مجمل الأعمال التسجيلية القصيرة أكسبت المخرج سعيد مرزوق خبرة سينمائية،
أهلته للتحضير
لأول أفلامه الروائية الطويلة (زوجتي والكلب - 1971)، والذي سنتوقف كثيراً
أمامه، فهو يعد من بين الأفلام
القليلة - بل والنادرة - التي مازالت حاضرة في ذاكرة الجمهور والسينما على
السواء
.فيلم
مازال يحتفظ بنفس البريق الأخاذ، ويشكل بحق علامة بارزة في تاريخ السينما
المصرية. هذا
الفيلم، الذي أحدث انقلابا فنياً خطيراً في موازين لغة السينما المصرية
آنذاك،
حيث استطاع سعيد مرزوق - بهذا الفيلم - أن يحطم الكثير من قيود وتقاليد
السينما
المصرية المتوارثة منذ بدايتها، وقدم فيه مستويات جديدة في اللغة
السينمائية، من
سيناريو ومونتاج وتصوير وإخراج.
كتب السيناريو والحوار لفيلم (زوجتي والكلب) سعيد مرزوق،
إضافة إلى الإخراج.. ولكن لظهور مثل هذا الفيلم إلى النور، كان لابد من
وجود منتج
فنان، منتج جاد وجريء، ليقدِم مخرجاً جديداً وفيلماً جريئاً كهذا.. فكان
هذا
المنتج هو الفنان المبدع عبدالعزيز فهمي، وهو منتج ساهم - من قبل - في ظهور
العديد
من المخرجين الجدد والأفلام الجادة والجيدة، كـ"المومياء"، و"المستحيل"..
وغيرهما.
يقول عبدالعزيز فهمي: (...بالنسبة لفيلم "زوجتي والكلب".. كان تجربة
حقيقية، لإكتشاف العديد من القضايا التي تلح على الفيلم الجديد.. وفي
تقديري أن في مقدمة هذه القضايا جميعاً، قضية المخرجين الجدد.. فهنا نلتقي
بمخرج شاب يقدم فيلماً سينمائياً لأول مرة، وتحس به كعملاق، وأنا أحسست به
لأول مرة، أحسست أن في داخله طاقة قوية على العطاء.. والفنان الحقيقي في
تقديري يولد عملاقاً!!...).(2)
ويقول المخرج الأمريكي روبرت فريمان: (...إنتهي عصر الحدوته، ولم يعد للسرد
الأسطوري في الفيلم أي مكان.. مثلما أصبحت لغة الديكورات الفخمة والمناظر
المبهجة، والخدع بألوانها في خبر كان.. فيلم الييوم أصبح كالحياة نفسها، في
قلقها، في تنوعها، في عدم تسلسلها، في عدم خضوعها لخطة منطقية على وتيرة
واحدة. أصبحت الصورة بكل مستوياتها وتدرجاتها، هي سيدة الموقف: الصورة
تفرزها ألف عين في لحظة واحدة، وبألوان متنوعة متغيرة!!..).(3)
سعيد مرزوق، عندما أراد أن
يقدم فيلمه الأول، قد أخذ بعين الاعتبار أن يكون هذا الفيلم كالحياة نفسها،
في
قلقها وتنوعها وعدم تسلسلها، وفي عدم خضوعها لخطة منطقية على وتيرة واحدة.
وكان حريصاً على أن تكون الصورة - بكل مستوياتها وتدرجاتها - هي سيدة
الموقف. حيث أننا نلاحظ ، في (زوجتي والكلب)، بأن السيناريو لم يكن إلا
وسيلة لصناعة الصورة
السينمائية وتشكيلها، خصوصاً إن مرزوق قد ابتعد عن السرد والحكاية
التقليدية،
وأخضع المعاني للغة الكاميرا. كما أنه ابتعد عن تراكم الأحداث والعلاقات،
وركز
على الانفعالات والأحاسيس داخل الإنسان نفسه.. حيث أعتبر هذا الفيلم محاولة
ناجحة
من سعيد مرزوق للدخول في أعماق النفس الإنسانية للشخصية المحورية، وذلك من
خلال
شخصية الريس مرسي (محمود مرسي).. فنحن هنا أمام شخصية مريضة نفسياً وأسيرة
للهواجس وأحلام اليقظة القاتلة، فهو في وحدته يتصور بأن زوجته (سعاد حسني)
تخونه
مع أعز أصدقائه وزميله في العمل (نور الشريف)، رابطاً بين هذا الفعل وبين
مغامراته
السابقة مع زوجات أصدقائه، والتي رواها مرة لصديقه هذا. وحول هذه الشخصية
تتشابك
العلاقات وتدور أحداث الفيلم، والتي تجري في فنار مهجور، يعمل فيه رجال
قساة
الوجوه، يحيون بعيداً عن بهجة المدينة وفرح الأهل والأصدقاء.. ومن الطبيعي
أن
تكون هذه العزلة، والتي تتطلبها ظروف عملهم، سبباً في تكثيف حرمانهم وتصعيد
واجسهم وقلقهم حتى الذروة.
لغة جديد:
أما بالنسبة للغة الإخراج في (زوجتي والكلب)، فقد كانت جديدة ومبتكرة إلى
حد كبير، حيث استطاع سعيد مرزوق، من خلال لغة الصورة، تقديم مشاهد تمتاز
بالبساطة في الشكل، لكنه ضمَّنها شحنات فكرية عميقة، ذات
دلالات رمزية أحياناً، وأحياناً أخرى تحمل دلالات كوميدية ساخرة، مبتعداً
بذلك عن
أي افتعال أو تعقيد. كما إنه، وبأسلوبه الجديد هذا، قد حطم ذلك الأسلوب
التقليدي
التتابعي في الإخراج، وحاول السير على نهج الفكر الجديد في السينما، والذي
يعتمد
أساساً على الصورة كسبيل لمخاطبة المتفرج، مستعيناً عن الحوار بإيماءات
الصورة
وتلميحاتها.
ومما لاشك فيه، بأن تعاون سعيد مرزوق مع عبدالعزيز فهمي قد أثمر
فيلماً جديداً وجميلاً، كان بمثابة مفاجأة حقيقية للوسط الفني والسينمائي
المصري
آنذاك. فقد وجد عبدالعزيز فهمي في هذا الفيلم ـ أيضاً ـ ما يطمح أليه هو،
حيث أن
هذا الفيلم كان مناسبة لإبراز إمكانياته وقدراته الفنية في التصوير، علماً
بأنه
يعد من أبرز وأهم مديري التصوير العرب وأكثرهم خبرة، وهو بهذا الفيلم يقدم
نموذجاً هاماً وملفتاً بالنسبة للصورة السينمائية وتطويرها في مصر والوطن
العربي، وهو ـ
أيضاً ـ باجتهاده الفني هذا، يعطي مفاهيم وموازين جديدة للصورة السينمائية
في
الفيلم العربي، كما إنه يقدم بلورة شاملة لفهمه بتكوين الصورة في السينما
الحديثة.. حيث برز هذا بشكل واضح في فيلم (زوجتي والكلب)، فقد كان للصورة
دوراً هاماً
في إبراز الحالة النفسية لشخصيات الفيلم وتجسيدها في كادرات قوية وجميلة
وممتعة،
كان للإضاءة فيها دوراً درامياً خلاقاً.
لقد اشترك الاثنان، سعيد مرزوق وعبدالعزيز فهمي، في فيلم (زوجتي والكلب)،
في
تقديم فيلم متكامل يحوي مشاهد قوية ومعبرة وجميلة كثيرة، أهمها: المشاهد
الشاعرية الشفافة التي تجمع الريس مرسي وزوجته في الفراش.. أيضاً مشهد عودة
الريس مرسي إلى
الفنار، وفرحة الأصدقاء برجوعه إليهم، فهي ـ حقاً ـ فرحة يشترك فيها البحر
والكلب والأصدقاء، بمصاحبة توليف متقن للمونتاج، ساهم كثيراً في تجسيد هذه
الفرحة
وصياغتها بشكل موحي ومؤثر. وهناك أيضاً مشاهد الفلاش باك، التي عاشها الريس
مرسي
مع زوجته، ومقارنتها باللحظات الآنية التي يعيشها في بعد وحرمان ولوعة في
هذا
المكان البعيد والمقفر. كما أن المشاهد التي تناولت حالة الحرمان الجنسي
لدى (نور
الشريف)، قد استطاعت أن تجسد بحق أحاسيس القلق والفراغ، فقد كان التركيز
على
الصور العارية إيحاءً موفقاً للوسيلة الخاطئة التي اتخذها نور لإشباع
رغباته الجنسية. كما لا تفوتنا الإشارة إلى أن استخدام سعيد مرزوق للجنس
كان ذكياً، ولم
يكن ـ قط ـ مبتذلاً.. بل إنه كان تعبيراً موفقاً عن الوحدة والحرمان وأزمة
الإنسان
في بُعده عن أقاربه والمدينة، ووجوده في عزلة قاتلة كهذه. ثم أن سعيد مرزوق
قد
استحدث تقليداً جديداً في الفيلم المصري، وذلك عندما وصلت للريس مرسي رسالة
من
زوجته، فنراها وهي بجواره تقرأ له بصوتها وبجسدها.. دلالة على قربها منه
ومن
واقعه ولا تنفصل عنه كإحساس وشعور. كذلك مشهد قصاصات الصور العارية وهي
عائمة على سطح البحر، وتخيُل نور بأنها حقيقية قافزاً معها ومداعباً إياها
في البحر.. حقاً، إنه أسلوب جديد ومعبر تماماً عن تلك الحالة من القلق
والحرمان الجنسي الذي يعيشه
نور.
الكلب.. رمزاً وبطلاً:
لقد استخدم سعيد مرزوق شخصية الكلب بشكل موفق، حيث أعطاها أبعاداً كثيرة،
لتصبح رمزاً وبطلاً حقيقياً وهاماً في فيلمه هذا.. فقد كان رمزاً لوحشية
الإنسان
وبدائيته مثلما كان رمزاً للإخلاص والوفاء والطيبة.. كذلك أظهره للدلالة
على الشبق
الجنسي، وذلك عندما يقارن ـ في مشهد معبر ـ بين لسانه ولسان نور وهو يشاهد
الصور
العارية على مائدة الطعام. كما أن مرزوق عن، دما يظهر الريس مرسي وهو يضرب
الكلب
بقسوة، يشير إلى أن الكلب هو أقرب لمرسي مثل صديقه نور، وبالتالي يكون
بمثابة المتنفس الوحيد لغضبه من صديقه وشعوره بالضياع والحرمان.
أما بالنسبة لاختيار
مرزوق لأماكن التصوير، فقد كان ذكياً وموفقاً ولصيقاً بمضمون أحداث الفيلم،
ولم
يكن مجرد خلفية إضافية تتحرك فيها الشخصيات.. فالبحر، بكل ما يحمله من رموز
وإيحاءات، قد أعطى إحساساً بجو الرهبة والقلق والمجهول، خصوصاً أثناء
هيجانه
وتلاطم أمواجه بأحجار الشاطئ.. هناك ـ أيضاً ـ الفنار الذي يمثل دليل
الهداية
للسفن الضالة ويشكل ـ في نفس الوقت ـ السجن والمنفى المعزول عن العالم
بالنسبة
لشخصيات الفيلم.. وهذه، في مجملها، إيحاءات تناسب وتقوّي المضمون والسرد
الدرامي
للفيلم، بل وتساهم في تجسيد حالات القلق والتوتر والحرمان التي تعيشها
شخصيات الفيلم.
كما لا تفوتنا الإشارة إلى أن استخدام سعيد مرزوق للمونتاج جاء موفقاً
إلى حد كبير، وكان له الدور الأساسي والبارز في تحليل الشخصيات وخلق حالات
وعلاقات
متباينة بين المشهد والآخر، إضافة إلى خلقه لذلك الإيقاع المشوق في الفيلم
ومساهمته في تصاعد الحدث الدرامي.
حقاً.. نحن أمام فيلم سينمائي متكامل إلى حد
كبير، فجميع عناصر الفيلم الفنية والتقنية تجانست بشكل مدروس لتشكل وتعطي
عملاً
قوياً وجميلاً ذو مستوى فني وتقني جيد، استطاع ـ بحق ـ أن يجد له مكاناً
هاماً
وبارزاً في ذاكرة السينما المصرية.
يقول سعيد مرزوق عن أول أفلامه الروائية: (...زوجتي والكلب، كان بالنسبة لي
فرصة حقيقية لإثبات وجودي كمخرج جديد في عالم السينما، يهمه اظهار شكل بعيد
عن الحدوتة التقليدية، كان الفيلم ترجمة لأحاسيس إنسان بالصورة، وكانت
تجربة جريئة وصعبة، بعدها بدأ الإحساس بالصورة يتخذ شكلاً جديداً في الفيلم
المصري، من خلال تجارب المخرجين الآخرين.. انني أعتبر هذا الفيلم بداية
لموجة جديدة، برغم أن نسبة التجديد والإبتكار فيه 50% فقط، بينما كان في
ذهني أن يكون التجديد شاملاً ولكننا اضطررنا لذلك!!...).(6) |