يكرمه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي جميل راتب.. 60 سنة فن وتمرد وجنون حامد حماد |
علي الرغم مما هو معروف لدي الكثيرين بأن البداية الفنية له كانت في فرنسا وتحديدا من خلال خشبة المسرح.. إلا أن تاريخ السينما المصرية يؤكد أن أول عمل فني شارك في بطولته كان في مصر ومن خلال السينما، وذلك عندما شارك عام 1946 في بطولة الفيلم المصري «أنا الشرق» الذي قامت ببطولته الممثلة الفرنسية «كلود جودار» مع نخبة من نجوم السينما المصرية وشبابها في ذلك الوقت وهم حسين رياض وجورج أبيض وتوفيق الدقن وسعد أردش. عن الفنان الكبير جميل راتب نتحدث بمناسبة تكريمه في الدورة التاسعة والعشرين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي التي تقام في الفترة من 29 نوفمبر إلي 9 ديسمبر القادميين. ولد جميل راتب عام 1926 بالقاهرة وبدأ عشقه للتمثيل وهو طالب بمدرسة الأورمان الابتدائية واستمر هذا العشق يلازمه خلال دراسته في مدرسة الليسيه التي نال منها ميدالية الممثل الأول علي مستوي المدارس الأجنبية بالقاهرة، كما حصل أيضا علي جائزة أحسن ممثل علي مستوي المسابقات المدرسية، وخلال دراسته الجامعية بكلية الحقوق قدم عرضا مسرحيا بعنوان «أوديب ملكا» المأخوذ عن أسطورة سوفوكليس وقد شاهد هذا العرض الكاتب المسرحي الشهير أندريه جيد ونصحه بدراسة فن المسرح في باريس وهي النصيحة التي نفذها جميل راتب بالفعل رغم معارضة أسرته اشتغاله بالتمثيل، وسافر إلي باريس في عام 1946، ويحكي جميل راتب: «في باريس بدأ العالم الخاص بي في التشكيل متزامنا مع مزاولة الفن الذي انتمي إليه، وأعيشه ومع الفن والفنانين والكتاب والمفكرين، والقراءة والمشاهدة والعمل أصبح لي عالمي الكامل الذي أجد نفسي فيه وهو عالم الفن والثقافة». في باريس التحق جميل راتب بمعهد الفنون المسرحية وفي السنة الدراسية الثانية بهذا المعهد كون مع بعض زملائه فرقة مسرحية محترفة ضمت مجموعة من الممثلين الفرنسيين الشباب قدموا عددا من المسرحيات علي بعض المسارح الصغيرة، ولأن أسرته كانت تعلم أن سبب سفره إلي باريس هو دراسة الاقتصاد والعلوم السياسية فإنها عندما علمت باتجاهه إلي التمثيل قطعت عنه المساعدة المالية لكي يسرع بالعودة إلي مصر، ويحكي جميل راتب عن ذلك: «عندما قطعت عني أسرتي المساعدة المالية قبلت التحدي واندفعت أكثر إلي تأكيد إخلاصي للتمثيل والمسرح وعالم الفن وكانت فرنسا في هذه المرحلة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تعيش ظروف قاسية، انعكست علينا كفنانين مبتدئين فلم يكن قانون نقابة الممثيلين يطبق حدا أدني لأجور الممثلين مما جعلني أعيش وفقا لشروط العروض والطلب، وفي الأوقات التي لم يكن يعرض علي فيها المشاركة في أعمال فنية كنت أعمل «كومبارس» متصورا أن طريق الفن يبدأ من هذه الفئة، لكنني بعد فترة عرفت أن هناك عصابات تدير هذا العمل فتركت التمثيل لأساعد أحد الباحثين الفرنسيين في إصدار كتاب عن تاريخ المسرح الفرنسي وهو ما جعلني أقف علي كثير من الأمور المعرفية عن المسرح الفرنسي كما عملت في نفس الفترة في مهن أخري منها شيالا ثم جرسونا في أحد المطاعم وكان كل ذلك يزديني إصراراً علي المواصلة في طريق الفن، كما كان لهذه المعاناة أثر كبير في تكوين شخصيتي وأدركت قسوة الحياة التي يعيشها الفقراء في مجتمعات لا تعرف الرحمة. ويضيف جميل راتب، وفي هذا المناخ قدمت أول أعمالي المسرحية المأخوذ عن إحدي مسرحيات شكسبير ثم مسرحية عن المقاومة الفرنسية ضد الألمان خلال الاحتلال الألماني لباريس وغيرها من المدن الفرنسية وكانت هذه المسرحية باسم «أيدينا الحمراء» لجان كبير، ثم قدمت مسرحية «مصرع تاريكس» التي تتناول أوضاع المجتمع الروسي قبل الثورة، ودخلنا بهذه المسرحية مسابقة للفرق الشابة وحصلنا علي الجائزة الأولي وهي عرض المسرحية لمدة شهر علي مسرح «الأهوشتيت» في الحي اللاتيني بباريس، وبعد أن تفرقت هذه الفرقة المسرحية التي كان جميل راتب قد شارك في تكوينها اشترك في أعمال عديدة مع أعضاء فرقة الكوميدي فراتسيز التي تعد من أشهر الفرق المسرحية في فرنسا والعالم منذ أن أسسها الكاتب المسرحي الشهير موليير لتقديم أعماله وغيرها من الأعمال الكلاسيكية وقد وصل عدد الأعمال التي قام جميل راتب ببطولتها مع أعضاء هذه الفرقة الشهيرة أكثر من 50 مسرحية، ويقول جميل راتب: قمت مع أعضاء هذه الفرقة ببطولة عدد كبير من مسرحيات شكسبير حتي أن النقاد الفرنسيين يعتبروني ممثل الأدوار الكلاسيكية، كما قمت ببطولة مسرحيتين من تأليف ألبير كامو مع سناء جميل وهما «سوء تفاهم» و«رقصة الموت»، ولكن هناك مسرحية اعتز بها جدا وهي مسرحية «رجال المظلات» التي تجسد بطولة المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وقد عرضت هذه المسرحية عقب استقلال الجزائر بشهور قليلة وكان العرض يتم في مناخ متوتر ومشحون بالعداء من جانب بعض اليمينيين الفرنسيين المناهضين للثورة الجزائرية مما دعا البوليس الفرنسي لحمايتنا أثناء وبعد انتهاء عرض المسرحية نتيجة تعرض بعض الممثلين الفرنسيين الذين شاركوا في المسرحية للتهديد بالقتل بسبب تمثيلهم للأدوار التي تبين بشاعة الجيش الفرنسي في قمع الثورة في حين كنا أنا وزميلي التونسي «رزاق حميمي» والمغرب «علوش» نقوم بالأدوار العربية، ويبدو أن هذه الروح لم تزل مجردة في فرنسا حتي الآن، وهي الروح التي دفعت المخرج عبدالكريم بهلول إلي إخراج فيلمه «ليلة القدر» التي شاركت في بطولته وعرض في مهرجان القاهرة السينمائي منذ ستة سنوات إذا أراد الفيلم أن يقدم فكرة التسامح في الإسلام بصورته الصحيحة، وبطريقة تختلف عما تقدمه السينما الغربية عن الإسلام، والفيلم تدور أحداثه حول رجل مسلم يعيش مع أسرته في فرنسا للتأكيد علي أن المسلمين يمكن أن يكونوا فرنسيين أو من أي جنسية أخري وأن يتفاعلوا مع هذه الجنسيات بما لديهم من قيم يحض عليها الدين الإسلامي وقد جاء هذا الفيلم ردا علي تصريحات أحد المسئولين الفرنسيين المتعصبين ضد العرب والإسلام حيث نادي بتهجر غير الفرنسيين من فرنسا. السينما المصرية خلال مدة الثلاثين عاما التي عاشها جميل راتب في فرنسا «1946 ـ 1976» شارك بالتمثيل في 15 فيلما كان من بينها أفلام لمخرجين كبار مثل «مارسيل كارني» كما اشترك في العديد من الأفلام العالمية وأولها فيلم أمريكي صور في فرنسا وهو فيلم «السيرك» إخراج كارول ريد وبطولة جينالولو براجيدا وأنطوني كويني وبرث لانكستر، كما شارك أيضا في فيلم «لورانس العرب» إخراج ديفيد لين وبطولة عمر الشريف وبيتر أوتول وأنطوني كوين.. ويعترف جميل راتب بأن أعماله السينمائية كانت عبارة عن مشاركة بأدوار صغيرة ولم تصل إلي البطولة المطلقة لأنه خلال فترة الثلاثين عاما التي قضاها بباريس لم يكن يحب السينما وإنه كان سعيدا بعمله ونجاحه المسرحي في باريس لأنه كان قد رسم لنفسه طريقا بأن يكون ممثلا مسرحيا فقط ومع ذلك فعندما كانوا يطلبونه للعمل بالسينما لم يكن يرفض، ويضيف جميل راتب «بعد ما عدت إلي مصر وشاركت في بطولة العديد من الأفلام السينمائية المصرية أصبح الفرنسيون يطلبونني في أدوار بطولة فعملت سبعة أفلام في السنوات العشر الأخيرة كما عملت أيضا في بطولة ثلاثة أفلام تونسية إنتاج فرنسي مصري مشترك، ويؤكد جميل راتب أن هناك حقيقة هامة لابد أن يذكرها وهي أنه عندما بدأ يعمل سينما في مصر لم يكن لديه خبرة الكاميرا لأن نشاطه السينمائي لم يكن كافيا ولكنه من خلال المشاركة في الأفلام المصرية اكتسب الخبرة السينمائية. الكداب أما عن الأفلام المصرية التي شارك فيها بعد عودته من فرنسا فيقول جميل راتب أول فيلم شاركت فيه كان «الكداب» ثم البداية إخراج صلاح أبو سيف ثم فيلم «علي من نطلق الرصاص» إخراج كمال الشيخ، كما مثلت للتليفزيون قصة حياة كامل الخلعي تحت عنوان «عصفور الشرق»، وبعد ذلك جاءت مشاركتي في فيلم «الصعود إلي الهاوية» إخراج كمال الشيخ وكان هذا الفيلم نقطة تحول كبيرة في مشواري السينمائي في مصر كما حصلت عن دوري في هذا الفيلم علي أكثر من جائزة، ثم شاركت في بطولة عدة أفلام منها «قاهر الزمن» لكمال الشيخ، و«لا عزاء للسيدات» إخراج بركات و«وداعا بونابرت» ليوسف شاهين حتي وصل عدد الأفلام التي شاركت في بطولتها إلي أكثر من خمسين فيلما أذكر منها أيضا «الكيف» لعلي عبدالخالق، وقد حصلت عن دوري فيه علي جائزة وفيلم «بيت بلا حنان» و«عفاريت الأسفلت» و«شعبان تحت الصفر» و«الحب في الزنزانة» و«طيور الظلام» و«علي باب والأربعين حرامي» و«حكاية وراء كل باب»، وغيرهم. كما شاركت في بطولة عدد من الأفلام العربية ذات الإنتاج المشترك ومنها فيلم «كش مات» من إخراج التونسي رشيد قرش وشاركت في بطولته معي شريهان. وإلي جانب الأعمال المسرحية والسينمائية السابقة فقد أخرج جميل راتب للمسرح القومي مسرحية واحدة هي «الأستاذ» تأليف الكاتب الكبير الراحل سعد الدين وهبة، كما شارك في بطولة العديد من المسلسلات التليفزيونية الناجحة منها «أحلام الفتي الطائر»، «الرايا البيضاء»، «رحلة المليون»، «يوميات ونيس»، «وجه القمر»، وحاليا «المرسي والبحار» و«أنا وهؤلاء». أما عن حياته الأسرية فقد تزوج جميل راتب في عام 64 من فتاة فرنسية كانت تعمل بالتمثيل الذي اعتزلته بعد ذلك وتفرغت للعمل كمديرة إنتاج ثم منتجة منفذة ثم مديرة مسرح الشانزليزيه، ورغم أقامته الدائمة منذ أكثر من عشرين سنة بالقاهرة إلا أنها تعيش بباريس ويقول جميل راتب عندما أذهب إلي باريس أقوم بزيارتها في بيتها الريفي لأننا شبه منفصلين منذ فترة لكن بيننا احتراما وتقديرا. ومن النجوم العالميين الذين يرتبط معهم بصداقة يقول جميل راتب إنه النجم العالمي أنطوني كوين وكنت حتي سنوات قليلة أرسل له الخطابات. جميل راتب فنان جميل اسما وفعلا عشق الفن منذ نعومة أظافره فبادله الفن عشقا بعشق وها هو يجني إحدي ثمار هذا العشق بتكريمه في أكبر مهرجان سينمائي علي مستوي الشرق الأوسط وإفريقيا وأحد أكبر عشرة مهرجانات علي مستوي العالم. جريدة القاهرة في 1 نوفمبر 2005 |
وداعًا روبرت وايز رحيل مخرج «قصة الحي الغربي» محمود قاسم * أخرج 27 فيلمًا في الفترة بين عامي 1944 و1959 في حين لم يخرج سوي 11 فيلمًا في الـ 45 عامًا الماضية * أشهر أفلامه «صوت الموسيقي» شاهدته 80 مرة بنفس الدهشة والإعجاب والمتعة يستحق هذا المخرج أن نكتب عنه بإجلال شديد، في الوقت الذي تجاهلت صحافتنا حتي الإشارة إلي خبر وفاته. روبرت وايز (1914 ـ 2005) هو واحد من القلائل الذين صنعوا بهجتنا لسنوات طويلة، ويكفي أنه الذي أخرج فيلمي «صوت الموسيقي»، و«قصة الحي الغربي» لندرك مدي ما كان يتمتع به من موهبة، وما تركه لنا من تراث مهم، فعلي المستوي الشخصي، فأنا واحد من الذين شاهدوا «صوت الموسيقي» أكثر من ثمانين مرة، وفي كل مرة، أتعامل معه كأنني أراه لأول مرة، فيشدني من عالمي الذي حولي، واندمج بداخل أسرة فون تراب والراهبة ماريا طوال ثلاث ساعات.. الفيلم حالة خاصة علي المستوي العالمي، والعام، والخاص. و«وايز» المدهش هذا، لم يخرج في الخمسة وأربعين عاما الماضية، سوي أحد عشر فيلما، وكان قد أخرج سبعة وعشرين فيلما في الفترة بين عامي 1944 و1959. لكن هذا لا يعني أي تفسير، فهو في كلتا المرحلتين يقدم أفلاما ممتعة، جدلية، ويتعامل مع النجوم في أحسن حالاتهم. أهمية روبرت وايز أنه مخرج منفذ جيد للغاية لسيناريو معد له، وهو حريص تماما علي التنوع وألا يحبس نفسه داخل إطار بعينه، فقد جرب إعادة التعاون مرة أخري مع جولي أندروز في فيلم «النجمة» عام 1968 بعد نجاح «صوت الموسيقي»، لكن التجربة لم تأت بنفس الصورة، ولا بأضعف منها بقليل. ويري «وايز» مثلا أن ما يشده إلي السيناريو المكتوب من غيره، أنه يجب أن يستولي عليه أثناء قراءته، وأن القصة يجب أن تسفر عن فيلم جيد، ثم ما الذي سيقوله الفيلم، وما هي القيمة التي سيقدمها للمشاهد، أولي أهمية قصوي للشخصيات، وللقصة ولما تقوله القصة، بعد ذلك يتعين علي أن أفكر في النواحي العملية، أي تكلفة الفيلم، وتوقعاتي للنجاح، وهل سيكون هناك جمهور للفيلم..؟». ولأن «وايز» كان مخرجا منفذا بقوة للسيناريو، فإنه، بالتقريب، أخرج كل أنواع الأفلام المتعارف عليها، ابتداء من فيلم الخيال العلمي في تجارب عديدة منها «رحلة إلي النجوم» عام 1979، وهو آخر أفلامه، إلي «خلية أندروميدا» عام 1971 وهي تجارب مهمة في سينما النوع، فقد جعل من المسلسل التليفزيوني، «رحلة إلي النجوم» عند تحويله إلي السينما، عملا جماهيريا، متقنا بشكل ملحوظ.. وكذلك فعل بالنسبة لفيلم «أندروميدا» حول تلوث الكرة الأرضية بفيروس جاء به علماء الفضاء من خارج الأرض. ولعل الفيلم التاريخي، أو الأسطوري «هيلين طروادة» الذي قدمه «وايز» عام 1955، هو الأجمل والأكثر قربا إلي القلب، المأخوذ عن «أوديسا» هوميروس، من بين كل الأفلام المصنوعة عن ذلك النص الأدبي، وبدا «وايز» كأنه فهم النص الملحمي، وهو ربط مصائر المحاربين، والعشاق بأقدار يعرفونها مسبقا. أما فيلم «حصي الرمال» الذي قدمه عام 1966، فهو عن بارجة حربية تذهب إلي الصين إبان الحرب وتعاني من الكثير من المتاعب، كما أن «وايز» قدم فيلما حربيا آخر عام 1975 حول احتراق المنطاد «هندنبرج» في الوقت الذي قدم فيه الرحلة الأخيرة للمنطاد هندنبرج. وقد قدم «وايز» في عام 1958 رائعته «أريد أن أعيش»، من بطولة سوزان هايورد، وفيه قصة حقيقية عن فتاة ليل أعدمت في غرفة الغاز، علي الرغم من الظلال الكثيفة من الشك حول ارتكابها لجريمة قتل. ومن أفلام الوسترن الأمريكي، إلي الفيلم البوليسي، والاجتماعي، فإن سينما «وايز» خلت تقريبا من الأفلام العاطفية أو الرومانسية، لكنه في ختام حياته، كان حريصا علي تقديم فيلم «أودري روز» من فصيلة أفلام الظواهر الخفية. وهي الأفلام التي انتشرت بقوة في حقبة السبعينيات من القرن العشرين حول ظاهرة التقمص، فالطفلة أودري روز تعيش مع أسرتها الصغيرة، وقد تقمصتها روح طفلة أخري، ماتت لتوها لحظة ميلاد أودري، وعلي والد الطفلة التي ماتت أن يعتبر أودري ابنته، لأن روحها تهفو إليه. والحق أن «وايز» كمخرج جيد، كان مخلصا، وهو يخرج كل هذه الأنواع، وكان يبهرنا دون أن يكون له أسلوب محدد عرفناه عند مخرجين آخرين من جيله، مثل هيتشكوك، وأيضا من الجيل الذي سبقه وعلي رأسهم جون فورد. لذا، فإن الكتابة عن «وايز». يمكن أن تتباين من فيلم لآخر، رغم جودة هذه الأفلام، وذلك لتباين أسلوب المخرج، وأنا أعترف أن المخرج الذي أبهرني في «قصة الحي الغربي» وفاز بجائزة الإخراج عن الفيلم الذي نال إحدي عشرة جائزة، قد سلب كل مشاعري المحايدة، وجعلني مفتونا بعائلة فون تراب في فيلم «صوت الموسيقي». وكي تتخيل هذه الموهبة الخارقة، فإن قصة عائلة فون تراب قد قدمتها السينما البريطانية عام 1958 في فيلم موسيقي، خرج تماما من ذاكرة تاريخ السينما، لكن «وايز» أدخل هذه الأسرة التي عاشت بالفعل في النمسا إبان النازية، قد صنع باقة فيلمية ليس لها مثيل، وقد بدا لدي عشقه للطبيعة، من اللقطات الأولي للفيلم، حيث جعل ماريا تجري في أعلي التل الآخر، ويبرزها فجأة في الكادر، وهي تتنهد، سعيدة، وتغني للموسيقي. لم يكن الفيلم مجموعة أغنيات تُمجد فيه الموسيقي، ولا حكاية عن الضابط المتقاعد فون تراب الذي وقع في غرام مربية أطفاله السبعة، ولا عن قصة صعود المودة بين المربية والأطفال، ولا عن مقاومة للنازية، والهروب منها إلي الحدود السويسرية، فكل هذه الموضوعات يمكن أن تجدها في أي فيلم، لكن يبدو أن العشق الأنيق للطبيعة قد جعل «وايز» يخرج لنا عملا ذا نكهة فريدة، لم تتكرر في السينما وهو في رأيي الشخصي الفيلم الأول في حياتي وسط آلاف الأفلام التي شاهدتها. «وايز» الذي بدأ حياته كمونتير، بدا كأنه استفاد من هذه المهنة جيدا. حين اتجه إلي الإخراج، فهو يعرف جيدا كيف يتم ضبط إيقاع الفيلم، ولا شك أن هذا في حد ذاته يعطيه نكهته الخاصة، لذا فإنه يقول إن جميع العناصر الفنية قد توفرت في فيلمه التحفة «صوت الموسيقي»، وأعتقد أن القصة نفسها مؤثرة جدا وتلمس القلوب، وطريفة ومضحكة أيضا، وهي كما تعرفون عن العائلة والحب، كما كانت كلمات الأغنية والموسيقي لرجروز وهامرستين جماهيرية جدا، كذلك أتقنا جدا في اختيار الممثلين. لا أعتقد أنه كان يمكن أن يكون هناك أفضل من جولي أندروز وأيضا بقية الممثلين. كما أننا وفقنا في مواقع التصوير في سالزبورج والنمسا وجبال الألب، وأعتقد أن هناك عنصرا آخر مهما لا تستطيع دوما التنبؤ به، وهو توقيت عرض الفيلم. في رأيي أنه عندما عرض فيلم «صوت الموسيقي» كان العالم متعطشا لذلك النوع من القصص المؤثرة والمسلية في الوقت نفسه. وكي نؤكد علي أهمية «وايز» كمخرج، فإن ثلاثة من أفلامه علي الأقل، تم اقتباسها لدينا في السينما المصرية، الأول هو «حب أحلي من الحب» لـ«حلمي رفلة» عام 1975، عن «صوت الموسيقي»، ثم «قصة الحي الغربي» لـ«عادل صادق» عن فيلم بالاسم نفسه للمخرج، ثم فيلم «امرأة آيلة للسقوط» إخراج مدحت السباعي، عن فيلم «أريد أن أعيش». التجربة الأولي التي أخرجها حلمي رفلة، رغم أنها فيلم غنائي، غنت فيها نجلاء فتحي وأدت استعراضات، إلا أن التجربة بدت باهتة وساذجة للغاية، حول الضابط الأرمل الذي يتزوج من مربية أطفاله، ورغم أننا أمام القصة نفسها، فإن الفيلم الذي دار في مدينة القاهرة يختلف تماما عن الفيلم الأمريكي الذي دار بين قصر فون تراب، وبين دهاليز الكنيسة، وقمم الجبال، والمدن النمساوية الصغيرة، ووسط ألحان متميزة، فإن هذا يعكس ما أسميناه بنكهة «وايز». وإذا كان فيلم «صوت الموسيقي» مأخوذا عن كوميديا موسيقية، عرضت في بردواي عن عائلة فون تراب، فإن «قصة الحي الغربي» كانت أيضا كوميديا موسيقية عرضت في برودواي لعدة سنوات، قبل إنتاج الفيلم، لكن الفكرة العامة مأخوذة عن مسرحية «روميو وجولييت»، لكن السينما المصرية حاولت الالتزام باسم الفيلم الأمريكي، لكن ليس بأجوائه، فأجمل ما في الفيلم، هو استعراضاته، خاصة استعراضات الشوارع الجماعية، وتم إخواء الفيلم المصري من بهجة الفيلم الأمريكي التي صنعها من خلال هذه الاستعراضات الرائعة وبدا كم أن السينما المصرية تعشق الحواديت، وأيضا الأجواء الملحقة بها، ولا شك أن هناك مسافة واسعة بين «وايز»، وعادل صادق. وإذا كان فيلم «أريد أن أعيش» مأخوذا عن حياة فتاة الليل بربارا جراهام، وهي قصة حقيقية، حول الإعدام في غرفة الغاز، فإن مدحت السباعي، عندما اقتبس القصة في الفيلم المصري «امرأة آيلة للسقوط» عام 1992، قد حاول أن يجعل من أحلام شخصية أقرب إلي بربارا، فهي تمارس العديد من الأعمال الخارجة عن القانون، منها الدعارة، والقتل، لكن المخرج المصري كان أكثر رحمة ببطلته،، حيث أنقذها من الشنق في اللحظة الأخيرة، بينما تعمد «وايز» أن يحضر مراسيم إعدام مواطن أمريكي بالطريقة نفسها، كي ينفذ ما رآه في بربارا جراهام، وجاء الفيلم بالغ التأثير، والأهمية، واستحقت سوزان هايورد جائزة الأوسكار، في واحد من أفلام عديدة نال أبطالها جائزة التمثيل في الأفلام التي أخرجها روبرت وايز. جريدة القاهرة في 1 نوفمبر 2005 |