مسيرة البطاريق دراما الطيور تنافس دراما البشر بقلم / إبراهيم الملا |
في العام الماضي حقق المخرج المثير للجدل "مايكل مور" من خلال فيلمه التسجيلي (9/11 فهرنهايت) رقما مذهلا في إيرادات الصالات التجارية، أولا لجرأته وقوة موضوعه، وثانيا لأنه دخل تاريخ السينما من أوسع أبوابها عندما حاز السعفة الذهبية لمهرجان كان كأول فيلم يأتي من خارج الدراما التقليدية والروائية كي ينال هذا التكريم النادر، اعتقد النقاد أن هذه الظاهرة لن تتكرر مع أي فيلم وثائقي آخر، ولكن ظهور أفلام وثائقية متقنة موضوعا وشكلا مثل "هجرة مجنّحة" Winged Migration للمخرج الفرنسي "جاك بيرين" وفيلم ''مسيرة البطريق'' March of the Penguins للفرنسي أيضا "لوك جاكيه"، جعلت النقاد أنفسهم يتراجعون عن أحكامهم السابقة، فالفيلم الأول تم تنفيذه خلال أربع سنوات متواصلة واحتوى مشاهد من زوايا خرافية ومذهلة تظهر لأول مرة في تاريخ التصوير السينمائي، حيث أن الكاميرا في هذا الفيلم ظلت تلاحق الطيور المهاجرة وهي تخترق بأجنحتها سماوات المناطق والأقاليم المختلفة في العالم ومن دون استخدام أية خدع أو تقنيات بصرية إضافية، وتم ترشيح الفيلم لجائزة الأوسكار (فئة الأفلام الأجنبية)، الفيلم الثاني الذي نحن بصدد الحديث عنه تجاوزت إيراداته في الصالات السينمائية سقف الخمسين مليون دولار رغم أن الشركة الموزعة (وارنر إيندبدنت بيكتشرز) كانت قد اشترت الفيلم بمليوني دولار فقط، ما شكل ظاهرة جديدة وغير مسبوقة في سوق العروض التجارية، كما أن هذا الفيلم الذي تم تصويره في القطب الجنوبي وفي ظروف قاسية وغير اعتيادية قد نقل بدقة مذهلة سلوكيات البطريق الإمبراطوري المعروف بزواجه الأحادي أو (الكاثوليكي)، الفيلم نفسه كان أمينا أيضا للأجواء الشعرية التي عادة ما تظلل هذه الأمكنة النائية وتطبعها بسحر خاص وآسر رغم الظروف المناخية المتطرفة وغير الاعتيادية. رحلة في البراري البيضاء يحكي الفيلم قصة الهجرة السنوية المستعادة منذ آلاف السنين لطيور البطريق الإمبراطوري إلى منطقة (الأموك) في صحراء (الأنتركتيكا) البيضاء والتائهة في غياهب القطب المتجمد الجنوبي، حيث اعتادت هذه الطيور من خلال استخدامها لغريزتها الداخلية ورغبتها في التكاثر على التوافد إلى هذه المنطقة بالذات لممارسة طقوس الغناء والتزاوج والرقص الإيحائي المشبع بالتودد والغزل وتوليد طاقة الحب التي ورثتها هذه الطيور الغامضة عن أسلافها وتغلبت من خلالها على شروط الفناء والانقراض. لا يتم تتويج هذه المرحلة الأولى من رحلات الهجرة السنوية إلا بعد خروج البيضة التي تخبئ وراء قشرتها الصدفية الرقيقة وعدا خارقا بالحياة، وبشارة تتحدى كيد الطبيعة وعنفها. تقوم اللقطات التأسيسية الأولى من هذا الفيلم على رصد مظاهر الهيبة الكبيرة التي تفرضها مثل هذه المناطق المسيّجة بعزلتها السحيقة والمهيمنة والتي يختلط فيها النقاء بالرهبة، والصمت الكلي بضجيج الخوف والوحشة، فهنا فقط يمكن أن يلتقي الفناء بالخلود في رحلة محفوفة بالمغامرة والغدر، وفي مسيرة تمتد منذ ولادة الحياة في البيضة وحتى هلاك الطيور في رحلتها الأخيرة، ومنذ بزوغ الشمس العابرة في الصيف وحتى هبوط الليل في شتاء لا يكاد أن ينتهي. هذا الصراع المرير بين الرغبة في الحياة وبين سلطة الشتاء سوف يجبر هذه الكائنات النبيلة على صناعة نوع من العقد الاجتماعي القائم على توليد الدفء والحماية من خلال الهجرة على شكل قافلة أو طابور يتحدى عقبات الطرقات الثلجية الوعرة والجبال الآيلة للانهيار، وكذلك من خلال الاحتشاد والتجمع والتقارب الجسدي اتقاء لبرودة الرياح القارسة وغبار الثلج الهابط عليها كالسهام! رائحة المياه تبدأ المرحلة الثانية من هذه الهجرة القاسية عندما يحتفظ الذكور بالبيضة في منطقة (الأموك)، بينما تتجه الإناث في رحلة البحث عن أسماك المحيط والذي - يا للمفارقة - يقبع تحت أقدامها ولكنها لا تعثر على منفذ أو مستنقع صغير كي تبدأ به رحلة البحث عن خلاص للجنين النائم في البيضة، والمقبل على حياة خشنة وعنيفة، عندما تشم الإناث رائحة الماء وتصل أخيرا إلى البوابات المفتوحة على الأعماق فإنها تقوم بقذف نفسها مثل طلقات نارية طائشة باتجاه الوليمة المنتظرة من الأسماك وكائنات المحيط الصغيرة والقادرة على إسكات جوع الأبناء المُنتظرين، لا تخلو هذه الرحلة أيضا من المنغصات وهجمات (فقمة النمر) الشرسة، كما أن رحلة العودة لا تسلم من الطرق الوعرة والدروب التي يشكلها المزاج المتقلب للجليد. بعد عودة الإناث تكون الأفراخ الصغيرة قد خرجت للحياة ويكون الجوع فارضا حضوره بقوة على الجميع، وبعد لقاء نادر وأخير بين الإناث والذكور تستعاد فيها لحظات الرقص والغناء تبدأ الرحلة الثالثة للذكور كي تبحث هي الأخرى عن غذاء يسد جوع الشهور الأربعة المتضمنة مراحل الحضانة والتفقيس، أما الرحلة الرابعة والأخيرة فلن تشمل سوى الصغار أنفسهم حيث يكتشفون بخبرتهم الذاتية شكل الحياة وقسوة المكان ولا نهائية المحيط وفضائل الغريزة الداخلية الخالصة والمخلصة لاندفاعاتها المسدّدة تجاه الطبيعة. الكاميرا المقرّبة والأليفة ابتعد المخرج في هذا الفيلم عن الأنماط التقليدية التي درجت على تناولها الأفلام الوثائقية المتمحورة حول الطيور والحيوانات والتي يطرح معظمها الشكل التعليمي ويهمل الجانب البصري والدرامي المتعلق بسلوكيات ومشاعر هذه الكائنات المتوحدة والغامضة والمتناغمة مع بيئتها وطرائق عيشها في هذه البيئة. اعتمد الفيلم أيضا وبشكل كبير على المونولوج الداخلي والحوارات الافتراضية والشعرية التي تدور بين ذكر البطريق وأنثاه وبين الوليد المرتبك أمام صدمة التعرف على الحياة الخارجية وعلى الظروف المناخية الهائجة، لم تخل هذه الحوارات من بعض الجمل الدلالية المليئة بالحكمة والعمق الفلسفي والأدبي المنسجم مع جو الألفة والحميمية ومع جو الصراع الهائل مع شروط المكان ومتطلباته. رأينا اللقطات المقربة في هذا الفيلم وكأنها مصاغة من خلال كاميرا رهيفة ومنسجمة مع دواخل الطيور ومشاعرها النبيلة التي تتفوق في أحيان كثيرة على المشاعر الملوثة والرمادية للبشر، ورغم أن الأفلام الوثائقية التقليدية تعتمد على الرصد والتلصص والمناورة للخروج بمشاهد تلقائية وعفوية، إلا أن الصور في هذا الفيلم كانت متغلغلة في التفاصيل حد اندماج المشاهد الكلي بأعراس ومآسي البطاريق، وإحساسه الحقيقي برعشات البرد والخوف والشفقة والحرية الكبيرة أيضا، حيث أن الفيلم لم يهمل الفضاءات البانورامية المكملة لملحمة الجسد والغريزة ولذة اكتشاف الأمكنة المسوّرة بالغموض والخرافة، وبالكائنات الضئيلة في حجمها والهائلة بحواسها وابتهالاتها السحرية، وانتصارها المذهل على اليأس والخنوع وجبروت الطبيعة. موقع "فراديس" في 1 نوفمبر 2005 |
نور الصباح.. ليلى علوي د. أحمد يوسف ربع قرن أو يزيد يفصل بين أحد الأفلام الأولى للنجمة ليلى علوي، وهو البؤساء لعاطف سالم، وبين فيلمها الأخير حتى كتابة هذه السطور بحب السيما لأسامة فوزي، وياله من فرق هائل يفصل بين صورتيها فى الفيلمين، الصورة الأولى للمراهقة الحائرة بين ولائها للرجل العجوز الذى طواها تحت جناحه الحنون بعد أن كانت يتيمة ضائعة، وحبها لشاب متمرد يدفعها لأن تهجر العجوز الذى تطارده العدالة. أما الصورة الثانية فللمرأة الناضجة والأم لطفلين، اضطرت بعد زواجها من رجل يستولى عليه الرعب من ارتكاب الخطيئة أن تنسى أحاسيسها كأنثى لكنها كانت تعاودها فى نوبات لا تستطيع السيطرة عليها، لكنها تعلمت كيف تقتل هذه الأحاسيس قتلا عندما يموت الزوج ويترك لها الطفلين، ليستولى عليها الرعب من الحياة ذاتها وتصبح أكثر صرامة وقسوة. فى كل الصور التى تظهر فيها بطلة ليلى علوي، فتاة كانت فى مقتبل العمر أو امرأة فى ذروة الاكتمال، قد تبهرك للوهلة الأولى تلك الملامح ذات المزيج الفريد الذى تتمتع به، ويجمع بين المسحة الأوروبية فى عينيها الملونتين وشعرها الأشقر، وبين الطابع الشرقى الخالص الذى يذكرك بجمال الفتيات اللائى يعشن فى عالم ألف ليلة وليلة، لكنك إذا تأملت وجهها لأوحى لك على الفور بانطباع عميق بالبراءة الفطرية الممتزجة بحضور أنثوى طاغ، وهذا ما يجعلها دائما رمزا للبراءة المشتهاة، وكأنها وردة ندية تغرى العشاق بقطفها، قد تستطيع أن تدافع عن نفسها أحيانا بأشواك رقيقة، لكنها فى أغلب الأحيان تتعرض للمرارة والذبول. إن هذا المزيج المتفرد من الأحاسيس الذى توحى به كان السبب فى أنها استطاعت أن تفلت من أسر صورة البطلة الجميلة الرقيقة الذى عاشته فى أفلام بداية الثمانينات، وإن كانت حتى فى هذه الأفلام قد أكدت موهبتها وقدرتها على تحطيم هذا الإطار الضيق، وشيئا فشيئا اكتسبت ليلى علوى النضج الفني، ومع براءتها الفطرية تستطيع أن تلمح بين الحين والآخر التماعة التحدى وشراسة الغريزة، أو هدوء اليقين وثبات الروح، وإثارة الضحكات وتفجير الدموع، وهو ما أكدته مع فيلم عاصم توفيق ومحمد خان خرج ولم يعد فى دور الفلاحة البسيطة التى لا تغير ملابسها الريفية المتواضعة طوال الفيلم، لكنها تمثل للبطل الحائر القادم من المدينة الخانقة رمزا للفطرة والبساطة والتلقائية، ومع عاطف الطيب فى البدرون هى ابنة الطبقة المطحونة التى تصارع للبقاء على قيد الحياة فى مجتمع تحكمه قوانين الغاب، ومع عاطف الطيب أيضا فى ضربة معلم هى زوجة الضابط التى يمتلئ قلبها بالإيمان بعدالة قضية زوجها فى صراعه الدموى ضد مؤامرات رجل طاغية. ولأن هذه البراءة المنتهكة أصبحت لدى المخرجين علامة مسجلة للنجمة ليلى علوي، فإن بطلتها عاشت تجربة الاغتصاب فى سلسلة أفلام متوالية بين عقدى الثمانينات والتسعينات، لتعود مرة أخرى لتطلق موهبتها من عقالها عندما اقتربت من جديد من تجسيد أحلام الناس العاديين وآلامهم، فى العديد من المسلسلات التليفزيونية مثل العائلة و التوأم وحديث الصباح والمساء وبنت من شبرا، وفى السينما فى فيلم سعيد مرزوق آى آى فى دور ابنة الطبقة الفقيرة التى تسعى لأن يحصل أبوها بعد موته على مالم يحصل عليه فى حياته: جنازة رسمية مهيبة!! وإذا كانت أفلامها أصبحت أقل عددا فى الفترة الأخيرة، فإنها تمثل فى الأغلب علامات فنية مميزة، فمع المؤلف والمخرج رأفت الميهى تؤدى دورا مزدوجا هو محور قليل من الحب كثير من العنف، تكمن فيه كل الدلالات المتناقضة التى توحى بها من البراءة والشراسة فى وقت واحد، ومع محمد حلمى هلال ومجدى أحمد على تصبح فى يادنيا ياغرامى واحدة من ملايين الفتيات الباحثات عن مكان تحت الشمس الحارقة فى وطن يحتشد بالمتناقضات، ومع وحيد حامد وشريف عرفة فى اضحك الصورة تطلع حلوة تقف أمام أحمد زكى ليقدما دورين هما بعض جوهر الشخصية المصرية التى تصنع الحلاوة من المرارة، وهذا هو المزيج الصافى الرائق من رحيق الحياة الذى تجسده ليلى علوي، وتدعوك إلى ارتشافه لآخر قطرة منه حتى الارتواء.. العربي المصرية في 30 أكتوبر 2005 |