(...أنا مخرج مصري، هاو للسينما ولست محترفاً.. لا أرتزق منها.. ليست عندي
طموحات شديدة، لا في مهرجانات ولا في نقد طموحي كله أن أحس أنه فيما بعد
يقولون: أن هذا الرجل كان مهتماً بقضايانا!!...).(7)
بهذه الكلمات القليلة والمتواضعة، يعرِّف مخرجنا نفسه. وبهذه الكلمات
أيضاً، نفتح صفحة في تاريخ السينما المصرية.. وذلك لنتعرف على مسيرة مخرج
مصري جاد، ما يزال يحافظ على خصوصيته كفنان متميز، وله حضوره الفني بين
أساتذته وزملائه المخرجين.. محاولاً الصمود أمام مغريات السينما التجارية
وشروطها.. هذا الصمود الذي استمر أكثر من عشرون عاماً. طوال مسيرته
السينمائية، والتي لم تثمر ـ بالرغم من طولها ـ سوى تسعة أفلام روائية
طويلة.
استطاع المخرج علي بدرخان، وبهذا الإنتاج القليل، إثبات موهبته وقدراته
الفنية، وليصبح من بين أهم مخرجي السينما المصرية. فهو يتميز بشكل واضح
بالتدقيق الشديد في اختيار موضوعات أفلامه، ذات الصفة الاجتماعية والسياسية
والجماهيرية في نفس الوقت. إضافة الى توظيفه لكافة أدواته الفنية والتقنية
للتعبير عن المضمون السينمائي بطبيعية غير مفتعلة، مبتعداً بذلك عن الإبهار
الفني كهدف أساسي، بل هو جزء لا ينفصل عن عملية تجسيد المضمون، على مستوى
اللقطة والمشهد والفيلم بشكل عام.
إذن نحن أمام مخرج فنان يحترم السينما ووظيفتها، كما يحترم في المقام الأول
عقلية وذوق المتفرج الذي يخاطبه. لذلك نراه يختار موضوعاته بدقة، ويبذل
جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً في إعدادها وتجهيزها قبل التصوير وبعده . يقول
على بدرخان: (...بالنسبة لي فإن أهم شيء هو إعداد
العمل نفسه، وكتابة السيناريو. لذلك فهذه المرحلة عادة تستغرق وقتاً
طويلاً، وهذا طبيعي جداً، لأنه طالما تحول الموضوع الى كائن حي على الورق،
فكل شيء بعد ذلك لا يعدو إلا أن يكون تحسيناً أو إضافة بالصورة والصوت،
واختيار زوايا جمالية لما كتب...).(8)
البداية:
من المعروف للجميع، بأن على بدرخان هو ابن المخرج السينمائي المصري "أحمد
بدرخان"، وهو أحد رواد السينما المصرية الأوائل. لذلك فليس من الغريب أن
يكون الفن والسينما بشكل أخص، من ضمن اهتمامات مخرجنا علي بدرخان..
(...نشأت في جو سينمائي، كنت ألعب في حديقة
الأستوديو، وأسمع جلسات المناقشة في السيناريو!!...).(1)
كان مخرجنا يهوى الرسم منذ الصغر، ويرسم لوحات بالألوان عن الطبيعة وما
شابه ذلك. كما أنه اكتسب هواية التصوير الفوتوغرافي من والده، الذي كان
يملك أنواعاً مختلفة من الكاميرات، إضافة الى معمل خاص للطبع والتحميض في
البيت، مما أدى بالابن لأن يكون محترفاً وعاشقاً للتصوير، حيث يقول:
(...السينما أخذت عقلي، أهرب من المدرسة وأذهب الى
كل الأفلام التي في المدينة، ثم أشاهدها ثانية، وعندما لا يبقى فيلم، أرجع
الى المدرسة...).(2) ولكنه رغم كل هذا، لم يفكر في موضوع التصوير أو
السينما كحرفة، وإنما كهواية فقط. لهذا كانت أمنيته هي الالتحاق بالكلية
البحرية، بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة. ولكن والده قد اتخذ قراراً
بأن يلتحق ابنه بمعهد السينما.. فأعطاه عشرات الكتب عن تاريخ التصوير
والسينما وحرفيتها، لكي يقرأها ويستعد لامتحان القبول في المعهد..
(...أخذت أقرأ كل هذه الأشياء، وجدت نفسي في متاهة
فعلاً، وقلت سألتحق بالكلية البحرية، على الأقل لأنني أحبها والبحر لعبتي
منذ صغري...).(8) فتقدم علي بدرخان للانتساب للبحرية التجارية، لكن
والده رفض أن يعطيه توقيع موافقة ولي الأمر، كان مصراً على أن يتقدم ابنه
لامتحان دخول المعهد العالي للسينما.. (...أنا كنت
عارف أنني جاهل، ومش ممكن أعرف أجاوب على أسئلة امتحان الدخول.. وهو مقتنع
بأن السينما هي مجالي...).(2) وبذلك التحق مخرجنا بالمعهد، تنفيذاً
لرغبة والده، ولكن لدراسة الإخراج وليس التصوير، كما كان والده يريد.
يقول علي بدرخان: (...في تلك الأيام وما قبلها،
كنت مبهوراً ومشدوداً الى حكاية الإخراج، فكنت أحضر جميع جلسات العمل الفني
التي كانت تضم والدي مع باقي الفنانين، من كاتب السيناريو الى أبطال
الفيلم، وأسمع مناقشاتهم، وكيف يتم تحويل هذا الكلام المكتوب فوق الورق ـ
السيناريو ـ الى حياة وحركة ونبض.. لم أكن أشترك في مناقشاتهم بالطبع،
ولكني كنت سعيداً برؤية هذا كله.. لهذا حسمت المسألة وقلت لأبي سألتحق بقسم
الإخراج...).(8)
اشتغل علي بدرخان في السينما وهو في السنة الأولى في المعهد، حيث عمل
مساعداً لوالده في البداية، ثم مع عدد من المخرجين، أمثال صلاح أبو سيف
ونيازي مصطفى. وقد خرج من هذه التجربة مستفيداً ومتأثراً بالجميع..
(...تعلمت من الجميع، لكن يوسف شاهين تعلمت منه
الأكثر.. أتعلم من كل من أعمل معه، وما أتعلمه على بلاتوه التصوير ليس في
الكتب ولا في الدراسات.. احتكاك المهنيين بالآلات.. تعامل العامل الكهربائي
مع اللمبة، وتسليطها على الممثل وعلى الديكور. هذه هي من أسس صناعة
السينما...).(2)
الحب الذي كان - 1973
تخرج علي بدرخان من معهد السينما عام 1967، ومن ثم حصل على منحة تدريبية في
أستوديوهات مدينة السينما الإيطالية لمدة عامين. وبعد كل هذه التجربة
الفنية، من دراسة أكاديمية وخبرة عملية في أستوديوهات السينما، قام بإخراج
أول أفلامه الروائية الطويلة (الحب الذي كان) عام 1973. هذا الفيلم الذي
أدهش الجميع وخاصة زملاء علي بدرخان في الوسط السينمائي، حيث كان من الصعب
التصديق بأن هذا الفيلم هو عمله الأول على الشاشة، وذلك لما احتواه من
مستوى فني وتقني كبير، أدى الى حصوله على جائزة جمعية نقاد السينما
المصريين كأفضل فيلم عرض في ذلك العام.
لقد كان اختيار بدرخان لسيناريو (رأفت
الميهي) موفقاً الى حد كبير، فبالرغم من اختياره لموضوع اجتماعي تقليدي،
يدور
محوره حول الثالوث (الزوج والزوجة والعشيق)، إلا أنه قدمه برؤية مختلفة
وعين جديدة على المتفرج، وذلك بإضافة عنصر جديد على هذا الثالوث، ألا وه
المجتمع، والذي كان له دوراً رئيسياً في تصاعد الصراع بين تلك الأطراف
الثلاثة .
في
فيلم (الحب الذي كان) نحن أمام زوجة (سعاد حسني) أجبرت على الزوج، بالرغم
من وجود علاقة حب بينها وبين شاب آخر (محمود ياسين). لذلك، وبعد مرور عدة
سنوات
على زواجها، لم تستطع الصمود أكثر أمام زواج فاشل ومزيف.. زواج لا تتوفر
فيه أدنى شروط الارتباط العاطفي والاجتماعي.. ولم تستطع تحمل زوج لا يربطها
به سوى عقد زواج
شرعي. فما كام منها سوى إعلان الثورة على هذا الوضع الاجتماعي، حيث
تحاول مقاومته والقضاء عليه. هنا تصطدم بالتقاليد وبقوانين المجتمع المحيط
بها.. المجتمع الذي لا يغفر محاولة التخلص من القيود، ويعتبرها خروجاً على
الأعراف والقوانين الأخلاقية، بل ويحاكم من يخرج عليها. إن موقف الزوجة من
كل هذا موقف إيجابي، حيث نراها تستميت في الدفاع عن حقها في الحياة،
ومقاومة زيف هذا المجتمع، بل إنها ترفض هكذا مجتمع عن وعي وإرادة، بعد تلك
التجربة القاسية التي خاضتها. وفي
مقابل هذا كل، نجد بأن موقف الشاب (الحبيب) موقف سلبي، ويفتقد لذلك الحماس
والثورة اللتان تحلت بهما الزوجة، ربما لأنه في أول الطريق، وقد انجرف فقط
بعواطفه في العلاقة معها. هذا إضافة الى أنه لا يزال في حالة ارتباط وتعلق
لاإرادي
بالمجتمع، باعتباره جزء لا يتجزأ منه.. وبالتالي يفقد شجاعته في مواجهة هذا
المجتمع، ولا يستطيع الصمود أمام قوانينه وقيوده.
لقد وفق علي بدرخان مع رأفت
الميهي، في معالجة هذا الموضوع بصدق وواقعية وشفافية تدل على تمكن حقيقي من
أدواتهما الفنية والتقنية. فقد كان البناء الدرامي للشخصيات مرسوماً بعناية
وعمق. وبالرغم من أن أحداث الفيلم كانت متداخلة ومتشابكة، إلا أن بدرخان
تمكن من السيطرة
على مسارها وتجسيدها بصورة إيحائية جميلة وقوية. كما أنه استطاع توظيف
أسلوب (الفلاش باك) بشكل متناسب مع مضمون الفيلم، دون أية مبالغة رغم كثرة
استخدامه
له.
يقول بدرخان: (...في الحب الذي كان، أتكلم عن
الحرية في الحب، ليس بمعنى الإباحية، بل بمعنى أن يعطى للعواطف الإنسانية
جواً
صحياً بعيداً عن كل القيود التي تجعل من الحب خطيئة، وتحلل ما هو في الواقع
بغاء
مستتر بقوانين، من أجل الإبقاء على مظهر الاستقرار في المجتمع...).(1)
يقدم علي بدرخان في أول أفلامه، عملاً هادئاً وبسيطاً، بروح رومانسية
شاعرية، وبلغة سينمائية متميزة، مبتعداً عن الإبهار السينمائي واستعراض
العضلات. وقد استطاع
بهذا الفيلم إثبات وجوده بقوة في الوسط السينمائي، ليكون بطاقة تعارف بينه
وبين
المتلقي.
الكرنك
-
1975
ثم يأتي الفيلم الثاني (الكرنك ـ 1975) ليؤسس مع أفلام (على من نطلق الرصاص
ـ العصفور ـ زائر الفجر) ما يسمى بالسينما السياسية. ولو كان فيلم (الكرنك)
هو أكثرها جرأة، وذلك باستعراضه بشكل واضح وصريح جداً للنظام السياسي في
استخدامه لكل أدوات القهر والتنكيل، ضد كل من يخالفه في الفكر والرأي
السياسي، أو حتى ضد اثنين متحابين ليدمرهما لدرجة التخريب، ويفسد العلاقات
الإنسانية الجميلة فيما بينهما.
ولا يخفى على الجميع، في أن فيلم (الكرنك) قد صحبته ضجة كبيرة في الوسط
الفني والصحافة، وحتى على المستوى الجماهيري، وذلك لأن الجميع اعتبره
تأريخاً لفترة سياسية، تعتبر من أهم فترات التاريخ السياسي المصري (وهي
الفترة التي امتدت منذ الهزيمة في 1967 وحتى حرب أكتوبر 1973)، مروراً
بحركة التصحيح في 15 مايو 1971) واعتبره البعض تشويهاً لثورة يوليو 1953
وقائدها عبد الناصر، بل هجوماً على مراكز القوى في تلك الفترة، وتملقاً
لحركة التصحيح التي قادها الرئيس السادات.
إلا أن بدرخان يدافع عن فيلمه هذا، فيقول:
(...توقيت عرض الفيلم بعد وفاة عبد الناصر هو الذي أعطى انطباعا بأن
المقصود منه مهاجمة المرحلة الناصرية، وهذا غير صحيح. فالمقصود من الفيلم
كشف بعض الممارسات التي كانت تصدر من بعض الأشخاص المتسترين برداء النظام،
والتي استهدفت كرامة الإنسان وتحطيم معنوياته. وهذه الممارسات موجودة في أي
نظام وفي كل زمان...).(4)
بدأت فكرة (الكرنك) عند بدرخان، بعد قراءته للقصة التي كتبها نجيب محفوظ
ونشرتها الصحافة. بعدها قرأ بأن الكاتب ممدوح الليثي قد اشترى القصة
وسينتجها سينمائياً. فما كان من بدرخان إلا أن اتصل بالليثي وقال له:
(...أنا نفسي أخرج الكرنك، ومن غير فلوس
أبداً!!...).(8) وهذا بالطبع دليلاً على اقتناع بدرخان بالقصة
وأهميتها. وبهذا يكون بدرخان قد خطى خطوة في طريق السينما السياسية.
يبدأ فيلم (الكرنك) وينتهي بحرب أكتوبر، وهو إقحام مفتعل ـ إن كان من
الناحية الدرامية أو حتى الفكرية. ولا يعني هذا سوى الاستغلال التجاري
والتملق. فمن الملاحظ بأن السينما المصرية في تلك المرحلة قد اتخذت من حرب
أكتوبر ديكوراً جديداً للأفلام التجارية، مثلما كانت السينما في الخمسينات
والستينات تتملق ثورة يوليو، وذلك بأن تجعل من الثورة نهاية سعيدة للفيلم.
وربما كان هذا إرضاءً للنظام الحاكم وللرقابة، مما يعطي للفيلم امتيازات
كثيرة أهمها الحصول على أولوية العرض. أما بالنسبة لفيلم (الكرنك) فمن هذه
البداية والنهاية نستنتج بأنه يقول بأن غياب الحرية والقانون وسيطرة
الإرهاب والقمع يؤدي إلى الهزيمة، وعودة الحرية وسيادة القانون يؤدي إلى
النصر. وهذا بحد ذاته قد أوقع الفيلم في خطأ فكري كبير ورؤية ساذجة، على
حساب الرؤية الموضوعية للواقع والتاريخ. فالحديث عن الهزائم والانتصارات لا
يكون هكذا.
نتابع فيلم (الكرنك ـ 1975) ما بين البداية والنهاية. فمن خلال (فلاش باك)
يستمر طوال الفيلم، نشاهد ثلاث شخصيات، إسماعيل الشيخ (نور الشريف) وزينب
دياب (سعاد حسني) وحلمي حمادة (محمد صبحي)، وهم زملاء في كلية الطب، ثلاثة
من أبناء الشعب الكادحين، ينتمون إلى جيل الثورة ويؤمنون بها. إسماعيل
وزينب تربطهما علاقة حب قوية صادقة، ويعيشان في وضع معيشي بسيط يجعلهما
يدافعان عن الثورة وإنجازاتها التي استفادا منها كثيراً، مثل مجانية
التعليم وغيرها. إلا أنه يتم اعتقالهما لمجرد أنهما قالا رأياً صريحاً
وواقعياً في توزيع القماش (الذي يكتبون عليه الشعارات السياسية) على
الفلاحين الذين لا يعرفون القراءة، حيث أن هذا أنفع لهم. ويقف الثلاثة أمام
خالد صفوان (كمال الشناوي) مدير المخابرات، مرة بتهمة الانتماء إلى الإخوان
المسلمين ومرة بتهمة الانتماء للشيوعيين. وتكون نتيجة تجربتهم في المعتقل
سيطرة الخوف واليأس والإنهاك على إسماعيل وزينب، وفقدانهما للقدرة على
الفعل والتفكير، وذلك نتيجة تعرضهم للتعذيب النفسي والجسدي. فزينب تفقد
عذريتها في المعتقل، وإسماعيل بمحاولته منع حدوث ذلك يعترف على نفسه وعلى
زميله حلمي بأشياء ملفقة. أما حلمي فيتحول إلى العمل السياسي السري
باعتباره واعياً للتناقضات المحيطة به، نتيجة لما عاناه داخل المعتقل وفتح
عينيه على أشياء كانت غائبة عنه، وبالتالي يقتل هناك أثناء اعتقاله الثالث
تحت أيدي زبانية خالد صفوان. وبذلك يصبح الزملاء الثلاثة ضحية لممارسات
متسترة برداء النظام، استهدفت كرامة الإنسان فيهم، وأفسدت العلاقات
الإنسانية فيما بينهم.
من خلال الفلاش باك الطويل هذا، يقدم بدرخان فيلماً متميزاً وكبيراً يعتبر
علامة بارزة في مسيرة السينما المصرية.. لولا أنه قد احتوى على مغالطات
تاريخية، قد أضرت بالفيلم كثيراً، كانت الرقابة ونظام الحكم آنذاك ورائها،
وذلك لتعزيز ذلك الحكم وحركته التصحيحية تلك. وقد أعلن بدرخان ذلك فعلاً،
ولكن بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ، حين يقول:
(...نهاية الفيلم جاءت مختلفة تماماً، وهي إعلان 15 مايو، ومحاكمة
المسئولين عن التعذيب.. و.. وما حدث أنه قيل لي بعد الانتهاء من إعداد
الفيلم، أن رئاسة الجمهورية، تريد رؤية الفيلم.. أبلغني بذلك الأستاذ ممدوح
الليثي، وبلغه أنه إذا لم يتضمن الفيلم ثورة 15 مايو، فقد يمنع من العرض،
لأنه يهاجم الثورة وعبدالناصر!! وقلت: أن الكرنك لا يهاجم الثورة أو
عبدالناصر، ولكنه يفضح جزئية ويدينها، وهي التعذيب. فقيل لنا: نخشى أن يتم
رفض الفيلم، ومن الأفضل أن ينتهي الفيلم بإعلان ثورة 15 مايو على أنها
تصحيح للأوضاع الخاطئة، قلت إن هذا خطأ تاريخي، وأننا بهذا المنطق، نزور
التاريخ، لأن الحقيقة الواضحة، أن قرار الإفراج عن المعتقلين كان عبدالناصر
قد وقع عليه بالفعل!!...).(8)
وبهذا يكون بدرخان قد برأ نفسه من تهمة تملق النظام، حيث أعلن بأن رئاسة
الجمهورية قد تدخلت مباشرة في الفيلم، ليظهر بهذه الصورة. ولكن بالرغم من
هذه المغالطات التاريخية والسياسية في (الكرنك)، إلا أن بدرخان في فيلمه
هذا كان يحدثنا عن الثورة والإرهاب حديثاً صريحاً وجاداً وواقعياً، استطاع
من خلاله إدانة الإرهاب والقمع بجميع أشكاله في أي زمان ومكان.
يبقى أن نقف وقفة تأملية لما قدمه المخرج علي بدرخان من لمحات إبداعية
ومميزات فنية، جعلت من الفيلم علامة بارزة ومهمة، بغض النظر عن موضوعه
الجريء والصريح.
بالإضافة لتميز بدرخان في اختياره الدقيق لموضوعاته، فهو أيضاً شديد الحرص
على اختيار فريق العمل الفني، الذي سيعمل معه.. وذلك لإدراكه الواعي بأن
الفيلم في النهاية هو محصلة لتناسق الخبرات الفنية التي تعمل معه. وهذا ما
يفسر حصول أغلب أفلامه على الجوائز.
ففي (الكرنك) يوفق بدرخان في اختيار ممثليه إلى حد كبير، فسعاد حسني ونور
الشريف وكمال الشناوي كانوا في قمة أدائهم، بل وتعتبر أدوارهم في هذا
الفيلم من بين أهم أدوارهم على مدى تاريخهم الفني بأكمله. أما بقية العناصر
الفنية الأخرى، من تصوير ومونتاج وموسيقى وغيرها، فهي لم تتجاوز الدور
الوظيفي إلى الدور التعبيري، إلا في مشاهد قليلة. وذلك لاعتماد الفيلم ـ
بشكل واضح ـ على الحوار الكثيف والساخن والمتدفق، والذي ساهم إلى حد كبير
في الإضعاف من لغة الصورة السينمائية ووظيفتها التعبيرية. فمثلاً نجد
بدرخان ينجح في استخدام الإضاءة والمونتاج في مشاهد، مثل مشهد الاعتقال
الأول للثلاثة، وكان للإضاءة دوراً هاماً في خلق الجو المناسب لزوار الفجر
في البيوت والحارة. كما أنه يثبت مقدرته على شحن المتفرج بالغضب وإدانة
القهر والإرهاب، وذلك من خلال مشهد قوي وغير مباشر لإسماعيل وزينب وهما
يتمشيان في الشوارع ليلاً، وقد تحتم عليهما التبليغ عن صديقهما حلمي وعن
الاجتماع السري الذي عقد في منزله. ثم المشهد الذي يليه في بيت زميلهما
الفنان، ذلك المشهد الذي تستسلم فيه زينب لحبيبها في الفراش، ليكتشف
المأساة في تضحيته داخل المعتقل، ويصدم بتلك الخدعة الكبرى. هنا ينجح
بدرخان في تجسيد كل تلك الأحاسيس والمشاعر، بمساعدة الإضاءة الدرامية
المعبرة والمونتاج الخلاق، بالإضافة لاستغلاله لإمكانيات الديكور. أما
المونتير سعيد الشيخ، فيوفق إلى حد كبير في ضبط التصاعد الدرامي في اللقطات
بين وجه زينب وبين ورقة ملقاة في الشارع تتقاذفها السيارات المسرعة عند
محاولة انتحارها. وفي نفس الوقت لم يحقق الشيخ نفس المستوى الفني في مشهد
مقتل حلمي، حيث فشل في تحقيق التقطيع المناسب واستخدام الأحجام المناسبة
للقطات، مما أدى إلى هبوط مستوى هذا المشهد.
أما من ناحية الكتابة الدرامية (السيناريو) فنلاحظ مدى إلحاح النظرة
التجارية لدى ممدوح الليثي وعلي بدرخان، أو حتى نية التخفيف من مأساوية
الأحداث، والتي دفعتهما لحشر مواقف وأحداث بقصد الإضحاك والتقليل من صدمة
المتفرج، متجاهلين بأن ذلك قد يهدد باختلال البناء الدرامي في فيلم يناقش
الثورة والإرهاب. ومنها – على سبيل المثال – التصوير المبالغ فيه لشخصية
الشاعر المتشنج في المقهى والمعتقل، حتى ولو كان المقصود تبيان بأنه شاعر
مفتعل أصلاً، فتصوير الافتعال لا يعني الافتعال.
وهذا بالطبع لا ينفي من أن السيناريو قد اهتم بشكل خاص على استعراض
التفاصيل الدقيقة في تجسيد أدوات وطرق التعذيب، من جلد وصلب وتعذيب
بالكهرباء، حتى يصل الامتهان الإنساني ذروته في مشهد اغتصاب زينب، وهو مشهد
قوي ومؤثر ومتقن، يحقق فيه بدرخان مستوى جيد في الإخراج.
وأخيراُ.. يظل هذا الفيلم واحداً من بين الأفلام الهامة والجادة، وذلك
لتبنيه قضية حساسة في الواقع الاجتماعي والسياسي، ونجاحه في كسب تعاطف
المتفرج مع قضيته هذه.
شيلني وأشيلك ـ 1977
بعد (الكرنك)، يأتي فيلم (شيلني وأشيلك ـ 1977) والذي يقدم فيه بدرخان
كوميديا اجتماعية سياسية، أراد بها تعرية المجتمع وكشف نقائصه، كالرشوة
والفساد وتهريب النقد والتهرب من الضرائب ومجمل مظاهر القصور في المجتمع.
وهذا يعني بأن بدرخان، بعد فيلم الكرنك، أصبحت القضايا الاجتماعية
والسياسية هي شغله الشاغل، فهو يرى بأنه لا يمكن الفصل بين السياسة وبين
الفن، في قوله: (...إن الفن مرآة الحياة..
والسياسة ترتبط ارتباطا وثيقاً بالحياة.. وأنا عندما أنقد الأوضاع السياسية
أو الاجتماعية عبر أفلامي، فإنما أفعل ذلك بهدف البناء لا الهدم.. وأعتقد
مخلصاً بأن السينمائي لا يمكن أن يكون فناناً جيداً، إن لم يكن ملتزماً
بقضاياه الوطنية وبمعاناة شعبه، شأنه في ذلك شأن الصحفي والكاتب والشاعر
والرسام، ولذلك فأنا أعتز لكوني سينمائياً ملتزماً بقضايا شعبي، ليس في مصر
فحسب، وإنما على صعيد الأمة العربية كلها...).(5)
فكرة الفيلم مأخوذة عن مسرحية الكاتب «ألكسندر خاسوه» (الكلمة الثالثة)،
وفيها يعالج مشكلة الإنسان البدائي الذي عاش حياة فطرية للغاية في الجبل،
ويحكي عن اصطدامه بأهل المدينة عندما يضطر للعودة إليها. ولأن الفرصة لم
تسنح لنا لمشاهدة هذا الفيلم، وعدم توفره حتى على أشرطة الفيديو، فسنكتفي
بعرض الفيلم من خلال كلام المخرج نفسه عن هذا الفيلم.
يتحدث بدرخان، فيقول: (...لقد عالجت هذا الموضوع
بحيث تدور أحداثه في بدايات عصر الانفتاح في مصر عام 1976، ولم تكن الأمور
قد استفحلت بعد بهذه الصورة، ولم تكن الطبقة الجديدة قد ظهرت بعد. فكان
بطلي (محمد عوض) يحارب هذه القوى الصاعدة التي استولت على ممتلكاته. وفي
النهاية نرى (الحرامية) وهم يشربون نخب انتصارهم. وبالرغم من ذلك فإن بطلي
الساذج قد تبدل حاله وأصبح أكثر وعياً، ومن هنا فإن إمكانيات التغيير تظل
قائمة. والحقيقة هي أن العيب الأساسي في هذا الفيلم، الذي نجح بشكل نسبي
على المستوى الجماهيري (14 أسبوعاً)، هو أن الفيلم بطابعه الكوميدي قد حمل
أكثر مما يستطيع حمله. وأن الحبكة الدرامية في الفيلم الكوميدي لا بد أن
تكون بسيطة، فالناس تريد أن تضحك مع محمد عوض، ولكنها لم تجد ضحكاً كافياً
في (شيلني وأشيلك).. لقد كانت هذه التجربة مفيدة على أية حال !!...).(3)
شفيقة ومتولي
-
1978
في عام 1978، قدم المخرج علي بدرخان فيلم (شفيقة ومتولي)، عن ملحمة شعبية
مصرية. وقد شاءت الظروف أن يكون هو مخرجه، بعد أن توقف المخرج «سيد عيسى»
عن
تصويره عام 1972. وبعد أن قرر المخرج «يوسف شاهين» استئناف التصوير في مطلع
1976،
وكان بدرخان مساعداً له في هذا الفيلم، عاد وأوقف التصوير ـ بشكل مفاجأ ـ
وأسند
مهمة تكملة الفيلم لمساعده علي بدرخان. وبهذا يكون (شفيقة ومتولي) هو أول
سيناريو
جاهز يقدمه بدرخان للسينما.. فمن المعروف بأن بدرخان يشترك دائماً في كتابة
سيناريوهات أفلامه، بل ويتابع كل صغيرة وكبيرة فيها.
يقول بدرخان في هذا الصدد: (...أكمل الفيلم، يعني
بأنني سأتحمل مسؤولية، وجدتها مسألة أخافتني، ولأني كنت معجب بالموضوع،
وافقت. ثم أنني لم أكن على دراية عميقة به.. لذلك اضطررت أن أبدأ من جديد
في دراسة السيناريو، بعد أن أوقفت التصوير لمدة أسبوع. عدلت قليلاً في
السيناريو، وحاولت أن أعمل دراسة سريعة جداً للفترة والأجواء التي كانت
فيه.. اشتغلت في وقت ضيق جداً...).(2)
إن (شفيقة ومتولي) ليس فيلماً متكاملاً من
الناحية الفنية، إنما ما يميزه هو أنه أضخم إنتاج سينمائي في موسم 1978
والموسمين
السابقين له. حيث اشترك فيه حشد كبير من الفنانين الجادين والباحثين عن
سينما جادة
وجيدة.. مثل يوسف شاهين كمنتج، وعلي بدرخان كمخرج، وصلاح جاهين كسيناريست،
ومحسن نصر كمدير تصوير، إضافة إلى سعاد حسني وأحمد زكي في دوري البطولة
.
والفيلم (الملحمة الشعبية) يحكي عن شفيقة (سعاد حسني)، الفتاة التي قادها
الفقر والتخلف إلى الوقوع في عالم الرذيلة والدعارة، والتي تقتل على يد
شقيقها
متولي (أحمد زكي)، انتقاما للعرض والشرف.
وقد انتقل السيناريو، الذي نفذه
بدرخان، بالقصة الأصلية إلى فترة حفر قناة السويس، فترة الصراعات بين
إنجلترا
وفرنسا، وذلك لإضفاء بعد سياسي على الأحداث الدرامية. مما أعطى للفيلم
طابعاً
خاصاً ومميزاً، وخلق مناخاً اجتماعيا ذو إبعاد سياسية واستعمارية تتحكم في
مصير
الشعب المصري، الذي حفر القناة بسواعده وأرواحه .
يتحدث بدرخان عن فيلمه هذا، فيقول: (...لقد وجدت
أنه يمكن مناقشة قضايا معاصرة من خلال الأسطورة الشعبية القديمة، كالعلاقة
بين الشرق والغرب، والانفتاح على الغرب الذي حدث في الماضي ويحدث الآن
ثانية.. الخ. ومن هنا تحمست للفيلم وأعدت بعض المشاهد وأكملته حسب رؤيتي
الخاصة!!...).(2)
لقد استطاع بدرخان، ووفق كثيراً ـ بمساعدة اللون والإضاءة
والإكسسوارات ـ في الإيحاء بأجواء تلك الفترة التاريخية. كما أنه نجح في
تصوير مدى
القسوة والظلم والطغيان، الذي وقع على أفراد الشعب المصري، من خلال مشاهد
قوية
وواقعية صادقة، تمثلت في مشاهد حفر القناة، ومشهد مقتل العامل (أحمد بدير)،
ومشاهد المجاعة والوباء المنتشرين بين العمال، وتصوير معاناتهم في تحمل كل
هذا. وبالرغم من التطويل الممل في بعض الأغاني، إلا أن مشهد «المولد» يعد
من بين أهم
مشاهد الفيلم، بديكوراته الضخمة وتصوير حياة المولد الطبيعية من موسيقى
ورقص ومرح. كما أن هناك مشاهد برع في تجسيدها بدرخان، مثل حمام الخيول في
البحر، ومشهد
جلب متولي للسخرة، إضافة إلى مشهد عودته للقرية. أما مشهد النهاية، فقد كان
لمخرجنا وجهة نظر في تغييره.. تلك النهاية التي يسقط فيها متولي وشفيقة تحت
رصاص
السلطة. حيث يعتبر بدرخان الاثنان ضحية لقوى أكبر وأقوى منهما، وهي القوى
التي
تسحقهما في النهاية.
يقول بدرخان عن هذه النهاية: (...منذ البداية لم
أكن مقتنعاً بحكاية العرض والشرف، وأن هناك من تقتل بسبب ممارستها للجنس..
ماذا يعني هذا بالنسبة لي؟ هذا كلام لا يهمني. ففي النهاية الجديدة، أصبحت
الحكاية أبعد من حكاية عرض وشرف.. في هذه النهاية نجد متولي يمشي حاملاً
سلاحه وهو يبكي.. لأنه يعرف بأن التقاليد قد فرضت عليه أن يقتل شقيقته..
لذلك نراه يبكي وهو تعيس...).(2)
أهل القمة
-
1981
ثم يأتي فيلم (أهل القمة ـ 1981) ليكون إضافة كبيرة وهامة لرصيد بدرخان
الفني. حيث قفز به إلى الصفوف الأولى في دنيا الإخراج في مصر. كما يعتبر
(أهل القمة) من أهم الأفلام المصرية التي تناولت مرحلة الانفتاح الاقتصادي،
بل وأنضجها، حيث يشكل إدانة مباشرة لهذا الانفتاح المشوه.
والفيلم مأخوذ عن قصة قصيرة لنجيب محفوظ، حولها بدرخان، مع السيناريست
مصطفى محرم، إلى فيلم جريء ومثير حقاً، يمس قطاع كبير من المجتمع المصري،
ويتعرض بالنقد والتحليل لقطاع اجتماعي أوجدته الظروف الاقتصادية الجديدة في
الشارع المصري المعاصر، ألا وهو قطاع التجار المهربين.
يتناول الفيلم ثلاث شرائح أو أنماط من المجتمع المصري، وذلك من خلال ثلاث
شخصيات رئيسية.. الأولى: زعتر النوري (نور الشريف) ويمثل نمط النشالين.
والثانية: زغلول بيك (عمر الحريري) ويمثل نمط الحرامية الكبار المتسترين
برداء البر والتقوى الذين تحميهم السلطة. أما النمط الثالث فهو الضابط
الشريف المخلص لوظيفته، ويمثله محمد فوزي (عزت العلايلي). والفيلم يركز على
التحول الذي يحدث للنمط الأول، وذلك لأن النمطين الآخرين واضحان، أما الأول
فهو الذي يتشكل بالتدريج ليتحول إلى طبقة اجتماعية جديدة، أكثر خطورة في
مجتمع الانفتاح.. طبقة تجمع بين النمطين. لذلك نرى بأن الفيلم قد أوحى
بذلك، عندما استبدل اسم «زعتر النوري» بـ «محمد زغلول». ومحمد زغلول هذا ـ
المنبثق من الجهل والانتهازية والذي يطمح لإثبات وجوده على الساحة ـ يشكل
أساساً لطبقة جديدة هجينة، ليست لها أية مبررات أو مقومات للظهور سوى
أسلوبها في الكسب المادي الغير مشروع، والذي حصلت عليه في عصر الانفتاح.
صحيح بأن الفيلم يكاد لا يدين هذه الطبقة الجديدة، وصحيح بأنه يسعى لكسب
تعاطف المتفرج نحوها، بل وينجح في ذلك.. إلا أنه، ومن خلال أحداثه مجتمعة،
يكشف مدى خطورة هذه الطبقة وتأثيراتها المستقبلية على المجتمع. ويعلن
صراحة، بأن الوضع الاجتماعي إذا بقى على ما هو عليه، سيصبح مجتمعاً تسوده
الفوضى والانتهازية ويتحكم فيه هؤلاء الحرامية والمهربين، من هذه الطبقة
الاجتماعية الجديدة.
يتحدث بدرخان عن فيلمه هذا، ويقول: (...بالنسبة
لأهل القمة، فأنا أناقش فترة التحول الاقتصادي والمفاهيم الاشتراكية، وظهور
مفاهيم جديدة. أصبح هناك قيم جديدة تحارب القيم الأصلية الموجودة. الناس
بدأت تعتقد بأن الشاطر هو الذي "يهبر"...).(6)
فيلم (أهل القمة) لا يحوي أحداثاً شديدة الإثارة، وإنما الأفكار التي
يناقشها مثيرة حقاً وواقعية جداً، بحيث لا يتخللها الملل، هذا بالرغم من
بعض الرتابة التقليدية في الإخراج.. رتابة تقليدية لكنها حافظت على هدوء
المشاهد وتسلسلها، وأتاحت للحوار ـ الذي اعتمد عليه الفيلم كثيراً ـ أن
يأخذ حقه في الظهور.. حوار ساخن متدفق وغير مفاجئ، ساهم في توصيل الصورة
المرسومة بهدوء دون إثارة أو افتعال. إن بدرخان في فيلمه هذا قدم أسلوب
السهل الممتنع، وذلك باعتماده على الأسلوب الواقعي البسيط، والمعتمد أساساً
على إبراز التفاصيل الصغيرة والشخصيات الثانوية، وذلك لإغناء الخط الدرامي
الرئيسي وتعميقه. فمن المشاهد الجيدة التي تألق فيها بدرخان كمخرج، تلك
المشاهد التسجيلية لسوق ليبيا، سوق البضائع المهربة، والتي نفذت بتقنية
عالية، أثبت فيها قدرته على تحريك الكاميرا بخفة وسلاسة ملحوظة بين الجموع
المحتشدة في السوق، وإطلاقها وسط الزحام انتقل لنا عشرات الوجوه المتعبة.
كما أن هناك مشاهد أخرى تدل على تمكن بدرخان في إدارة أدواته الفنية
والتقنية، كمشهد وداع «سهام» لحبيبها في المطار، والذي بدا أقرب لمشاهد
وداع الموتى. كذلك مشهد حديث «سهام» عن حياتها لزعتر النوري، والذي نفذه
بدرخان في لقطات قصيرة وسريعة معبرة، أخذها من عدة زوايا موفقة وجميلة
لمدينة القاهرة. هناك أيضاً مشهد النهاية المؤثر لذلك الزفاف المأساوي، وسط
جو مليء بالحرامية والنشالين والمهربين في قلب سوق البضائع المهربة،
والحيرة والقلق تبدوان على وجه الضابط الذي أجبر بالطبع على قبول هذا الوضع
الشاذ، حيث نراه ـ في لقطة قوية ومعبرة ـ يغوص وينغمس في زحام سوق
الانفتاح، معلناً هزيمته أمام هؤلاء الحرامية.
ولكن بالرغم من كل ما حمله الفيلم من أفكار إيجابية، إلا أنه قد احتوى على
سلبيات، أهمها تلك العجلة في تنفيذ بعض المشاهد، والذي يبدو واضحاً في
تنفيذ ديكور مقهى النشالين، الذي تم بناءه على عجل ودون دراسة متأنية، مما
أعطى الإحساس بزيفه وعدم واقعيته. وإلا ما تفسير أن نجد ديكور وإكسسوارات
شقة الضابط تعبر تماماً ـ ببساطتها ـ عن الوضع المعيشي لموظف متوسط الدخل.
كذلك نلاحظ ذلك الأداء المبالغ فيه لعايدة رياض في مشهد زيارة الضابط
لبوتيك زعتر، وفي مشاهد أخرى عديدة. أما الموسيقى التصويرية، فنجد بأن
بدرخان لم يستطع توظيفها للتعبير والتعليق على بعض أحداث الفيلم.
لجوء بدرخان ـ أحياناً ـ لمغريات السوق التجارية، قد أوقعه في أخطاء ألحقت
الضرر بالفيلم، أكثر من الإضافة إليه. وقد دفعنا لقول ذلك، هو حشر شخصية
«سمعان» الذي لا يسمع أثناء مطاردة المهربين. صحيح بأنه قد أضحك المتفرج،
إلا أنه لم يضف شيئاً لموضوع الفيلم. بعكس المشهد الذي ينتفض فيه «محمد
زغلول» ـ وبشكل لا إرادي ـ لمجرد أنه سمع الناس يرددون كلمة حرامي، إثناء
مطاردتهم لأحد الحرامية.. إنه حقاً موقف كوميدي، ولكنه في نفس الوقت، ذا
دلالة قوية تدخل في صلب الموضوع وتغنيه.. فنحن نقبل هذا الموقف، ولا نقبل
ذاك.
وبالرغم من هذه الملاحظات، إلا أن (أهل القمة) يبقى فيلماً هاماً وناجحاً،
على صعيد النقاد والجماهير على حد سواء. وقد ساهم في نجاحه هذا، تركيزه على
سلبية واحدة من سلبيات الانفتاح (التهريب)، بدل الضياع والتشتت في مواضيع
كثيرة.
يتحدث بدرخان عن هذا النجاح الذي حققه في أهل القمة، ومن قبله في الكرنك،
فيقول: (...إنهما قد عبرا عن حقيقة داخل الناس
فأقبلوا عليهما، وكان فيهما صدق للواقع وتحليل للناس لما يرونه في أنفسهم.
فما معنى أن تخرج فيلماً تعرض للفراخ الفاسدة والبيض الفاسد، دون تحليل
يعرف أكثر مما يعرضه الفيلم، ولكنه لا يحلل للجمهور أي شيء.. فالجمهور يرى
أنه تعرض عليه حوادث الفراخ الفاسدة وغيرها في السوق دون تحليل، فإنه يتهم
الفنان بأنه يتاجر عليه بالفراخ الفاسدة لترويج فيلمه، وبالتالي يقول له
أنت تخرج له أفلاماً فاسدة. وبالتالي هناك فرق بين مجرد عرض القضية وبين
تحليلها للجمهور).(6)
الجوع
-
1986
وبعد غياب دام أكثر من خمس سنوات، وفترة طويلة من البحث عن موضوع لعمل جديد
يقدمه للسينما، يعود علي بدرخان ليقدم فيلم (الجوع ـ 1986).
تدور أحداث فيلم (الجوع ـ 1986) في عصر الفتوات، أي في نهايات القرن الماضي
وبالتحديد في عام 1887. إلا أن المخرج علي بدرخان، قد اختار هذا العصر
بالذات لطرح ومناقشة قضية صناعة الأبطال القياديين في كل زمان ومكان. حيث
يحكي الفيلم عن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تؤدي إلى
سقوط هؤلاء الأبطال.
وقد أنتجت في سنوات الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، مجموعة من
الأفلام أطلق عليها اسم أفلام الفتوات شهد الملكة، التوت والنبوت، المطارد،
الحرافيش.. وبالرغم من التشابه الكبير لهذه الأفلام، والمأخوذة عن رواية
الحرافيش للكاتب نجيب محفوظ، ومشابهتها (شكلاً) بفيلم (الجوع)، وادعاء
البعض أنه مأخوذ عن نفس الرواية، إلا أن بدرخان يصر على أنه هو الذي كتب
القصة، وصاغها على شكل سيناريو مصطفى محرم.
ويقول بدر خان في هذا الصدد: (...هذه الرواية من
تأليفي، كتبتها عبر شهور طويلة. حقيقة لقد أفادني نجيب محفوظ من الحرافيش
وأولاد حارتنا، كما استفدت من زوربا وكازانتزاكيس وعشرات آخرين، هضمتهم
وتمثلتهم وكتبت الجوع...).(7)
عموماً ما يهمنا هو الفكر والمضمون الذي يطرحه بدرخان في فيلمه هذا. حيث أن
السيناريو الذي اشترك بدرخان في كتابته كان دقيقاً وحذراً لكل تطورات
الشخصية، وهذا ما يميز الفيلم عن تلك الأفلام السابقة الذكر. فالمخرج في
فيلم (الجوع) يتابع مراحل صعود البطل (الفتوة) حتى سقوطه، ويحددها في عدة
مراحل. الأولى هي مرحلة توفير بعض الخدمات للفتوة، والالتزام بتطبيق
العدالة حتى على نفسه، وذلك لضمان استمرار وفرض حكمه الجديد. ثم مرحلة
تحسين وضعه الاقتصادي الاجتماعي والوقوع في شرك الأثرياء الملتفين من حوله.
أما المرحلة التالية فهي انخراطه في ميدان التجارة مستفيداً بمشروعية الكسب
المادي. لكنه ينجرف إلى عالم التجار وألاعيبهم، ومن ثم يزداد بطشه وظلمه
للناس، مما يؤدي ذلك إلى سقوطه.
هكذا يناقش بدرخان قضية هامة ومعاصرة، قضية الظلم والعدل وما بينهما. وهذا
بحد ذاته هدف سام ونبيل، يضيف الكثير لرصيد المخرج الفني والفكري. وبالرغم
من أن فيلم (الجوع) يدور في نفس الأجواء التي دارت فيها الأفلام السابقة،
إلا أنه يظل أنضجها فكرياً وفنياً.
لنكون أكثر مصداقية في تقييمنا لفيلم (الجوع ـ 1986) لعلي بدرخان، سنناقش
السيناريو الذي لم يخلو من بعض الإخفاقات. أهمها ذلك المرور السريع على
مشكلة الجوع (فالفيلم يحمل عنوانها) فهو لم يحاول الاقتراب أكثر من الفقراء
وتجسيد معاناتهم الجوع، باعتبارهم أكثر المتضررين من هذا القحط والمجاعة.
فقد اكتفى بدر خان لتجسيد ذلك بالحوار المختصر وبعض المشاهد القصيرة
نسبياً.
كذلك هناك قصور واضح في تقديم صورة واقعية صادقة للحرافيش. فبالرغم من
تواجدهم في مشاهد كثيرة (للتعليق على الأحداث) إلا أننا لا نعرف لهم أية
مهن محددة، وبالتالي أظهرهم الفيلم في شكل أقرب إلى المتطفلين، الأمر الذي
لم يترك في نفس المتفرج أي احترام أو تعاطف معهم. فكيف يريد بدرخان إقناعنا
بأنهم مؤهلون لقيادة أنفسهم والانفراد بالحكم.
هذا إضافة إلى أن بدرخان لم يقدم للمتفرج مبررات وافية ومقنعة لذلك التحول
السريع والمفاجئ لعلاقة سعاد حسني بعبد العزيز مخيون. كذلك المهمة التي
قامت بها سعاد حسني، وهي تحريض الحرافيش على الثورة، فهي لا تكفي لإشعال
روح المقاومة فيهم.
وبالرغم من وجود هذه السلبيات في السيناريو، إلا أن عناصر الفيلم الأخرى
(تمثيل وموسيقى وتصوير) تضافرت جميعها للارتفاع بمستوى الفيلم الفني
والتقني، فقد استطاع بدر خان بمساعدة مدير التصوير (محمود عبد السميع)
إبداع كادرات وزوايا تصوير متقنة ومعبرة، وذلك للاستخدام الموفق للإضاءة،
التي أدت دوراً كبيراً في التعبير الدرامي والإيحاء بعصر ما قبل الكهرباء
والإضاءة الصناعية.
أما ذلك الديكور العبقري، فهو دليل على إصرار بدر خان على تقديم فن نظيف
وسينما جيدة. فقد رفض تصوير أحداث فيلمه في حارة قديمة ومهلهلة انتهى عمرها
الافتراضي موجودة في أستوديو نحاس، وأصر على بناء حارة جديدة تحمل كل
المواصفات التي يريدها. لذا أنشأت حارة جديدة قام بتصميمها وبنائها الفنان
صلاح مرعي (صاحب ديكورات فيلمي المومياء وأخناتون) بمساعدة طلاب معهد
السينما. حارة كاملة بكل تفاصيلها الدقيقة وواقعيتها الموحية بالزمان
والمكان، تكلفت أكثر من مائة ألف جنيه مصري. وبذلك يكون علي بدرخان قد أهدى
للسينما المصرية حارة تاريخية، يمكن أن تبقى صالحة للتصوير أكثر من ثلاثون
عاماً، تستثمرها وتستفيد منها الأجيال السينمائية القادمة.
الراعي والنساء
-
1991
قدم علي بدرخان في عام 1991، فيلمه (الراعي والنساء)، وهو آخر أفلام
الأسطورة سعاد حسني.. ليدخل به في معركة فنية.. فقبل خمس سنوات عثر بدرخان
على رواية لمؤلف أسباني مغمور باسم (جزيرة الماعز)، وبدأ يستعد منذ تلك
اللحظة لتقديمها على الشاشة. وبعد أكثر من كتابة للسيناريو لم تتفق مع وجهة
نظر علي بدرخان، اتفق مع كاتب السيناريو وحيد حامد. ولأن بدرخان كانت له
رؤية خاصة لم يقتنع بها وحيد حامد، أصر كل منهما على أحقيته بتقديم (جزيرة
الماعز) من وجهة نظره. وبدأت المعركة بين الطرفين، والتي انتهت بفيلمين:
الأول (رغبة متوحشة) سيناريو وحيد حامد وإخراج خيري بشارة، والثاني (الراعي
والنساء) أخرجه بدرخان وشارك أيضاً في كتابة السيناريو مع محمد شرشر وعصام
علي.
يتحدث الفيلم عن الأرملة وفاء (سعاد حسني)، والتي تعيش ـ مع ابنتها سلمى
(ميرنا) وأخت زوجها عزة (يسرا) ـ في مكان منعزل، حيث يعيش الثلاث يستصلحن
قطعة أرض ورثنها عن زوج وفاء الذي توفي في السجن. يصل إلى المكان حسن (أحمد
زكي) زميل زوجها في الزنزانة، والذي يبدي استعدادا طيباً في مشاركتهما
العمل في الأرض. وبالرغم من أنه لم يكن مرغوباً فيه من الثلاث نساء في
البداية، إلا أنهن تتنافسن على حبه فيما بعد. فيعرض الزواج من وفاء، وتختفي
سلمى ليبدأ الجميع البحث عنها حتى يعثرون عليها. وبدون قصد تطلق سلمى النار
على حسن. فتطلب عزة من وفاء وابنتها الرحيل فوراً حتى تنفرد بحسن، ولكنها
تنهار في النهاية عندما تكتشف وفاته.
هذه باختصار الخطوط العامة لإحداث فيلم (الراعي والنساء)، إلا أن الفيلم لا
تكمن قوته وجماله في تلك الأحداث، إنما تكمن في ذلك الشلال الملتهب من
المشاعر والأحاسيس الجياشة.. تكمن في قدرة السيناريو على إبراز الجوانب
المتعددة لكل شخصية، بمناطقها الغامضة والمضيئة.. تكمن في ذلك الرصد الموفق
لتباين العلاقات واختلافها فيما بينها. فعندما يتسلل حسن ـ الخارج لتوه من
سجن دام عشر سنوات ـ إلى عالم النسوة الثلاث، تتفتح أبواباً ظلت موصدة
لفترة طويلة، ونفوساً قاربت على الجدب، وأجساداً تشققت من الظمأ تسعى إلى
الارتواء، شأنها شأن الأرض التي يحيون عليها.
فنحن هنا أمام ثلاث نساء آثرن الابتعاد والعزلة عن العالم الخارجي لظروف
خارجة عن إرادتهن. وانكفأن في وسط قطعة أرض أقرب إلى السجن الاختياري..
يرعونها ويرعون فيها أغنامهن.. مساحة من الأرض قريبة من بحيرة صغيرة، تركت
مياهها المالحة آثارها المدمرة عليها. ثلاث نساء يعشن عالماً يبدو من
الخارج متماسكاً قوياً، إلا أنه مليء بلحظات من الحب والكراهية، وتتنازعهن
مشاعر متناقضة.. فوفاء تعيش أسيرة للماضي، والحب الذي ما أن يبدأ حتى قتل،
تكره المكان وتتمنى أن تغادره. على عكس عزة التي تشعر بأن الأرض جزء من
كيانها.. فهي لها ولأخيها الذي فقد حياته بسبب تمسكه بوفاء.. لذلك تكرهها
وتذكرها دوماً بأنها السبب في فقدانها له، فقد كان كل شيء في حياتها. أما
الفتاة الصغيرة سلمى، فلم يكن الأب المفقود بالنسبة لها سوى مجموعة من
الذكريات الغامضة.. تحبه من خلال حكايات أمها وعمتها، وهي تعيش أزمة نفسية
نتيجة قسوة زميلاتها في المدرسة، في محاولتهن لخدش تلك الصورة المثالية
التي كونتها عن والدها.
بدخول شخصية حسن (أحمد زكي) ـ في فيلم (الراعي والنساء) ـ عالم الثلاث نساء
المعزول، تتغير الكثير من معالم الفيلم. فهو يعمل في الأرض.. يقلبها..
ينتزع الحشائش البرية منها.. يغسلها.. يلقي فيها بالبذور لتنمو وتكسي تلك
التربة القاحلة باللون الأخضر. وكما ينجح حسن في تغيير معالم المكان ولون
الأرض، ينجح أيضاً في تغيير النساء الثلاث وتغيير شكلهن. فقد أتى حسن إلى
هذا المكان باحثاً عن الأمان والحب الذي افتقده في حياته. فهو يملك مقومات
الراعي، وهن يفتقدن إلى ذلك الراعي.. يدلف حياتهن ويطرق حياتهن في وجل،
حاملاً في داخله شحنات دافئة من الحب والحنان، لعائلة صديقه.. حيث كانت
وفاء وسلمى وعزة هن محور حياة صديقه وموضوع أحاديثه، حتى كاد حسن أن يكون
جزءاً من هذه العائلة.. يعرف أدق التفاصيل عن حياة وأحلام النساء الثلاث.
يدخل حسن عالم الثلاث نساء وقلبه يخفق بحب وفاء، أرملة زميل الزنزانة، ذلك
أنها عاشت في خياله من خلال عشرات القصص التي سمعها من زوجها. فمن الطبيعي
أن يهيم بها وهو يراها أمامه الآن بروحها وجسدها. كما أنه يعلن أكثر من
مرة، بأنه كان مرشحاً من قبل رب الأسرة بأن يكون أحد أفرادها، أي أنه كان
مرشحاً للزواج من عزة. لذلك تتعلق عزة بهذه الأمنية الآن وتسعى إلى
تحقيقها. أما سلمى الصغيرة الضائعة نفسياً، فتشعر نحو هذا القادم بمشاعر
مختلطة وغامضة نتيجة تلك الأزمة النفسية التي تعيشها، فتجده الأب والأخ
والصديق، ولكنها كمراهقة تحبه، أو على الأقل تتصور بأنها تحبه.
وتتجه الدراما إلى مرحلة التشابك، وذلك عندما يجد حسن نفسه محاطاً بحب
النساء الثلاث. فهو يفتح نافذة الأمل أمام وفاء عندما يعلن لها عن رغبته
بالزواج منها، وهي بالتالي تعبر عن سعادتها وإحساسها ـ بصوتها المتهدج
ونظراتها الهائمة ـ بإمكانية أن تبدأ حياتها من جديد. وبالرغم من أنه يحب
وفاء ويهيم بها وهي تبادله هذا الشعور، إلا أن عزة كانت قد قررت أن تستحوذ
عليه كبديل للزوج المفتقد والأخ المفقود، فقد فجر وجوده في حياتها طاقاتها
الحسية والجسدية، واندفعت ترتوي منه رغماً عن مشاعره. أما سلمي، فهي تدخل
حلبة هذا الصراع على حسن، كارهة اندفاع عمتها وعشق أمها له. تصفعها أمها في
غضب عارم عندما تستثيرها، لتهيم على وجهها منهارة والارتباك مسيطراً على
مشاعرها.
في هذا الفيلم الأخاذ، نجح على بدرخان في تقديم نسيج من المشاعر والأحاسيس
التي غلفها بقدر كبير بالتفاصيل الصغيرة التي ساهمت كثيراً في تطور
الدراما، من غير السقوط في براثن الميلودراما الفجة. هذا إضافة إلى أن
السيناريو لم ينزلق إلى التفسير الجنسي الغرائزي لسلوك أبطاله، وإنما تابع
تصرفات شخصياته وعلاقاتهم وهي تنمو على مهل وعلى نحو شاعري يميل إلى
الواقعية. فعلي بدرخان هنا لا يدين شخصيات فيلمه بقدر ما يحنو عليهم ويتفهم
دوافعهم ويترفق بمصائرهم ويتعاطف مع سلوكياتهم ويبرر تصرفاتهم. هكذا عبر
علي بدرخان عن مشاعر شخصياته من خلال بناء بصري أخاذ، كان للكاميرا دوراً
كبيراً في خلق روح شاعرية تناغمت مع الموسيقى ذات التعبير الدرامي
والمونتاج المتميز بالإيقاع الحيوي والمزج الناعم الذي حافظ على وحدة
الإيقاع داخل اللقطة والمشهد. كما نجح علي بدرخان إلى حد كبير في إدارة
ممثليه الذين قدموا طاقات إبداعية هائلة في الأداء.
الرجل الثالث
-
1995
قدم علي بدر خان فيلم (الرجل الثالث) عام 1995. وهو من بطولة أحمد زكي
وليلى علوي ومحمود حميدة. وكان قد جذبنا الى مشاهدة هذا الفيلم، أسماء
نجومه ومخرجه. فهذه الأسماء لها في ذاكرتنا تاريخ فني حافل بالأفلام
الرفيعة المستوى.
وفيلم (الرجل الثالث) كان خيبة كبيرة لنا، حيث لم يغفر للفيلم اشتراك تلك
الأسماء فيه. فقد كنا ننتظر فيلماً لأحمد زكي، هذا الفنان الذي عودنا على
الدقة في اختيار أدواره. فأمتعنا بأفلام كبيرة. كما كنا نتوقع فيلماً
للمخرج علي بدرخان يضيف به رصيده الفني المتميز الذي عهدناه له. إلا أن كل
توقعاتنا هذه قد باءت بالفشل. وصرنا أمام فيلم ذو مستوى أقل من العادي.
فالمخرج علي بدزخان فنان مصري جاد، له خصوصيته كفنان متميز، وله حضوره
الفني بين أساتذته وزملائه المخرجين.. وهو الفنان الذي استطاع، وبهذا
الإنتاج القليل، إثبات موهبته وقدراته الفنية، وليصبح من بين أهم مخرجي
السينما المصرية. كما أنه يتميز بشكل واضح بالتدقيق الشديد في اختيار
موضوعات أفلامه، ذات الصفة الاجتماعية والسياسية والجماهيرية في نفس الوقت،
ويبذل جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً في إعدادها وتجهيزها قبل التصوير وبعده.
إضافة الى توظيفه لكافة أدواته الفنية والتقنية للتعبير عن المضمون
السينمائي بطبيعية غير مفتعلة، مبتعداً بذلك عن الإبهار الفني كهدف أساسي،
بل هو جزء لا ينفصل عن عملية تجسيد المضمون، على مستوى اللقطة والمشهد
والفيلم بشكل عام.
كنا قد تناولنا فيلمه قبل الأخير (الراعي والنساء)، ذلك الفيلم الأخاذ الذي
نجح فيه بدرخان من تقديم نسيخ من المشاعر والأحاسيس التي غلفها بقدر كبير
بالتفاصيل الصغيرة التي ساهمت كثيراً في تطور الدراما، من غير السقوط في
براثن الميلودراما الفجة. معبراً عن مشاعر شخصياته من خلال بناء بصري أخاذ،
كان للكاميرا دوراً كبيراً في خلق روح شاعرية تناغمت مع الموسيقى ذات
التعبير الدرامي والمونتاج المتميز بالإيقاع الحيوي والمزج الناعم الذي
حافظ على وحدة الإيقاع داخل اللقطة والمشهد.
هذا هو بدرخان الذي نعرفه.. مخرج فنان يحترم السينما ووظيفتها، كما يحترم
في المقام الأول عقلية وذوق المتفرج الذي يخاطبه. فماذا حصل لمخرجنا علي
بدرخان في فيلمه الأخير (الرجل الثالث). فهو في هذا الفيلم يتنازل عن تميزه
الفني وأسلوبه السينمائي الذي جسده في أفلامه السابقة. إذن دعونا نرى ماذا
قدم لنا بدرخان في فيلمه الأخير.
يحكي فيلم (الرجل الثالث) عن الطيار في شركة البترول كمال (أحمد زكي). الذي
يعاني من أزمات العصر المادية، ويحاول أن يكون أباً صالحاً لابنه ذو السبعة
أعوام من مطلقته المتطلعة الى مستوى معيشي غير عادي. يتعرف على رستم (محمود
حميدة) رجل الأعمال، وعشيقته سهام (ليلى علوي). يتورط الكابتن كمال مع رستم
وعشيقته في عملية مشبوهة، ينقل له بطائرته شحنة مخدرات متجاوزاً شرطة خفر
السواحل، مقابل نصف مليون جنيه. ولأن كمال كان ضابطاً سابقاً في الجيش شارك
في حرب العبور، فهو يبلغ الشرطة ويتفق مع المخابرات ويتعاون معهم في القبض
على العصابة. وبالفعل ينجح الكابتن كمال في هدفه، بعد مجموعة من الأحداث
والمشاهد الدرامية وغير الدرامية. كما أن السيناريو لا ينسى من إيقاع كمال
في حب سهام، تلك المرأة التي يملكها رستم بقلبه وفلوسه، فهي فرصة لا تعوض
بالنسبة للكاتب. وهذا بالضبط كل ما يقوله الفيلم.
السيناريو، الذي كتبه السيناريست المخضرم يوسف جوهر عن قصة للواء محمد
عباس، سيناريو تقليدي، لم يقدم جديداً في فكرته، ولا حتى في طريقة المعالجة
الدرامية لهذه الفكرة. هذا إضافة الى أنه قد أخفق في تقديم الكثير من
التبريرات لتصرفات شخصياته. فمثلاً رجل الأعمال رستم يبدو لنا في أول ظهور
له على الشاشة بأنه إنسان شريف يصر على إعدام شحنة دجاج فاسد كلفته مبلغ
250 ألف جنيه. مع أن المشهد التالي مباشرة يظهره بأنه قد خسر في صفقة
مخدرات كبيرة كلفته خمسة ملايين جنيه. فالمشهد الأول ليس له ضرورة درامية
تماماً، ولا يضيف كثيراً الى الشخصية.
كما أن هناك مشاهد وأحداث، كانت زائدة على الفكرة الرئيسية، وفي الإمكان
الاستغناء عنها. مثل شخصية ابن الكابتن كمال الصغير، الذي جاء فقط لتبرير
احتياج الأب للفلوس، ومن ثم تبرير اشتراكه مع العصابة. ولا يستوعب الفيلم
تلك المشاهد الطويلة التي تظهر الإثنين في كل مكان. كذلك حكاية الكابتن
كمال وعلاقته الغرامية بسهام (ليلى علوي)، والتي كانت غير مبررة، وجاءت
لإعطاء رونق رومانسي على الفيلم الذي لا تتحمل فكرته شيء من هذا القبيل.
أما بالنسبة للإخراج، فلم يكن بالمستوى المتوقع من مخرج كعلي بدرخان. فقد
حاول بدرخان ـ قدر الإمكان ـ من انتشال الفيلم من الضعف الدرامي الذي يتصف
به. بتقديم مستويات جمالية في تكوينات الكادر، واختيار زوايا الكاميرا
وحركتها. مع مونتاج سريع ومتناسب أحياناً، وبطيء ممل في كثير من الأحيان.
أما الموسيقى فلم ترتقي الى إبداع الفنان راجح داود، الذي عهدنا موسيقاه
العملاقة في تجاربه السابقة. كذلك التمثيل، الذي لم يكن أكثر حظاً من
العناصر الفنية الأخرى. فلم يكن أحمد زكي بنفس التألق الذي ظهر به في
أفلامه السابقة. فكان دوره في هذا الفيلم دوراً عادياً، لم يضف الى رصيده
الفني أي جديد. وكذلك بقية الممثلين.
نزوة
-
1996
كم كانت الخيبة كبيرة، بعد مشاهدتنا لفيلم (نزوة ـ 1996)، فقد كنا في
انتظار أن يطرح في سوق الفيديو منذ فترة طويلة. وكنا في لهفة أيضاً لمشاهدة
فيلم للمخرج علي بدرخان.. فيلم جديد يعوضنا عن فيلمه الذي قبل (الرجل
الثالث) والذي لم يرقى الى مستوى هذا المخرج الكبير. بل وزادت لهفتنا عندما
قرأنا على ملصق الفيلم بأن كاتب السيناريو والحوار هو بشير الديك، صاحب
فيلم (سواق الأتوبيس).
فالاثنان، بدرخان والديك، قمتان من قمم الفن المصري، فكيف سيكون فيلم يحمل
توقيع الاثنان معاً.. لابد أن يكون فيلماً رائعاً، ينتقل بنا الى عوالم من
الخيال والجمال.. ويعيد إلينا عطر وسحر أفلام الإثنين أيام زمان. وما إن
توالت اللقطات والمشاهد الأولى من فيلم (نزوة)، حتى بدأت الخيبة تجتاحنا..
حيث بدأت تمر على الذاكرة ـ بشكل سريع ـ لقطات مشابهة من فيلم آخر أمريكي
الجنسية، اسمه بالتحديد (جاذبية قاتلة)، إنتاج عام 1987، بطولة مايكل
دوجلاس وجلين جلوز وآن آرثر، ومن إخراج أدريان لين. أما في فيلم بدرخان
هذا، فقد قام أحمد زكي ويسرا وشيرين رضا، بتقمص أدوار الأمريكان الثلاثة
بالترتيب السابق.
والغريب في الأمر بأن صناع فيلم (نزوة) لم يذكروا الأصل الأمريكي في تترات
المقدمة، حيث ذكر بأن كاتب السيناريو والحوار هو بشير الديك.. هذا بالرغم
من أن رسم الشخصيات والأحداث في فيلم (نزوة) عبارة عن صورة منقولة عن
الفيلم الأمريكي، بل إنها صورة مهزوزة أيضاً لذلك الفيلم الذي حقق نجاحاً
تجاريا كبيراً عند عرضه، بل ورشح لنيل ست جوائز أوسكار (أفضل فيلم ومخرج
وممثلة وممثلة مساعدة وسيناريو ومونتاج).
في فيلم (نزوة) نحن أمام امرأة جميلة وجذابة اسمها ندى (يسرا)، ولكنها
متقلبة المزاج وصعبة المراس. نتابعها وهي تسعى وراء هدف واحد استحوذ على
كيانها تماماً، ألا وهو جريها وراء المهندس الشاب صلاح (أحمد زكي)، حيث
وجدت الأمان والدفء بين أحضانه خلال نزوة عابرة، بعد أن دفعته لقضاء ليلة
في شقتها أثناء غياب زوجته صفاء (شيرين رضا) في إجازة قصيرة عند والديها.
تتحول هذه النزوة الى كابوس يطارد صلاح في كل مكان، فندى تسعى الى علاقة
أبدية رغم محاولة صلاح إقناعها بأنه يحب زوجته وابنته، وهي لا تريد أن
تقتنع بذلك، بل وتفاجئه بأنها حامل منه، وترفض طلبه في إجهاض نفسها. وحتى
عندما يحاول امتصاص نار وضراوة الغضب في داخلها وإقناعها بالزواج منها
عرفياً ليصبح أباً لطفلها، تسخر منه وتبدأ في مطاردته في كل مكان. وأمام
هذا الوضع الحرج الذي وجد صلاح نفسه فيه، يضطر في أن يصارح زوجته بالحقيقة،
تاركاً لها البيت وهي مصدومة من خيانته هذه. أما ندى فتستمر في مطاردتها
لصلاح وأسرته، مما تضطره لمحاولة قتلها، فتدخل المستشفى لتكتشف بأنها أجهضت
من جراء هذا الحادث، فتحاول أن تنتحر ولكنها تفشل، وتقرر الانتقام من صلاح،
فتقوم بخطف ابنته وتحاول قتل زوجته، إلا أن الفيلم ينتهي بمعركة دامية
يشترك فيها الثلاثة، لتنتهي بندى الى إحدى المصحات النفسية.
هذا هو ملخص لأحداث فيلم (نزوة) الذي الذي احتوى على مشاهد كاملة منقولة من
الفيلم الأمريكي. إضافة الى أن ما قدمه كاتب السيناريو من إضافات قد أفقدت
الفيلم الكثير من مغزاه وحولت الموضوع من "نزوة" الى "علاقة" كان يمكن أن
يكتب لها الاستمرار في ظل ظروف أخرى. فبدلاً من اختصار الفترة التي تجمعهما
في الفراش لتكون ليلة واحدة في الفيلم الأمريكي، يظل صلاح يمرح مع ندى على
امتداد غياب زوجته ما يقرب من أسبوع يستسلم فيه لنزواتها ويشاركها الفراش
في لقطات فاضحة تقوم هي بتصويرها. هنا نشعر بأن السيناريو تجاهل النموذج
المثالي للنزوة، تلك اللحظة الخاطفة التي تتفجر من الأعماق أمام جاذبية
المظهر، والتي تدمر كل شيء من أجل لحظات عابرة.
ولأن شخصية البطلة في الفيلم الأمريكي غريبة عن مجتمعنا، يحاول كانب
السيناريو أن يضفي على شخصية ندى تأثيرات سلوكية. فنحن أمام امرأة عاشت
معظم حياتها في أمريكا ولم تعد الى مصر إلا منذ ثلاث سنوات.. لم تنعم
بالاستقرار والأمان هناك.. تتأزم حالتها النفسية بعد وفاة والدتها وزواج
والدها من أخرى أمريكية.. تقرر العودة الى مصر مع أول رجل يطلب الزواج
منها.. بعد سنوات تنفصل عنه أيضاً لعدم شعورها بالأمان معه. كلها ظروف
أحاطها السيناريو بالشخصية ليضفي عليها بعض المصداقية، إلا أنه لم ينجح في
ذلك باعتبارها لا تبرر تلك التصرفات الغريبة على المرأة الشرقية، التي
جسدتها يسرا على الشاشة.
أما إذا أردنا أن نقيم فيلم (نزوة) بعيداً عن الأصل الأجنبي، فإننا سنتابع
فيلماً قوياً ذو جاذبية خاصة، يمتاز إخراجه بالتشويق والذكاء في اختيار
اللقطات الكبيرة والمتوسطة التي ترصد انفعالات الشخصيات وصراعها، إضافة الى
نجاح المونتاج في تتبع ردود أفعال الشخصيات. ثم هناك الأداء التمثيلي
المذهل من يسرا، حيث تقدم في هذا الفيلم واحداً من أفضل أدوارها في السنوات
الأخيرة. فقد نجحت في انتشال الشخصية من الترهل في بعض مراحلها، وبقيت
واعية بكل تفاصيلها. كما نجحت شيرين رضا في أن تكون ربة الأسرة الجذابة
والواعية لمتطلبات زوجها وابنتها، إلا أنها فشلت في إقناعنا ـ وهذا ضعف في
السيناريو ـ في أن تكون الصحفية الواعية. أما نجمنا الكبير أحمد زكي فلم
يحقق تواجده الحقيقي إلا مع إحساسه بمحاصرة ندى له ولأسرته.
المخرج علي بدرخان في فيلميه (الرجل الثالث ـ نزوة).. بدرخان آخر غير الذي
عرفناه في سنوات السبعينات والثمانينات.. سنوات الازدهار الكمي.. عرفناه
مخرجاً له خصوصيته كفنان متميز، وله حضوره الفني.. عرفناه متميزاً بالتدقيق
الشديد في اختيار موضوعات أفلامه، ذات الصفة الاجتماعية والسياسية
والجماهيرية في نفس الوقت، باذلاً جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً في إعدادها
وتجهيزها قبل التصوير وبعده.
هذا هو بدرخان الذي نعرفه.. مخرج فنان يحترم السينما ووظيفتها.. ويحترم في
المقام الأول عقلية وذوق المتفرج الذي يخاطبه. فماذا حصل لمخرجنا بدرخان في
فيلميه الأخيرين (الرجل الثالث) و(نزوة).. حيث نراه يتنازل عن تميزه الفني
وأسلوبه السينمائي الذي جسده في أفلامه السابقة، وتتغير مصادره عندما يجنح
لمتطلبات السوق.. ففيلمه (الرجل الثالث) يأتي ليحكي قصة بوليسية مستهلكة،
و(نزوة) يأتي من أصل أجنبي يبتعد كثيراً عن الواقع العربي. |