في فيلمه الثاني (الخوف – 1972) يعبر سعيد مرزوق بلغة السينما، ويتحرر مرة
ثانية من أسوار الحدوتة التقليدية.. ويحاول الإنطلاق إلى أعماق الإنسان
ومكنوناته. فالإنسان عند سعيد مرزوق هو الموضوع الأهم، ومن خلاله يمكن
تناول مواضيع كثيرة مهمة.
فيلم (الخوف)، يعد من أبرز الأفلام المصرية التي تناولت موضوع الخوف بطريقة
مختلفة عما سبق من أفلام مصرية، واستخدام لغة الصورة السينمائية، في
التعبير عن ذلك، حيث كان الفيلم محاولة ناجحة إلى حد كبير، للانطلاق إلى
أعماق النفس البشرية والبحث في مكنوناتها. متحرراً من أسوار الحدوتة
التقليدية.
فالفيلم يقدم الإنسان في صراعه مع الخوف.. الخوف من الحاضر، الذي يحمل
تساؤلات
كثيرة دون إجابات.. الخوف من المستقبل المجهول، وما سوف يحمله من أحداث
ومفاجآت.. الخوف من الموت والخراب، الذي يتجسد في الحرب. وكل هذه أشكال
متعددة للخوف، تناولها سعيد مرزوق في فيلمه هذا، والذي دعا فيه ـ أيضاً ـ
الإنسان بمحاربة خوفه
الاجتماعي والنفسي، حفاظا على إنسانيته.
لقد تعرض مرزوق في (الخوف) لأعنف
الاهتزازات التي واجهها الشعب المصري، والشعب العربي بشكل عام، إثر هزيمة
يونيو 67. فهو يقدم لنا قصة فتاة (سعاد حسني) نزحت إلى القاهرة بعد أن قاست
مرارة وقسوة
العدوان على مدينتها السويس.. هذه المدينة التي أصبحت، بفعل الحرب، مجرد
أطلال
وحطام من المساكن، اختلطت بجثث أهلها وأصدقائها وذويها. وهي تأتي للقاهرة،
مع
الكثيرين من المهجرين والمغتربين، لتجدها مدينة مزدانة بالأضواء ومزدحمة
بالمقاهي
العامرة.. الحياة العامة فيها طبيعية، لا يعكر صفوها سوى ذكرى العدوان
الغاشم. تلتقي بمصور شاب (نور الشريف) في أحد معارض الصور الفوتوغرافية،
والتي يطل بها أهل
القاهرة على مأساة وبشاعة الحرب من خلال هذه الصور، دون العيش في المأساة
نفسها. تبدأ بين الاثنان قصة حب رقيقة.. استطاع سعيد مرزوق أن يقدمها في
إطار إنساني شاعري.. دون أن ينسينا الحدث الأهم، فهو يذكرنا دائماً بآثار
الحرب النفسية على بطلته، والمتجسدة في الخوف الساكن في أعماقها. إن سعيد
مرزوق يضعنا بصدد مقارنة بين هذه
الفتاة المنكوبة، والتي عاشت مأساة الحرب واكتوت بنارها، وبين أناس يعيشون
حالة الطمأنينة المزيفة، متناسين قرب النار منهم، وإن عليهم أخذ الحذر منها
ومقاومتها.
وفي الجزء الأخير من فيلمه (الخوف)، يتخذ سعيد مرزوق من حارس العمارة رمزاً
لمصدر الخوف الذي تعيشه مصر وبطليّ الفيلم في نفس الوقت، فالحارس هو الذي
يهدد خلوتهما ويخلق لديهما الإحساس بالخوف، إضافة إلى استفزاز الخوف الكامن
في أعماق الفتاة، ومن ثم تفجير خوفها هذا في وجه الشاب، واتهامه بالسلبية
والجبن، وبالتالي استفزازه هو أيضاً وهجومه على الحارس والقضاء عليه.
لقد أراد سعيد مرزوق
- هنا - الإيحاء بأن التخلص من الحارس يعتبر تخلصاً من الخوف وهزيمة
الهزيمة نفسها. إلا أن مرزوق قد أخفق في ما أراده، وكان تعامله مع الحارس
خارجياً فقط، متناسياً المضمون الاجتماعي والنفسي الذي تجسده شخصية الحارس،
وبأنه - في النهاية
- مجرد إنسان خاضع لنفس ظروف القهر والخوف التي يخضع لها البطلين. لذلك
جاءت
النهاية مباشرة وساذجة بعض الشيء، بل وتذكرنا بالقصص الكلاسيكية
الرومانسية، والتي تنتهي عادة بانتصار المحب على الشر وتخليص حبيبته من
براثنه، ومن ثم نهاية
سعيدة بزواجهما.
بالرغم من النهاية السعيدة في فيلم (الخوف)، والتي أضرت بالفيلم كثيراً،
إلا أن
سعيد مرزوق قد نجح في تجسيد الخوف الذي يسكن داخل الإنسان ويسيطر على
تفكيره، ويجعله عرضة للكوابيس والأحلام الزائفة.. فهو هنا يحدثنا حديثاً
سينمائياً، يعتمد
على الصورة السينمائية، بحيث لا تحتاج لحوار لغوي لفهم واستيعاب المشاعر
والمواقف
التي توحي بها هذه الصورة، حيث أنه استطاع أن يسخر لغة الصورة ويوظفها
لخدمة المضمون العام في الفيلم. كما أن الحوار، الذي كتبه مصطفى كامل، كان
ذكياً
ومركزاً يبتعد عن المباشرة والتطويل، ونجح في إثارة الكثير من المشكلات
الاجتماعية.
ويبقى أن نقف وقفة تأملية لما قدمه سعيد مرزوق، من لمحات ومميزات فنية
وتكنيك
سينمائي جديد، شاهدناه في الكثير من المشاهد.. كان أهمها: مشهد الحلم
المشترك للعاشقين وهم يمارسان الحب على ورق الصحف الملقاة على الأرض،
وإظهار لقطات تبين عناوين مثل لا قيود على الحريات الشخصية، وعناوين عن
الحرب والقتال مع إسرائيل، وعناوين أخرى عبرت بصورة خلاقة من غير كلمة حوار
واحدة. كذلك التناقض في شريط
الصوت والصورة، في مشهد وصف الشاب لشقته في البنسيون أثناء حديثه في
الهاتف، استخدمه مرزوق بشكل موفق، متخذاً من الصورة تجسيداً حقيقياً لهذا
الوصف. وهناك
أيضاً المشهد الذي يطلب فيه
الشاب من الفتاة أن تشاهد القاهرة من خلال المنظار، حيث نعرف بأنها لا ترى
سوى الخراب الذي حل بمدينتها، فهذه المأساة التي عاشتها
تسيطر عليها ولا تجعلها ترى سوى شيء واحد، هو مدينتها المنكوبة، والقريبة
جداً من
وجدانها. أما المشهد التخيلي لذهاب الفتاة إلى البنسيون، فهو مشهد مكرر
لمشهد وصف
الشاب له، وكان من الأفضل اختصاره أو حذفه. وقد جاء اختيار سعيد مرزوق
للعمارة (تحت الإنشاء) الغارقة بين أكوام الحجارة والرمال وسقالات البناء،
لتكون ميداناً
لأحداث النصف الثاني من الفيلم، اختيارا موفقاً وذكياً منه، حيث المقارنة
بين كل
هذا وبين الخراب والدمار في مدينة السويس، والتعبير عن حالة الخوف التي
ساهمت في تجسيدها حركة الكاميرا السلسة وزوايا التصوير المدروسة بعناية،
هذا إضافة إلى المؤثرات الصوتية. أما اختياره لشخصية البطل كمصور صحفي، فلم
يكن اختياراً
عشوائياً أو اعتباطياً، وإنما جاء ليكون - هذا الصحفي - شاهداً على
الأحداث، دون
المشاركة الفعلية فيها بالطبع.
ومع كل هذا المستوى الفني والتقني، الذي
جسده سعيد مرزوق في (الخوف)، إلا إننا نلمس ذلك البطء والرتابة في أحداث
الفيلم، مما أفقده عنصري التشويق والمتابعة. وربما يكون هذا البطء مقصوداً
من قبل
المخرج، إلا أنه في فيلم (الخوف) قد تناول موضوعاً حساساً ومهماً، قد جعله
عرضة لتدخل الرقابة الرسمية، التي حذفت مشاهد كاملة من الفيلم، وكان لها
دور في وصول
الفيلم إلى النهاية التي شاهدناها.
يتحدث سعيد مرزوق عن هذا الفيلم، فيقول: (...في فيلمي الثاني – الخوف –
حاولت دفع التجرية في الشكل والمضمون معاً، ولكنني لم أتمكن، برغم أن
تكنيكه كان أكثر رقياً من الفيلم الأول، والسبب أنني أرغمت على تعديله
مرتين، الأولى بسبب الرقابة، التي حذفت مشاهد كاملة، تصور معاناة المهاجرين
من مدن القناة، بعد نكسة يونيو 67، والثانية بسبب تصميمها على تغيير نهاية
الفيلم التي كان من المفروض أنها تلخص المعنى كاملاً، ولكن تغييرها أفقد
الفيلم مغزاه، لتصبح النهاية ثغرة خطيرة في العمل!!...).(6)
وفي مكان آخر، يقول مرزوق: (...عندما حققت – الخوف – على اثره كنت أرغب في
تقديم مشكلة ماسة وجوهرية بالنسبة للناس، لكن السيناريو الذي عدل أكثر من
مرة، وتدخلات المنتج "رمسيس نجيب" المتكررة مدفوعاً برغبته في تسويق الفيلم
أولاً وأخيراً.. أثرت على العمل ككل، ففقد السيناريو الكثير من
أفكاره!!...).(5) |