المخرج / مايكل مان احتراف اللعب السينمائي بين فنية الفيلم وشباك التذاكر احمد ثامر جهاد |
بالقدر الذي تنأى فيه بعض القراءات النقدية عن متابعة التناسل اللانهائي لأفلام الحركة ( الآكشن ) لما تتميز به من بناء نمطي وتشويش للحواس ، تقترب أخرى من عتبة نوع من الأفلام الجيدة لا يتورط كثيراً في اعتماده الحبكة البوليسية أو العنف المجاني وسيلة لإرضاء ميول المشاهدين أو استثارتها ، وذاك الاتجاه الفيلمي صورة مُخفَفَة عن التوغـل في اعتماد المؤثرات البصرية أو غيرها طريقة لدعم البطولات الهوليودية الخارقة في عديد من الأفلام . كما أنها( أي تلك الأفلام التشويقية الرصينة ) صيغة مشروعة لتحويل الإثارة من دائرة الشخصي إلى العام ، وعرض فني متزن يخوض – خلال سبل معالجته السينمائية – في مضمار تناول ابرز قضايا الواقع تأثيراً في الرأي العام الأمريكي وما يتشكل فيه من تضاليل ، تفانت السينما – اكثر من غيرها – في تغذيتها بقصص مفتعلة شوهت الحقائق السياسية والأخلاقية عندما قدمتها كواقعة ممحوة ببريق جذاب من الحيل والفبركات السينمائية ومع كثرة أفلام الحركة المعروفة للجميع بإيقاعها السريع والمؤثر ، بدا المُشاهد في أحيان كثيرة غير معني بها مثلما كان ، وربما حاد بإرادته عن الإعجاب الساذج بها ، لاسيما التماهي معها ، ذلك بعد أن أعلنت حواسه مللها الشديد من الصنعة المكرورة ، ولرغبته الملحة في الخروج من صورة ( السُحن المدماة والعضلات المفتولة ) ، أملاً في تداولات فنية أخرى ، تهمنا اكثر وفيها يتوفر عمق إحساسنا بالسينما . فكان أن شَخّصَ المُشاهد شيئاً من عيوب هذا النمط من الأفلام ، وأدرك في الوقت عينه طبيعتها التضليلية وردود فعله إزائها من جملة ما أدرك من مسائل تَطلبَ رصدها ، انزياحه التام عن طوباوية البطل المثالي وديمومته ، كما عن الوقوع في أغراء ما هو متاح للجميع ، نحو عقلانية أجدى تترفع عن الهوس أو الانشغال المُمعن فيه وبكل الأحوال لا يؤشر هذا الطرح أننا سنتخلى يوماً ما عن عدِّ السينما عالماً مشروعاً من الأحلام والأمنيات وفرصة حقة لاصطياد الجمال الكامن فيها . فليس الخيال والمتعة والغرابة كما الإبهار ، مما يسهل إنكاره أو التغاضي عنه ، إنما الوعي فقط بفاعلية الفيلم السينمائي هو ما يكشف لنا تعدد مظاهره وضرورة ذاك التعدد الذي يوجز أساساً انشغال الذات في صياغة خطابها الفني ، صوت عنايتها ( بالآخر ) والدلالة المسؤولة عنه . ولكي تبدو الإشارة قريبة ودالة على أعلاه نلاحظ أن الخبرة الفنية التي يعتمدها مخرج ما تتجسد محددة وواضحة في تقنية تقديمه المحتوى ، وهي بلا شك تقنية لا تقل شأواً عن تلك التي تخلقها الآلة التقنية الحديثـة . فعلى المخرج أن يذهب لمعرفة دقيقة حول : كيف يقع الاختيار على الموضوع ، صياغته ، ضمان التشويق به ، طريقة معالجته .. عندها نرى الكيفية التي يحاول الأسلوب بها صياغة ( الحبكة الدرامية ) والاستيلاء الممكن على توظيفاتها في حقل الاشتغالات المتنوعة للسرد الفيلمي . الأمر الذي يجعل نسبة من الإثارة مطلوبة في تشكيل عمق المبنى الدرامي واقتراح الشكل السينمائي الملائم لمحتواه يشار أيضاً إلى حرفة تقديم المسار الدرامي كأحد الثوابت الأساسية في صناعة سيناريو الفيلم السينمائي المتوجه لطرح ثيمة معينة . ومـا يهمنا هنـا على نحـو مـحدد ، تلك ( الهارمونية ) المدروسة في بناء فنية الفيلم والإقناع المتعين بها ، وهي ميزة الطريقة التعبيرية التي تتمخض عن العلاقة الحساسة والواعية بين صانع ( الصورة ) ومتلقيها . سيتطلب سياق الحديث عن هذا الصنف من المخرجين الواثقين من قوة أدواتهم الفنية ، التنويه ببعض أفلامهم المُجسِدة لذاك المزج بين التشويق والحركة والإمتاع . وباستثناء خاص يجب الوقوف عند المخرج أفلام (مايكل مان) الذي عرفه الجمهور بأفلام سينمائية شهيرة مثل : آخر الرجال الموهوكينز حرارة العليم حاول فيها باحتراف نادر تقديم توليفة ذكية جمعت بين تقليدية الموضوعة وحداثة الأسلوب . فكان أن أعاد الجاذبية لأفلام الحركة دون التخلي عن قيمة مضمونها وروعة أدائها . في شريطه ( حرارة - 1995) على سبيل المثال لا الحصر ، نلاحظ عنايته الواضحة في صناعة فيلم سينمائي يقف إتقانه في معادلة التوازن الصعب والحرج بين متطلبات العرض الجماهيري ( شباك التذاكر ) وبين البناء الإخراجي المحترف . فيراهن على إبقاء لمساته الخاصة سبيلاً لضمان النجاح في الحالتين ، لا سيما أن عنصر الإخراج هو الكلمة النهائية والصفة اللافتة للنظر في هذا النوع من الأفلام . إضافة إلى تعاونه مع ممثلين كبار ( آل باشينو ، روبرت دي نيرو ، فال كيلمر ) في هذا الفيلم ، وجدوا انه سيقدمهم بقالب مؤثر إلى حد ما يختلف عن بعض أدوارهم السابقة وبنفس الجدارة والحماس عاد ( مايكل مان ) في العام 1999 وبالتعاون مع ( آل باشينو ) أيضاً والممثل ( راسل كرو ) لتقديم فيلم جديد أطلق عليه أسم ( العليم ) أو ( المُطّلع ) وقد رُشح فيه لنيل جائزة افضل مخرج في مهرجان الأوسكار للعام 2000 بالتأكيد لا يتوفر بسهولة لأي مخرج قدرة توظيف تلك الموضوعات وجعلها تستأثر باهتمام جمهور واسع من المشاهدين وتثير في الوقت نفسه جدلاً محتدماً بين أوساط النقاد والمهتمين بالشأن السينمائي . سنرى إن فيلم ( حرارة ) مثلاً ، حاول الخروج من كونه فيلم ( آكشن ) فقط يعيد إلى الأذهان مئات الأشرطة السابقـة التي تناولت مشاكل جماعة من اللصوص المحترفين في سرقة البنوك أو ما شابه ذلك ، رغبة منه في الوصول إلى أداء سينمائي مغاير يمتلك قدرة الاحاطة بحيثيات موضوعه ويحمله إحالات واسعة إلى الواقع الاجتماعي والنفسي للشخصيات ، فيمنح مجالها التعبيري في النهاية صفة التأثير والإقناع ومهما بالغت خبرتنا الفنية في التغاضي عن مشاهدة هذه الأفلام وتقييمها ، سنجد أنها تُصر من الجانب الآخر على الاحتفاظ بالقليل الجيد منها . فقد تتجاوز حبكة البناء الدرامي لبعضها ، إمكانية التنبؤ بمسار الأحداث فيها ، كاعتياد تقليدي يصورها أفلام حركة ذات نهايات معروفة فحسب ، أو ينزاح بعضها الآخر عن فجاجة الطرح المتواضع والتوظيفات البسيطة لقصص ساذجة تداعب مشاعر المتلقي الآنية . وبالطبع يتعاضد نجاح تلك العملية مع الإجادة في توظيف عناصر هامة كالموسيقى والتصوير والمؤثرات التقنية التي تحيل العرض مباشرة إلى ذائقة الجمهور وتحفزه على التمعن في مَشاهد وحوارات تملك تأثيرها الخاص في استقباله الفيلمي لا يختلف الأمر كثيراً مع فيلم ( العليم ) الذي أثار بجدارة سينمائية اعتمدت شيئاً من التوثيق التاريخي للوقائع ، قضية حساسة مست مصالح المؤسسة الأمريكية وما يترفع عنها من علاقات اقتصادية وسياسية متشابكة ، حتى وصل الأمر بشركات التبوغ الفعلية التي أزعجها انتقاد الفيلم لسلوكها ، إلى رفع الدعاوى القضائية ضـده ، فـي محاولة تهدف إلى تغطية واقع تورطها المؤكد في استخدامها بحوثاً كيميائية تضر بصحة الإنسان ولأغراض تجارية صرف لا تتجاوز الترويج لبضاعتها . فاستوجب التحدي أن وجّه خطاب الفيلم ضربته الموفقة لها ، بوصفها مؤسسات وطنية – كما تدعي – تتاجر بالمخدرات ، لكن بصفة شرعية يدعمها القانون ! فكانت المفارقة الكبرى متعلقة فيما أثير حول الفيلم وما تعرض له كادره الفني من تشهير ، تسـاوى بقـدر ما مع مـا لقيتـه الشخصية الرئيسية في الفيلم00 وهي شخصية ( لويل برغمان - الممثل آل باشينو ) المُعد الصحفي لبرنامج ( 60 دقيقة ) والمُنتَج لصالح قناة ( سي بي اس ) ، وكأن المسألة وما لحق بها ، نتيجة مفارقة وحتمية تسفر عن مغامرة الدخول إلى الملفات المحظورة سواء في الواقع أو السينما إن حيوية أفلام المخرج (مايكل مان) وآخرين غيره ، علامة أخرى تضاف إلى رصيدهم السينمائي وامتلاكهم حرفة إخراجية لها قدرة الإمساك بدرامية الفيلم ، ببراعة تحيد بها عن الوقوع في فخ النمطية الهوليودية أو الوقوف -على الأقل -عند مبرراتها ، ذلك في محاولة للعودة من جديد إلى ساحة الإقبال المعقلن والمشروع على أفلام الحركة والإثارة لبساطتها المتضمنة إلتماع معناها وليكن هذا الاتجاه مؤولاً بدعوى تجاوز عيوب الفيلم الأمريكي بماركته المُصدرة إلى الخارج ، أو قل لتقنين معايير الإقبال الجماهيري ، بشكل يبعده -أي الجمهور- عن الهوس والنزق الرخيص.
موقع "الفيل" في 28 يوليو 2005 |