضية الصدام بين
الرقابة وصناع فيلم (إنقاذ ما يمكن إنقاذه).
وربما يجد القاريء، أننا قد أطلنا في السرد لهذه القضية، ولكننا نرى أنها
قضية تمثل تجسيد صارخ عن مدى الإجحاف والظلم الذي يتعرض له الفنان والمبدع،
والذي يضطره إبداعه للتعامل مع هذه التناقضات الفكرية والإدارية الشكلية.
وأيضاً توضيح ما تعرض له سعيد مرزوق وفيلمه، من جهل وإجحاف، خلال ثلاث
سنوات، وهي الفترة بين إنتاج الفيلم وعرضه.
خطأ التعميم!!
فيلم (إنقاذ ما يمكن إنقاذه) من بطولة محمود ياسين وميرفت أمين وحسين فهمي،
ومن إخراج سعيد مرزوق، الذي كتب له السيناريو والحوار المخرج نفسه، يطرح
نماذج كثيرة للفساد والانحراف، كما يطرح فكره السياسي والاجتماعي المتعلق
بالواقع الاقتصادي وإفرازاته. وهو بذلك يفترض انهيار القيم الأخلاقية
وسيطرة رجال الانفتاح على مجريات الأمور. وهو يدعو لمحاربة هذا الفساد
وتدارك الأمر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان. وهذا بالطبع هدف
إيجابي قدمه سعيد مرزوق. كما إن أسلوبه الفني الذي اختاره لتجسيد ذلك هو
أسلوب علمي كأحد مناهج الفن السينمائي، وهو تعرية السلبيات والتنبؤ
بالأخطار التي تهدد كيان المجتمع. وهذا أيضا من حقه كفنان يقدم وجهة نظره
فيما يدور من حوله. وعلينا نحن كمتلقين احترام وجهة النظر هذه حتى لو
اختلفنا معها. فمجمل الاتهامات التي وجهت للمخرج وفيلمه هذا والتي مفادها
بان الفيلم يسيء إلى مصر والى الثورة، جميعها اتهامات باطلة. فسعيد مرزوق
قد أوضح موقفه وأكد على عدم التعميم، حيث جاء ذلك على لسان إحدى شخصياته في
الفيلم. ثم أن مقولة (الإساءة إلى مصر) أصبحت متداولة كثيراً في تلك
الفترة، بل واتخذت كسلاح فكري وإرهابي استخدمه البعض لمحاربة المختلفين
معهم في وجهة النظر. وبهذا أراد هؤلاء سلب حرية سعيد مرزوق ووسيلته في
التعبير عن وجهة نظره في المتغيرات التي ظهرت في مجتمعه. فهو بفيلمه هذا
يسلط الأضواء على نماذج وشخصيات ظهرت في مجتمع الإنفتاح، يكشفها ثم يدينها،
وليس هذا إلا اثباتاً من سعيد مرزوق على حبه وحرصه على بلده، وطموحه في أن
يرى مجتمعه خالياً من هذه السلوكيات والإنحرافات. وهذا ليس دفاعاً عن مرزوق
فحسب، وإنما دفاعاً عن حرية الفنان في التعبير عن رأيه وموقفه تجاه مجتمعه،
بشرط أن لا يتعدى هذا الرأي حدود المعقول، وأن يكون قائماً على حقائق
واقعية ملموسة، فهو بهذا يؤدي دوره كفنان مسئول من المجتمع.
وفي حديث عن هذا الفيلم يقول سعيد مرزوق: (...ان
جميع الأشخاص والسلبيات التي تعرضت لها، ليست جديدة على المجتمع، بل هي
موجودة فيه، وإن التغاضي عنها يعد كارثة. وما صورته منشور في الصحف القومية
التي يكتب فيها النقاد، الذين شنوا حملة هجوم على الفيلم (...) أما الفيلم
من وجهة نظري كمخرج، فقد أردت منه إعطاء ضوء أحمر لكل ما هو سلبي وخطير
ومسبب لأزمة!!...).(12)
أما إتهام هؤلاء بأن سعيد مرزوق قد أدان الثورة وهاجمها، فهذا أمر مردود
عليه، فكيف يكون ضد الثورة، وهي التي أعطته مقومات وجودة كمخرج وإنسان، وهو
الذي قدم واحداً من أصدق الأفلام التسجيلية عن رحيل زعيم هذه الثورة، وكيف
يمكن له أن يتنكر لهذه الزعامة. يقول سعيد مرزوق:
(...من حقي أن لا أؤيد ثورة يوليو، ومن حقي ألا أتعاطف معها.. لكنني لم
أتجاهلها.. فأمل بطلة الفيلم ترمز إلى جيل الثورة، كذلك المحافظ هو أيضاً
ينتمي للثورة، وهما من الشخصيات الإيجابية.. أيضاً ضابط البوليس...).(11)
بعد كل هذا، نأتي لنناقش سعيد مرزوق وفيلمه نقاشاً فنياً، بعيداً عن كل ما
هو خارج هذا الإطار، مع ملاحظتنا بان غالبية المقالات التي نشرت عن الفيلم،
لم تتخذ أسلوب النقد الفني، بل اهتمت بما يطرحه الفيلم من فكرة وموضوع،
بينهم من هاجم وبينهم من دافع عن الفيلم ومخرجه.
فالفيلم بشكل عام، اتصف بالمباشرة في الطرح السياسي والفكري، كما انه جاء
مشحوناً بالحوار الكثيف، مما أضعف من لغة الصورة السينمائية. فالفيلم يعلن
منذ أول مشاهده، وبشكل مباشر، عن مضمونه واتجاهه السياسي، هذا إضافة إلى
الشكل السينمائي التقليدي، حيث لم يقدم السيناريو أي جديد، لا علي مستوى
اللغة والتعبير السينمائي ولا حتى علي مستوى المضمون.
لقد اعتمد سعيد مرزوق علي نفس الأسلوب الذي قدمه من قبل في فيلمه
(المذنبون). أي انه في فيلمه (إنقاذ ما يمكن إنقاذه) قدم أيضا ما يشبه
الريبورتاج المصور، وذلك باستعراضه لما يراه هو من سلوكيات وأخلاقيات صاحبت
مرحلة الانفتاح، والتي شاهدناها في أفلام مصرية كثيرة، علماً بان مرزوق هنا
قدمها بشكل أكثر جرأة، محاولاً إلباس الفيلم ثوباً سياسياً فضفاضاً ليميزه
عن تلك الأفلام.
احتوى الفيلم علي مشاهد لم تمثل أية إضافة ضرورية لمضمون الفيلم، بل وساهمت
أيضا في ضعف السيناريو والتمطيط فيه.. مثل مشهد (الفلاش باك) الذي يصور
الباشا وهو يطبب المتظاهرين في قصره.. كذلك مشهد حلقات الذكر التي اشترك
فيها حسين فهمي وميرفت أمين.. أيضا هناك مشهد الحب التخيلي بينهما، الذي
جاء على الأرجح كضرورة إنتاجية تجارية في المقام الأول، هذا بالرغم من انه
نفذ بشكل متقن وبارع، محملاً بإيحاء جنسي مثير غير مبتذل.. هذا إضافة إلى
مشهد (الفلاش باك) الذي يظهر شخصيات الفيلم أيام زمان وهم في القارب، فقد
كان مطولاً لدرجة الملل، بالرغم من الجهد الفني المبذول من المخرج في
تنفيذه، حيث جعل مرزوق الكاميرا تدور حول القارب لتكشف عما بداخله من وراء
الملايات.. أما مشهد القبض على مسببي الفساد، فقد احتوى على الكثير من
المبالغة في الأداء وحشره بمواقف وحوار كوميدي، مما أضعف المشهد وجرده من
إيحاءاته الأساسية الجادة، مع ملاحظة إن سعيد مرزوق استخدم شخصية سمير غانم
الهزلية في محاولة منه إضفاء طابع كوميدي ترفيهي اعتقد بأنه مرغوب من
المتفرج.
عندما أراد سعيد مرزوق كتابة هذا الفيلم، حاول تلافي الانتقادات التي وجهت
لفيلمه (المذنبون) وهي عدم توضيح أسباب الفساد وكيفية مواجهته.. لذلك نراه
في فيلمه التالي يدين الفساد ويحذر من الآثار التي ستترتب عليه، بل ويدعو
في النهاية إلى مواجهته. إلا أن هذا قد أضر كثيراً بالفيلم ولم يفده،
باعتبار إن الفن بشكل عام ليس مطلوباً منه تقديم حلول، وإنما التنبيه إلى
السلبيات والمشكلات.
يقول سعيد مرزوق: (...في فيلم المذنبون لم أقدم
الحل، وتعرضت للمشكلات.. ولكنني هذه المرة أضع الحل، وأقول إنه إزاء
الظاهرة التي استشرت في البلاد، وتفاعلت وامتدت جذورها، فالأمل بالنسبة لها
ضائع، ولا وقت للدموع والتباكي عليها، إذ يجب علينا التطلع إلى الأمل
والمستقبل...).(12)
لذلك جاءت نهاية الفيلم مباشرة، عندما سيطرت السلطة الأمنية على مجريات
الأمور وألقت القبض على شلة المنحرفين. لقد أراد سعيد مرزوق أن يطرح الحلول
لكل تلك الانحرافات، ولكنه لم يوفق في ذلك فنياً، فلو انه اتخذ من التحليل
الفكري السياسي والاجتماعي عوناً في محاربته لمسببي الفساد، لاستطاع
الابتعاد عن تلك النهاية المباشرة والتقليدية التي شاهدناها كثيراً في
أفلام الانفتاح وما قبلها.
وبالرغم من كل هذه السلبيات، إلا أن هناك عناصر سينمائية أخرى استفاد منها
سعيد مرزوق في فيلمه هذا ووفق في استخدامها.. فقد كان للمونتاج دور كبير في
إضفاء نوع من التشويق والحركة على الفيلم.. كذلك التصوير حيث كانت حركة
الكاميرا متميزة بل ومبهرة في أحيان كثيرة، وتمتاز بالحيوية والخفة
والتلقائية، وذلك أثناء حركتها في المطار وتجوالها في القصر وانسيابها بين
زوايا مركز الشرطة ودهاليز المحافظة، فقد كشفت بشكل خاطف وموح، عن بعض
مشاكل المواطنين مع الروتين وانتشار الواسطة. كما أن مرزوق قد وفق إلى حد
كبير في جعله من مشهد الاغتصاب الأخير دعوة للمواطنين بالمشاركة في التخلص
من الفساد، وذلك بتجسيد هذا المشهد من خلال مكبر الصوت. فليس من الطبيعي أن
يقف أي مواطن مكتوف الأيدي أمام موقف مثير كهذا، تمثل في صرخات الاستجداء
والنجدة التي تطلقها ميرفت أمين من خلال مكبر الصوت. كما إن هذا قد فات على
الدين وصفوا الفيلم بأنه يدعو إلى الثورة والإرهاب، بتدخل المواطنين بالعصي
في النهاية.
يبقى أن نقول بان سعيد مرزوق بفيلمه هذا قد نجح في تقديم فيلم تجاري جاد،
استطاع من خلاله الجمع بين الكوميديا والرقص والحشيش، إضافة إلى النقد
الاجتماعي. في محاولة منه لتقديم توابل السينما التجارية، وإعطاء صفة
جماهيرية للفيلم وضمان نجاحه تجارياً.
أيام الرعب
-
1988
(أيام الرعب ـ 1988) هو فيلم مقتبس عن قصة قصيرة للروائي جمال الغيطاني.
وهي قصة تتحدث عن الثأر، إلا كاتب السيناريو والمخرج أضافا بعداً جديداً
عندما جعلا للخوف أبعاداً ميتافيزيقية عميقة عمق التاريخ المصري.. فالخوف
من الماضي والمجهول إنما له جذوره التاريخية القديمة.
نحن هنا أمام شخصية محروس (محمود ياسين)، ابن الصعيد النازح هرباً إلى
القاهرة منذ عشرين عاماً، خوفاً من الثأر الذي سيكون هو ضحيته في النهاية.
أما الآن فهو يعمل في المتحف المصري، ويعيش حياته الطبيعية، ناسياً أو
متناسياً كل ما يتعلق بقضية الثأر القديمة. وعندما يبدأ بالتخطيط لحياة
زوجية سعيدة مع من يحبها، يصله خبر خروج عويضة (طالب الثأر) من السجن ويعرف
عن عزمه في الأخذ بالثأر منه. هنا يبدأ محروس باستعادة تلك الصور البشعة
التي احتفظ بها في ذاكرته كل هذه السنين عن عويضة وهو يقطع رأس أحد الأطفال
ويلقي بها من أعلى. وبالرغم من أحاديث محروس عن الخوف وموقفه الإيجابي
اللامبالي تجاه الخوف، والذي يتجسد في حثه لدرديري على مواجهة خوفه
والانتصار عليه، إلا أن خبر خروج عويضة من السجن يهزه من الأعماق، بل
ويجعله يقع فريسة نفس الإحساس بالخوف. وبالتالي يتحول ـ وبشكل مفاجئ ـ من
إنسان طبيعي إلى إنسان أشبه بالحيوان المذعور. حيث تبدأ مخاوفه في التنامي
مع كل لحظة وكل خطوة. ونراه يترك وظيفته ويترك العالم أجمع من حوله ويعتزل
الحياة هرباً من مصيره المحتوم. مما يعني بأن محروس لم يتخلص تماماً من
الخوف القديم، وإنما ظل هذا الخوف كامناً في داخله كل هذه السنين. إلى أن
يدرك في النهاية بأن الحل هو مواجهته لهذا الخوف ومحاولة التغلب عليه حتى
ولو كان في ذلك نهايته. فينطلق وهو في حالة هستيرية لملاقاة غريمه، حيث
تكون النهاية مصرع الاثنين.
ينبغي الإشارة أولاً، بأن الخوف هو الموضوع الأهم الذي حظي باهتمام المخرج
سعيد مرزوق.. فمنذ بداية مشواره مع الإخراج، كانت فكرة الخوف تسيطر على
غالبية أعماله الفنية، وكانت قضيته الرئيسية في السينما. فقد كان للخوف شكل
اجتماعي ونفسي آخر تجسد في ذلك القلق والشك الذي بدى في فيلمه الأول (زوجتي
والكلب ـ 1971).. كما أن الخوف جاء بشكل أعمق وصريح في فيلمه الثاني (الخوف
ـ 1972). ويدور محور فيلمه التليفزيوني القصير (أغنية الموت) حول فكرة
الخوف أيضاً.
أما في فيلمه (أيام الرعب)، فقد تناول فكرة الخوف بشكل أكثر تركيزاً، حيث
تناول الرعب الذي ينتاب الإنسان في خوفه من المجهول الذي يطارده، ويتفرع
منه إلى عدة أشياء أخرى، أهمها أنه يتصاعد حتى يصل إلى ما يخيف الإنسان
ويقلقه في حياته ومستقبله. لقد أصبح الخوف في هذا الفيلم إلى (...خوفاً
شاملاً.. خوفاً من أي شيء.. من كل شيء.. من خارج أو من داخل الإنسان...).
ومن الواضح بأن الفكرة التي تناولها سعيد مرزوق في فيلمه هذا، هي فكرة
جيدة، إلا أنها جاءت بسيناريو تقليدي في معظمه. هذا إضافة إلى احتوائه على
ثغرات فنية، أهمها ذلك التغيير المفاجئ الذي حدث للشخصية المحورية.. من
الثقة التامة بالنفس والجرأة الزائدة في مناقشة أسباب الخوف، إلى النقيض
تماماً. فقد كان من الطبيعي بأن تعالج الشخصية في البداية بشكل درامي يوحي
بأنها تعيش حالة من القلق أو شيء أقرب إلى الخوف. خصوصاً وأن هذا التحول
المفاجئ قد جاء مباشراً. كما أن النهاية المباشرة للفيلم والمبالغ فيها إلى
حد كبير، قد جاءت لتنسف الكثير من الأفكار الجيدة التي سعى الفيلم إلى
إيصالها إلى المتفرج.
كما لا ننسى الإشارة إلى أن المخرج قد نجح في اختياره لمكان التصوير، حيث
تدور الأحداث في القاهرة القديمة (حي الحسين + خان الخليلي). وهو اختيار قد
أضفى بعداً تاريخياً ونفسياً موحياً خدم الفيلم وموضوعه كثيراً، حتى أن
المخرج عندما خرج بالكاميرا من تلك الأحياء القديمة، انتقل بها إلى المتحف
المصري متنقلاً بين آثار الفراعنة والمماليك، حيث اعتبر هذه الآثار هي
المسئولة عن زرع بواعث الخوف في أعماق الشعب المصري..
(...قصدت بقدم المكان هو قدم الخوف المسيطر علينا..
أما الناحية الحضارية فقد كانت موجودة في الشخصيات.. في الأفكار والملابس
والسلوك.. أما المكان فوظيفته إضفاء ذلك العمق التاريخي على فكرة
الخوف...).(14)
ثم لابد إلى التطرق إلى العنصر الأهم في هذا الفيلم، ألا وهو التصوير، حيث
كانت كاميرا مدير التصوير المتميز طارق التلمساني هي البطل الحقيقي في
الفيلم. فقد لعبت الكاميرا دوراً حاسماً في تعميق الأحداث درامياً، وتجسيد
كافة المشاعر والأحاسيس الملازمة للخوف، والذي تجسد في مشاهد كثيرة، أهمها
ذلك المشهد الافتتاحي في الصعيد، حيث كانت اللقطات وزوايا التصوير مدروسة
بعناية فائقة شملت تكوينات جمالية إبداعية للكادر، ذكرتنا بمشاهد من الفيلم
الأسطورة (المومياء) للعبقري شادي عبد السلام. كما أنها (الكاميرا) كانت في
حركة دائمة، منسابة بتلقائية وسلاسة من خلال حركات بانورامية سريعة
وشاريوهات جميلة وممتازة. وبذلك استحق الفيلم جائزة التصوير في مهرجان
عنابة بالجزائر.
وختاماً.. لا يسعنا إلا القول بأن سعيد مرزوق فرصته في أن يخلق من فكرته
الجيدة للفيلم، فيلماً جيداً ومتميزاً.. وقدم فيلماً تقليدياً أضاع الكثير
من إمكانيات هذه الفكرة الفنية.
هدى ومعالي الوزير
-
1994
فيلم (هدى ومعالي الوزير ـ 1995) من بطولة نبيلة عبيد ويوسف شعبان ومجموعة
كبيرة من نجوم السينما المصرية. وهو لا يختلف كثيراً عن نوعية الأفلام
المصرية التجارية. ولا نعني بتسمية الأفلام التجارية هي الأفلام الرديئة أو
الهابطة، وإنما الأفلام التي مجمل الأفلام التي تسعى إلى الجمهور العريض
بأي طريقة ممكنة، بقض النظر عن مستوى الفيلم الفني والتقني. وهذا يعنى
بالطبع في أنه يمكن أن يكون الفيلم ذو مستوى لا بأس به فنياً وتقنياً، وفي
نفس الوقت ينجح جماهيرياً.
يحكي الفيلم عن هدى (نبيلة عبيد) البنت الفقيرة والتي تعيش في أحد الأحياء
الشعبية في القاهرة، إلا أن الفرصة تأتيها للزواج من أحد المليونيرات العرب
لترجع إلى مصر وهي محملة بالملايين. وتبدأ في الشروع بتأسيس شركة مقاولات
لبناء المساكن الشعبية. ولأنها تريد الطريق الأقصر للشهرة، فهي تعرف كيف
الوصول إليه. فتجمع عدداً من أفراد أسرتها الذين يعيشون حياة الصعلكة
والنصب والاحتيال، وتغير من هيئاتهم وهندامهم وتلبسهم أفضل الملابس وتشركهم
معها في الشركة لحمايتها من الطامعون فيها. كما تبحث عن مجموعة من الفتيات
الجميلات وتلبسهم على الموضة ليعملن في السكرتارية وليكن عوناً لها في
تسيير أمورها الرسمية مع المسؤلين في الدولة. وتبدأ في البحث عن معلومات
دقيقة عن شخصيات معروفة، تعرف مسبقاً بأنها ستستفيد منها كثيراً. الشخصية
الأولى هو أحمد بيه (يوسف شعبان) محامي معروف وعضو مجلس الشعب وله اتصالات
قوية مع الكثير من الشخصيات المهمة في الدولة. وفي حفل افتتاح الشركة تتعرف
هدى على أغلب الشخصيات المرموقة في البلد، وذلك بفضل أحمد بيه. هنا يصبح كل
شيء واضح للمتفرج، وهو إن هدى أسست هذه الشركة لتقوم على الغش والتزوير.
وتبدأ الإعلان عن شركتها في الصحف والمجلات، أما ف التليفزيون فيكون
الإعلان على صورة لقاء تليفزيوني مع هدى تبين فيه المميزات المغرية التي
ستمنحها للمواطن الذي سيستأجر شقة في مشروعاتها الإسكانية. ومن الطبيعي أن
يصدق هذا المواطن البسيط كلام سيدة الأعمال هدى خصوصاً بأنها تتحدث من جهاز
حكومي خطير كالتليفزيون.
أما بالنسبة لزوجها الذي تركته في بلده، فهو يفكر في الهروب من بلده وطلب
اللجوء السياسي في مصر، خصوصاً بأن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين
مقطوعة. وهو يعتقد بأنه بهذا الأمر سيكون قريباً من زوجته هدى، إلا أنها
تعرف بأنه سيتعبها كثيراً إذا أصبح بقربها في مصر، فتدبر للتخلص منه، وذلك
بالتبليغ عنه لدى حكومته. وبعد عودتها إلى مصر تطلب الطلاق من المحكمة التي
تطلقها غيابياً بسبب سجن زوجها في بلده.
وبعد أن تستقر إمبراطورية هدى، تظهر الصحفية أماني (تهاني راشد) لتنبش في
دفاتر هدى وشركتها لتكشف النصب والتزوير الذي قامت عليه هذه الشركة، وتنشره
في الصحيفة. وبالرغم من أن هدى تستخدم كل الطرق الشرعية وغير الشرعية، إلا
أن المحكمة تحكم لصالح الصحفية أماني لحوزتها على كافة الأدلة والمستندات
التي تدين هدى وشركتها. فنرى كيف تنهار الشركة بنفس السرعة التي قامت بها.
أما سيدة الأعمال هدى، فهي تهرب إلى الخارج بمساعدة سعادة الوزير أحمد بيه،
وتنجو من القضاء.
هذه هي أحداث فيلم (هدى ومعالي الوزير) التي نرى بأنها تشكل تحذيراً واضحاً
لقدرة الجهاز الإعلامي، وبالأخص التليفزيون، على التأثير في المتفرج
مباشرة. لذلك يجب التأكد من أي خبر أو إعلان أو حتى معلومة صغيرة قبل بثها
على المتفرج. هذه هي الفكرة الرئيسية التي نستخلصها من الفيلم. وهي معلومة
إيجابية صغيرة، إلا أن صانعي الفيلم قد دخلوا في متاهات الدراما التقليدية
وصنعوا فيلماً طويلاً يدور حول هذه المعلومة الصغيرة. وقد جاء في عناوين
الفيلم بأن القصة السينمائية والسيناريو والحوار لهذا الفيلم كتبها سعيد
مرزوق بالإضافة إلى الإخراج، عن قصة للكاتب نبيل خالد. وهذا يعني بأن
الفيلم يتحمل عبئه الأكبر سعيد مرزوق لوحده.
وإذا أردنا أن نتحدث عن السيناريو، فيمكن القول بأنه سيناريو ضعيف يحتوى
على الكثير من السلبيات، التي أدت إلى هبوط مستوى الفيلم. فهناك أحداثاً
وشخصيات رئيسية بدت مفبركة وغير منطقية ولم ينجح سعيد مرزوق في رسمها.
فمثلاً الطريقة الساذجة التي بدأ بها الفيلم أحداثه لم تكن مقنعة تماماً.
فكيف علينا أن نصدق بأن الإنسان في غمضة عين يمكن أن يصبح صاحب ملايين،
وبهذه الطريقة التي حدثت لهدى. وقد أضحكتني حقاً تلك الحيلة الساذجة التي
حبكتها هدى وزوجها على مديرها في العمل لإجباره على السفر بدونها. شعرت
وكأنني أمام مشهد فكاهي وتافه أيضاً. ثم كيف يريد أن يقنعنا السيناريو بذلك
التحول الذي حدث لأقارب هدى. كيف لنا أن نؤمن بمنطقية أن نجلب إنساناً من
الشوارع والحواري ونقول له بأنك مسئول عن شركة كبيرة. خصوصاً وإن هؤلاء
الأقارب قد أظهرهم الفيلم كمعتوهين وسذج لا يعرفون أي شيء في شؤون البزنس،
إضافة إلى الصبغة الكوميدية التي أضفاها عليهم رغبة في إضحاك المتفرج، دون
مراعاة بأن ذلك سيضر ببناء الشخصية نفسها. ثم أن كثير من المشاهد والأحداث
قد قدمها الفيلم بشكل تقليدي مباشر، وغالباً ما تكون المباشرة مقتلاً للفن،
حيث ضياع الجانب الجمالي التخيلي.
هذا بالنسبة للسيناريو، أما بالنسبة للإخراج والنواحي الفنية الأخرى، فسعيد
مرزوق بخبرته وموهبته الفذة استطاع أن يحرك كاميرته بشكل ملفت ويقدم زوايا
تصوير جميلة ومعبرة في بعض الأحيان، فكان للإضاءة دوراً فعالاً في التعبير
في مشاهد كثيرة. ولولا ضعف السيناريو والحوار لكان بإمكان سعيد مرزوق أن
يقدم تكوينات جمالية تعبيرية مؤثرة. صحيح بأن سعيد مرزوق قد نجح في إدارة
من معه من فنيين وفنانين، إلا أن هذا الجهد قد ضاع أيضاً في تجسيد فكرة
وسيناريو ضعيف.
خاتمة:
بهذا نكون قد أشرفنا على نهاية موضوعنا هذا، والذي كان الهدف منه، الدخول
في عالم سعيد مرزوق الفكري والفني، ورصد كامل لمسيرته السينمائية. وقبل
إنهاء هذا الموضوع، كان لا بد من الإشارة إلى نتيجة هامة فرضت وجودها،
وبرزت أمامنا أثناء متابعتنا لمسيرة هذا الفنان.
فسعيد مرزوق هو الذي قدم بفيلمه الأول (زوجتي والكلب) شكلاً سينمائياً
جديداً، كان بمثابة مفاجأة للوسط السينمائي المصري والعربي، حيث استطاع من
خلاله تقديم مستويات جديدة ومبتكرة في لغة السينما، إلا أننا لاحظنا، بأنه
بدأ يفقد هذه الروح التجديدة فيلماً بعد الآخر، فبدلاً من تطوير وخلق
أساليب جديدة بكل فيلم يقدمه، نراه يعتمد على الشكل السينمائي التقليدي، في
تجسيد مواضيع جماهيرية جادة، رغبة منه في مخاطبة الجماهير العريضة على حد
قوله. وفي اعتقادي أن هذا لا يعد تبريراً منطقياً في تدني مستوى الشكل
السينمائي لأفلامه. فلماذا لا يكون هناك أسلوب سينمائي تقني متطور، لتقديم
موضوع جماهيري وجاد في نفس الوقت؟ هذا هو السؤال المطروح في هذه الفترة
أمام المخرجين، والسينما المصرية بشكل عام.. فمن المعروف بأن السينما
العالمية قد تخطت هذا الموضوع منذ سنوات طويلة.
إذن.. الأجدر لسعيد مرزوق وغيره من مخرجي السينما المصرية والعربية عموماً،
الاهتمام بهذا الجانب الهام في السينما، والارتفاع بمستوى أفلامهم الحرفي
والتقني، حتى لا يخسروا هذا الجمهور، الذي جعلوه شماعة يعلقون عليها
أخطائهم، والذي بدأ يرتقي بقدراته التذوقية واهتماماته الفنية. |