«ليست المشكلة أن يرتكب الإنسان أطنانا من الأخطاء المتنوعة، لكن المشكلة الكبري عندما يقع في نفس الخطأ مرتين».. هناك عدة أنواع من الأخطاء المتعددة حفل بها الصراع الدرامي الدائر داخل الفيلم الأمريكي «ابتسامة الموناليزا» إنتاج 2003 إخراج البريطاني مايك نويل. إذا تعاملنا مع منظومة هذا العمل السينمائي بالتحليل الرأسي والأفقي المتقاطع سنجد هناك عدة أخطاء متنوعة في السلوكيات تثري العمل، لكنها في الأساس أخطاء فكرية متوارثة ومكتسبة من جراء التسليم بالأمر الواقع وانعدام الثقة في إعادة تقييم الأمور واللارغبة في تخطي حاجز الزمن، واستعذاب التجمد الروحاني ليصبح الجميع استنساخا أو مسخا من بعضهم البعض، وكأننا أمام إنسان واحد له عدة أوجه توحي جميعها بلا شيء. يتجلي هذا الكسل الفكري الراكد منذ سنوات طويلة ممتزجا بالخوف المرير داخل كلية ويلزلي العريقة بإنجلترا التي تشيد مجتمعا نسائيا متفردا، وهي المعروفة بتحفظها الشديد وقبولها الطالبات المتميزات جدا وتدريبهن ليصبحن ربات منزل وأمهات فاضلات فقط لا غير، لكن شتان الفارق بين التدريب والتغييب.. هذا الفارق هو الذي كشفت عنه وحاربته بمنتهي القوة والشجاعة والتصميم عام 1953 الأمريكية المتفتحة العقل والثورية المستنيرة كاثرين واطسون (جوليا روبرتس)، الأستاذة المتفائلة لم تكن تعرف أن طالباتها السوبر قد تحولن إلي ماكينات متوقفة النمو، يحفظن تاريخ الفن ويخترن المعلومات عن تفصيلات كل لوحة ويتعاملن مع المنهج الإبداعي من باب الصم الأعمي الذي يتلاءم مع خلاصة صفحات تذكر وفكر عديمة الروح. والمثير للسخرية والشفقة أن حزب الطالبات يرفع شعار الصوت العالي والنبرات الواثقة المتباهية بالكثرة والنظرات المتحدية والواجبات المحفوظة والكبرياء الشامخ والغرور الذي لا يخجل من الاستعراض القصير النظر، وهن في الحقيقة لا يعرفن كيف يتذوقن الفن ولا يفقهن شيئا عن اتجاهات الفن الحديث ولا عن أي تطور في الحياة ويعشن حياتهن بلا أدني طموح في تبعية مهينة وراء العائلة وتقاليد المجتمع وفارس الأحلام المنتظر.. كم هي مثيرة هذه الخطوط التي يحفل بها هذا الصراع الدرامي الذي قام عليه سيناريو لورانس كونر ومارك روزنتال وتداخل الحرية الفكرية والشخصية والفنية من حيث المبدأ، حيث يتعامل الفيلم مع مخطط فكري عالي المستوي يحمل تباشير زعامة نسائية وبواكير ثورة فكرية هادئة الصوت شديدة العمق والمقاومة والصلابة وقوة التأثير والقتال من أجل الحرية، مهما كان الثمن فادحا وثقيلا. كما بني كاتبا السيناريو مع المخرج الرؤية الداخلية في هذا العمل علي منطق عمق التأثير الإيجابي والتأثر البناء، الذي تم تبادله بأشكال ولحظات وكثافة مختلفة بين كاثرين واطسون، وبين نماذج من بعض طالباتها اللائي يمثلن مع زميلاتهن المنقادات وأساتذتهن المستسلمين وقيادات الجامعة المتحجرين داخل هذا العالم الضيق، استعارة المجتمع البريطاني العتيد والعنيد في ذلك الوقت بأجياله المختلفة وعدم تناسقه مع الفكر الأمريكي المتحرر الطموح. فقد استطاعت كاثرين تحريك الجبال الباردة وحولت طالباتها من أعداء إلي مريدات مستنيرات، مثل بيتي (كيرستن دونست) المتشددة السليطة الدمية في يد أهلها منذ الصغر، التي تتهم الآخرين بكل ما تعاني هي نفسها منها وتحاول دون إرادتها إفساد كل شيء جميل وتدمير أجنة الفكر الجريء، ومعها الصريحة الناضجة المتوازنة والمتفاخرة بحريتها السرية جيزيل (ماجي جلينهال)، وجوان (جوليا ستايلز) التي استوعبت مفهوم الحرية الحقيقي واختارت مستقبلها برغبتها. فعلمت كاثرين درسا بليغا عندما شكرتها علي درسها الفكري الحياتي الممتع، لكنها أوضحت لها أيضا اختيارها ما يناسبها من منطلق الحرية التي تذوقتها لأن أحلام جوان تختلف كثيرا عن أحلام كاثرين، ولا يحق للمدرسة أن تحيا داخل أحلام الآخرين، في واحد من أفضل مشاهد الفيلم قوة وتنظيما.. فالمشكلة ليست مقتصرة علي مبدأ عمل الفتاة أو استكمال دراستها، بدليل وجود نموذج زميلة كاثرين المدرسة المخضرمة نانسي (ماركيا هاردن) التي لم تتزوج. واختبأت داخل المنظومة المحافظة واكتفت بتكرار كلمات الدرس عاما بعد عام مثل الببغاء التائه، وإدمان مشاهدة برنامج المسابقات في التليفزيون والفرح الوهمي بحل أسئلته من الوضع جلوسا في مكانها لا تحرك ساكنا ولا تجرؤ علي ممارسة الحياة والتعلق بها.. إذا كانت كل هذه الأرضية الفكرية المثيرة متوافرة تلقائيا طبقا لطبيعة ونوعية القضية المثارة، وهناك نجمة كبيرة مثل جوليا روبرتس، ومعها ممثلات شابات موهوبات وقائد العمل المخرج الإنجليزي مايك نويل بسمعته الفنية الطيبة التي اكتسبها خاصة بعد تقديمه الفيلم البريطاني الشهير «أربع زيجات وجنازة» إنتاج 1994، فلماذا لم يحقق الفيلم درجة نجاح كبيرة وأين المشكلة؟!.. المشكلة في هذا العمل أنه هادئ ورتيب أكثر من اللازم علي مستوي مناطق السيناريو التي تخلخلت من عدم استمرارية القوة طوال الوقت، وانطفاء بريق الحيوية الفكرية في كتابة السيناريو وفي تنفيذه البصري أيضا بسبب تقليدية التقنية والمنهج الإبداعي، الذي لم يتعامل مع المشاهد المختلفة بالجهد اللائق والخيال الواسع الذي تحتمله أكثر بكثير مما رأينا. وبالتالي تحول مونتاج مايك أدسلي وكاميرات أناستاس ميكوس وموسيقي راتشيل بوتمان إلي أدوات خلاقة معطلة كثيرا، تؤدي دورها الاستاتيكي المتوقع دون مدلولات تشعل الرغبة في التأويل، مثل المتعب قبل النوم الذي يقلب صفحات أي كتاب بحكم العادة متثائبا بتثاقل شديد من باب الروتين ليس إلا.. وإذا عقدنا مقارنة سريعة بين سبب النجاح الكبير للفيلمين الأمريكيين «لا للحب» 2003، إخراج بيتون ريد بطولة رينيه زلويجر وايوان ماكريجور، و«شيكولاتة» 2001 إخراج لاس هالستروم بطولة جولييت بينوش وجوني ديب، حيث يطرح الاثنان رؤيتهما حول نفس مفاهيم الحرية والثورية والقيادة النسائية في الماضي بمنظورين مختلفين تماما، سنجدهما يتمتعان بكل ما يفتقده فيلمنا الحالي من حيوية وتدفق وتحكم دقيق في الإيقاع الداخلي والتوازن الواضح في البناء والاختيار الدقيق لجميع الممثلين، وقدرة المخرج علي تجسيد رحيق الزمن القديم ظاهره وباطنه وتفاصيل الكادر الثرية والنسيج البصري المعد جيدا للتعامل مع طبيعة القضية وأطراف الصراع الدرامي، وهو ما لم يتحقق بالقدر الكافي مع الموناليزا رغم ابتسامتها الجميلة. جريدة القاهرة في 4 مايو 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
ماذا ينقص هذا الفيلم ليكون أكثر روعة: خطايا فيلم جوليا روبرتس الجديد "ابتسامة الموناليزا" نهاد إبراهيم |
|