يأتي فيلم (إنقاذ ما يمكن إنقاذه)، بعد انقطاع اضطراري من سعيد مرزوق عن
الإخراج السينمائي دام سبع سنوات.. يأتي ليوقف ويفضح كل الإتهامات
والأقاويل التي واجهها أثناء انقطاعه هذا. كما أنه يأتي ليجلب معه، أكبر
ضجة رقابية يتعرض لها فيلم قبل عرضه، في تاريخ السينما المصرية، وفيما يبدو
أن سعيد مرزوق قد أصبح مقدراً له – دون قصد طبعاً – أن يقوم بفضح المستوى
الفكري والعقلي المتخلف الذي وصلت له الرقابة، والتنبيه إلى جوانب عديدة،
عقلية وإدارية في هذا الجهاز الخطير.
بدأت مشاكل الفيلم مع الرقابة، بعد الإنتهاء من تنفيذه.. علماً بأن المخرج
والمنتج قد حصلا على كل الموافقات المسبقة اللازمة والقانونية على
السيناريو وتعديلاته. ولكن بعد مشاهدة الرقابة للفيلم جاهزاً، اشترطت عمل
بعض التعديلات والحذف، حتى يمكن عرضه جماهيرياً.
وبعد مشاورات ونقاشات بين الرقابة وبين المخرج والمنتج، رفضا حذف أي مشهد،
إلا أنهما وأمام إصرار الرقابة على موقفها، توصلا إلى وضع فيه نوع من
الإعتدال بحذف بعض المشاهد وتخفيف البعض الآخر. وكان من الممكن أن يعرض
الفيلم جماهيرياً، وينتهي دور الرقابة هنا، إلا أنه – ولسوء حظ الفيلم
والرقابة معاً – قد عرض الفيلم عرضاً خاصاً على النقاد والمسئولين، بهدف
الدعاية للفيلم وأصحابة، ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان، إذ أعلن النقاد في
قاعة العرض وعلى صفحات صحفهم ومجلاتهم، سخطهم على الفيلم وصانعيه، وطالبوا
بمنع عرضه ومحاكمة أصحابه، كما طالبوا بتدخل اللجنة العليا للرقابة وإعادة
النظر في عرض هذا الفيلم على الجماهير، وأشرس نقد وجه للفيلم كان من قبل
الناقد رؤوف توفيق، عندما وصفه بأنه تحريض للإرهاب العسكري والفكري واتهم
مخرجه، في قوله: (هل يتصور ذلك الفتى أنه أصبح عالماً ومفكراً.. وزعيماً..
وبماذا..؟ بالقتل وسفك الدماء واشعال الفتنة.. هل هذا عقل.. أم جنون؟ هل
هذا رأي.. أم هلوسة مريض عقلياً؟ وليس الأمر مرهوناً بظروف معينة.. ولكن
المسألة أكبر من هذا.. المسألة باختصار.. هل نقبل في أي زمان.. وفي أي
مكان.. أن يتم تصحيح الأخطاء بإعلان الإرهاب!!).(10)
إعادة النظر..!!
وأمام هذا الهجوم على الفيلم من قبل النقاد، ما كان من الرقابة، ومن وزير
الثقافة شخصياً، إلا أن يعيدوا النظر مرة أخرى، في تصريح الإجازة للفيلم
بالعرض، وتمثل في تقرير آخر لمديرة الرقابة.. جاء فيه: (إن الفيلم يظهر
المجتمع المصري بكل طبقاته وطوائفه في صورة سيئة.. كما جسد الإهمال في
التصدي إلى قضايا ومشاكل الجماهير، وصور الفيلم مصر، باعتبارها بيت دعارة
كبير، يديره المنتفعون والمنحرفون، ولا مكان فيه لأي قيم. كما أبرز أن الحل
النهائي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، هو في قيام ثورة دينية لتقضي على كل مظاهر
الفساد!! أما مطالب مديرة الرقابة، فهي:
·
تحقيق نوع من التوازن بين مظاهر الفساد، والمظاهر الإيجابية لمقاومة
الفساد، وتصحيح صورة المجتمع المصري.
·
تعديل نهاية الفيلم بحيث ينتصر الخير دون ثورة، حشرها المؤلف ليركب الموجة
الدينية البارزة في مجتمعنا، دون أن يحسب النتائج.
·
الحد من مظاهر الفساد المنتشرة في أكثر من 50% من مشاهد الفيلم.
·
مراعاة اظهار مصر في صورة أنظف، وعدم التركيز على القاذورات والمنازل
المتهدمة والأحياء القديمة.
وأمام مطالب الرقابةهذه، كان لا بد من إعادة الحوار بين الرقابة وأصحاب
الفيلم، للوصول إلى حل وسط، وفعلاً تم الحذف بمعرفة المنتج بشكل مرضي
للرقابة. إلا أن هناك بقيت ملاحظات أخرى، بلغ عددها 15 ملحوظة ما بين جملة
حوار ولقطة من مشهد.. ومشهد. لذلك شكلت لجنة من شيخ المخرجين والنقاد أحمد
كامل مرسي والمخرج كمال الشيخ للنظر في الفيلم وقرار الرقابة ضده، وكان
قرارهما في صالح الفيلم نوعاً ما، حين قررا: (إن الرقابة قامت بحذف بعض
اللقطات بالإتقاق مع المنتج، حتى لا ينطبع في ذهن المشاهدين ضرورة سيطرة
بعض الإتجاهات التي يرفضها المجتمع.. والفيلم كما شاهدناه أصبح خالياً من
هذه الإشارة، وإن كنا نرى حذف لقطة من الفصل الأخير والتي تصور بعض المصلين
في ثياب بيضاء في طريقهم إلى جامع الأزهر في خلفية الكادر، وذلك حتى لا
يتبقى أي إيحاء قد يثير إتجاهاً ضد الفيلم!!).(13)
أما رأي اللجنة العليا للرقابة فكان مع الفيلم بصورته الحالية، بعد حذف
الحديث الشريف (من رأى منكم منكراً...إلخ). وكان من الطبيعي أن يعترض أصحاب
الفيلم على بعض الملاحظات التي أبدتها الرقابة، حيث تقدموا بتظلمهم إلى
لجنة التظلمات للإعتراض على:
·
حذف الحديث الشريف.
·
حذف جملة وردت على لسان السكرتيرة والراقصة (أنا خريجة كلية آداب.. قسم
إنجليزي).
·
حذف كلمة شبرا من جملة (بيدن في شبرا).
وقد جاء قرار لجنة التظلمات ضد أصحاب الفيلم، وموافقاً على ملاحظات الرقابة
في الحذف. وبقرار لجنة التظلمات هذا، يسدل الستار على قضية الصدام بين
الرقابة وصناع فيلم (إنقاذ ما يمكن إنقاذه).
وربما يجد القاريء، أننا قد أطلنا في السرد لهذه القضية، ولكننا نرى أنها
قضية تمثل تجسيد صارخ عن مدى الإجحاف والظلم الذي يتعرض له الفنان والمبدع،
والذي يضطره إبداعه للتعامل مع هذه التناقضات الفكرية والإدارية الشكلية.
وأيضاً توضيح ما تعرض له سعيد مرزوق وفيلمه، من جهل وإجحاف، خلال ثلاث
سنوات، وهي الفترة بين إنتاج الفيلم وعرضه.
خطأ التعميم!!
فيلم (إنقاذ ما يمكن إنقاذه) من بطولة محمود ياسين وميرفت أمين وحسين فهمي،
ومن إخراج سعيد مرزوق، الذي كتب له السيناريو والحوار المخرج نفسه، يطرح
نماذج كثيرة للفساد والانحراف، كما يطرح فكره السياسي والاجتماعي المتعلق
بالواقع الاقتصادي وإفرازاته. وهو بذلك يفترض انهيار القيم الأخلاقية
وسيطرة رجال الانفتاح على مجريات الأمور. وهو يدعو لمحاربة هذا الفساد
وتدارك الأمر وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان. وهذا بالطبع هدف
إيجابي قدمه سعيد مرزوق. كما إن أسلوبه الفني الذي اختاره لتجسيد ذلك هو
أسلوب علمي كأحد مناهج الفن السينمائي، وهو تعرية السلبيات والتنبؤ
بالأخطار التي تهدد كيان المجتمع. وهذا أيضا من حقه كفنان يقدم وجهة نظره
فيما يدور من حوله. وعلينا نحن كمتلقين احترام وجهة النظر هذه حتى لو
اختلفنا معها. فمجمل الاتهامات التي وجهت للمخرج وفيلمه هذا والتي مفادها
بان الفيلم يسيء إلى مصر والى الثورة، جميعها اتهامات باطلة. فسعيد مرزوق
قد أوضح موقفه وأكد على عدم التعميم، حيث جاء ذلك على لسان إحدى شخصياته في
الفيلم. ثم أن مقولة (الإساءة إلى مصر) أصبحت متداولة كثيراً في تلك
الفترة، بل واتخذت كسلاح فكري وإرهابي استخدمه البعض لمحاربة المختلفين
معهم في وجهة النظر. وبهذا أراد هؤلاء سلب حرية سعيد مرزوق ووسيلته في
التعبير عن وجهة نظره في المتغيرات التي ظهرت في مجتمعه. فهو بفيلمه هذا
يسلط الأضواء على نماذج وشخصيات ظهرت في مجتمع الإنفتاح، يكشفها ثم يدينها،
وليس هذا إلا اثباتاً من سعيد مرزوق على حبه وحرصه على بلده، وطموحه في أن
يرى مجتمعه خالياً من هذه السلوكيات والإنحرافات. وهذا ليس دفاعاً عن مرزوق
فحسب، وإنما دفاعاً عن حرية الفنان في التعبير عن رأيه وموقفه تجاه مجتمعه،
بشرط أن لا يتعدى هذا الرأي حدود المعقول، وأن يكون قائماً على حقائق
واقعية ملموسة، فهو بهذا يؤدي دوره كفنان مسئول من المجتمع.
وفي حديث عن هذا الفيلم يقول سعيد مرزوق: (...ان جميع الأشخاص والسلبيات
التي تعرضت لها، ليست جديدة على المجتمع، بل هي موجودة فيه، وإن التغاضي
عنها يعد كارثة. وما صورته منشور في الصحف القومية التي يكتب فيها النقاد،
الذين شنوا حملة هجوم على الفيلم (...) أما الفيلم من وجهة نظري كمخرج، فقد
أردت منه إعطاء ضوء أحمر لكل ما هو سلبي وخطير ومسبب لأزمة!!...).(12)
أما إتهام هؤلاء بأن سعيد مرزوق قد أدان الثورة وهاجمها، فهذا أمر مردود
عليه، فكيف يكون ضد الثورة، وهي التي أعطته مقومات وجودة كمخرج وإنسان، وهو
الذي قدم واحداً من أصدق الأفلام التسجيلية عن رحيل زعيم هذه الثورة، وكيف
يمكن له أن يتنكر لهذه الزعامة. يقول سعيد مرزوق: (...من حقي أن لا أؤيد
ثورة يوليو، ومن حقي ألا أتعاطف معها.. لكنني لم أتجاهلها.. فأمل بطلة
الفيلم ترمز إلى جيل الثورة، كذلك المحافظ هو أيضاً ينتمي للثورة، وهما من
الشخصيات الإيجابية.. أيضاً ضابط البوليس...).(11)
بعد كل هذا، نأتي لنناقش سعيد مرزوق وفيلمه نقاشاً فنياً، بعيداً عن كل ما
هو خارج هذا الإطار، مع ملاحظتنا بان غالبية المقالات التي نشرت عن الفيلم،
لم تتخذ أسلوب النقد الفني، بل اهتمت بما يطرحه الفيلم من فكرة وموضوع،
بينهم من هاجم وبينهم من دافع عن الفيلم ومخرجه.
فالفيلم بشكل عام، اتصف بالمباشرة في الطرح السياسي والفكري، كما انه جاء
مشحوناً بالحوار الكثيف، مما أضعف من لغة الصورة السينمائية. فالفيلم يعلن
منذ أول مشاهده، وبشكل مباشر، عن مضمونه واتجاهه السياسي، هذا إضافة إلى
الشكل السينمائي التقليدي، حيث لم يقدم السيناريو أي جديد، لا علي مستوى
اللغة والتعبير السينمائي ولا حتى علي مستوى المضمون.
لقد اعتمد سعيد مرزوق علي نفس الأسلوب الذي قدمه من قبل في فيلمه
(المذنبون). أي انه في فيلمه (إنقاذ ما يمكن إنقاذه) قدم أيضا ما يشبه
الريبورتاج المصور، وذلك باستعراضه لما يراه هو من سلوكيات وأخلاقيات صاحبت
مرحلة الانفتاح، والتي شاهدناها في أفلام مصرية كثيرة، علماً بان مرزوق هنا
قدمها بشكل أكثر جرأة، محاولاً إلباس الفيلم ثوباً سياسياً فضفاضاً ليميزه
عن تلك الأفلام.
احتوى الفيلم علي مشاهد لم تمثل أية إضافة ضرورية لمضمون الفيلم، بل وساهمت
أيضا في ضعف السيناريو والتمطيط فيه.. مثل مشهد (الفلاش باك) الذي يصور
الباشا وهو يطبب المتظاهرين في قصره.. كذلك مشهد حلقات الذكر التي اشترك
فيها حسين فهمي وميرفت أمين.. أيضا هناك مشهد الحب التخيلي بينهما، الذي
جاء على الأرجح كضرورة إنتاجية تجارية في المقام الأول، هذا بالرغم من انه
نفذ بشكل متقن وبارع، محملاً بإيحاء جنسي مثير غير مبتذل.. هذا إضافة إلى
مشهد (الفلاش باك) الذي يظهر شخصيات الفيلم أيام زمان وهم في القارب، فقد
كان مطولاً لدرجة الملل، بالرغم من الجهد الفني المبذول من المخرج في
تنفيذه، حيث جعل مرزوق الكاميرا تدور حول القارب لتكشف عما بداخله من وراء
الملايات.. أما مشهد القبض على مسببي الفساد، فقد احتوى على الكثير من
المبالغة في الأداء وحشره بمواقف وحوار كوميدي، مما أضعف المشهد وجرده من
إيحاءاته الأساسية الجادة، مع ملاحظة إن سعيد مرزوق استخدم شخصية سمير غانم
الهزلية في محاولة منه إضفاء طابع كوميدي ترفيهي اعتقد بأنه مرغوب من
المتفرج.
عندما أراد سعيد مرزوق كتابة هذا الفيلم، حاول تلافي الانتقادات التي وجهت
لفيلمه (المذنبون) وهي عدم توضيح أسباب الفساد وكيفية مواجهته.. لذلك نراه
في فيلمه التالي يدين الفساد ويحذر من الآثار التي ستترتب عليه، بل ويدعو
في النهاية إلى مواجهته. إلا أن هذا قد أضر كثيراً بالفيلم ولم يفده،
باعتبار إن الفن بشكل عام ليس مطلوباً منه تقديم حلول، وإنما التنبيه إلى
السلبيات والمشكلات.
يقول سعيد مرزوق: (...في فيلم المذنبون لم أقدم الحل، وتعرضت للمشكلات..
ولكنني هذه المرة أضع الحل، وأقول إنه إزاء الظاهرة التي استشرت في البلاد،
وتفاعلت وامتدت جذورها، فالأمل بالنسبة لها ضائع، ولا وقت للدموع والتباكي
عليها، إذ يجب علينا التطلع إلى الأمل والمستقبل...).(12)
لذلك جاءت نهاية الفيلم مباشرة، عندما سيطرت السلطة الأمنية على مجريات
الأمور وألقت القبض على شلة المنحرفين. لقد أراد سعيد مرزوق أن يطرح الحلول
لكل تلك الانحرافات، ولكنه لم يوفق في ذلك فنياً، فلو انه اتخذ من التحليل
الفكري السياسي والاجتماعي عوناً في محاربته لمسببي الفساد، لاستطاع
الابتعاد عن تلك النهاية المباشرة والتقليدية التي شاهدناها كثيراً في
أفلام الانفتاح وما قبلها.
وبالرغم من كل هذه السلبيات، إلا أن هناك عناصر سينمائية أخرى استفاد منها
سعيد مرزوق في فيلمه هذا ووفق في استخدامها.. فقد كان للمونتاج دور كبير في
إضفاء نوع من التشويق والحركة على الفيلم.. كذلك التصوير حيث كانت حركة
الكاميرا متميزة بل ومبهرة في أحيان كثيرة، وتمتاز بالحيوية والخفة
والتلقائية، وذلك أثناء حركتها في المطار وتجوالها في القصر وانسيابها بين
زوايا مركز الشرطة ودهاليز المحافظة، فقد كشفت بشكل خاطف وموح، عن بعض
مشاكل المواطنين مع الروتين وانتشار الواسطة. كما أن مرزوق قد وفق إلى حد
كبير في جعله من مشهد الاغتصاب الأخير دعوة للمواطنين بالمشاركة في التخلص
من الفساد، وذلك بتجسيد هذا المشهد من خلال مكبر الصوت. فليس من الطبيعي أن
يقف أي مواطن مكتوف الأيدي أمام موقف مثير كهذا، تمثل في صرخات الاستجداء
والنجدة التي تطلقها ميرفت أمين من خلال مكبر الصوت. كما إن هذا قد فات على
الدين وصفوا الفيلم بأنه يدعو إلى الثورة والإرهاب، بتدخل المواطنين بالعصي
في النهاية.
يبقى أن نقول بان سعيد مرزوق بفيلمه هذا قد نجح في تقديم فيلم تجاري جاد،
استطاع من خلاله الجمع بين الكوميديا والرقص والحشيش، إضافة إلى النقد
الاجتماعي. في محاولة منه لتقديم توابل السينما التجارية، وإعطاء صفة
جماهيرية للفيلم وضمان نجاحه تجارياً. |