بقلم / مسعود أمرالله آل علي |
يرتكز المخرج الإيطالي داريو أرجنتو على تقديم نمط مغاير من أفلام الرعب والإثارة؛ فقد تطوّرت اللغة البصرية لديه بشكلٍ جوهري، ومضادّ للنمطية السائدة لهذه النوعية من الأفلام، معتمداً على التشويش الذهني، وتحفيز مناطق الذعر والخوف في الفرجة السينمائية، وأيضاً في تأليف الموسيقا أو النغمة الصوتية المزعجة والمؤرّقة للأذن المنصتة. وُلد أرجنتو في عام 1940 لأب سينمائي، ومنتج منفّذ هو سلفاتوري أرجنتو. بدأ مشواره كناقد سينمائي لصحيفة "بايزي سيرا" اليومية، ثم شرع في كتابة النصوص السينمائية والإخراج عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره. تطوّرت حاسة الإخراج المتميّز لديه عندما تبنّى أسلوب التلصّص البصري الذي استخدمه الفرد هيتشكوك بكثافة، وعمل على تنشيط التلصصية هذه بابتكار زوايا تصوير مختلفة تشطح في غرائبيتها، وبحيث يُمكنها جرح العين المشاهِدة إن لم ترمش أو تطوح ببصرها بعيداً عن الشاشة. تبنّى أرجنتو نمط أفلام الرعب التي اشتهرت في إيطاليا باسم "جيالو"، وتعني حرفياً "أصفر"؛ حيث اقتُبس الاسم من الأغلفة الصفراء للروايات الرخيصة التي تعتمد على الإجرام والمغامرات العنيفة في أحداثها، وتتّصف ببعض المفردات الشكلية والنفسية التي تميّز شخصياتها المكرّرة دائماً على منوال ثابت؛ فهي إما ممسوسة بجنون، وعنف متهور، أو بفتور نفسي ونقص حاد للحنان، أو بتصرّفات غامضة، كما لو أنها منحرفة، وأخيراً بالقتل المجاني والشذوذ. فتجدهم ينبثقون من زوايا الليل الداكنة، ومن خلف الحواجز والسواتر الحاجبة للرؤية الواضحة، بأدوات صماء ومسنّنة وقاتلة، وفي أعينهم تتطاير رغبات متوحّشة ومؤلمة. إذن، بينما كانت الصورة هي هاجس أرجنتو الأهم، أخذت الحبكة القصصية تأتي في المرتبة الثانية، ويلاحظ ذلك في أفلامه التي تتمتّع بفرجة بصرية عالية، وقصص بسيطة وسهلة. وهكذا، بعد أن حصل على لقب "هيتشكوك إيطاليا"، اقتربت أفلامه المفرطة بالأسلوب الميلودرامي من نظيره الإيطالي لوكينو فيسكونتي، وإن اختلفت الرؤية الفكرية والنمط الإخراجي بينهما. ولكن تظل هناك مسحة العنف التي عُرف بها فيسكونتي، ووظّفها أرجنتو هنا على طريقته. كما هناك شيء من الهزل، وعنصر الفكاهة عبر الصورة المسلية للشخصيات، وهو بالضبط ما اقتبسه بعض المخرجين، مثل بريان دي بالما، الذي استعان بالحيل الفخيمة لأسلوب أرجنتو الإخراجي. أصبح داريو أسطورة في تجسيد وتمرير قوة الصورة المرئية، غير أنه من الضروري معرفة أنه لولا مصاحبتها للموسيقا الاستثنائية؛ فإنها قد تكون جافّة وناقصة في أغلب الأحيان؛ فالموسيقا تعمل على تغليف الصورة بديناميكية وحركة استفزازية نشطة، تفعِّل الحدث، وتؤجّجه باستمرار بمشاكساتها الصعبة، وتشظّيها المنصهر في جسد الرؤية الإخراجية. لذا؛ أعار أرجنتو الموسيقا الفيلمية اهتماماً خاصاً؛ وظلّت ألحان أفلامه تتوزّع على السلّم الموسيقي بالتدّريج، بدءاً من "الهيفي ميتل"، وانتهاءً بالأوبرا. كما قدّم ولاءً كبيراً لموسيقيين، مثل: "ذي غوبلينـز" واينيو موريكوني، وسيمون بازول. ابتدع أرجنتو فكرة مبتكرة في توظيف الموسيقا بشكلها الصحيح، لانتزاع واستخراج طاقات الممثل الكامنة؛ فعمل على تأليف الموسيقا قبل الشروع في تصوير الفيلم، ومن ثم أدخل الممثل في أجواء اللحن المرعب بواسطة مكبّرات صوت هائلة أثناء التصوير الفعلي؛ بحيث يكون الممثل وطاقم التصوير عرضة للمفاجآت المباغتة، والجو المكهرب، وردود الفعل الطبيعية والصادقة. بلا شك، هي فكرة خادعة وماكرة، ولكنها أتت بنتائج مثيرة وفاعلة. تبدو رحلة داريو طويلة في عالم السينما، فبعد كتابة العديد من النصوص لغيره من المخرجين، وخاصة بتعاونه مع برناردو برتولوتشي في وضع سيناريو فيلم "حدث ذات مرّة في الغرب - 1968" للمخرج سيرجيو ليوني.. أقدم أرجنتو على إخراج فيلمه المؤثّر الأوّل "الطائر ذو الأجنحة الكريستالية" في عام 1969. اقتُبس الفيلم عن كتاب "ميمي الصارخة" لفردريك براون، كان برتلوتشي أهداه لأرجنتو لإبداء رأيه في عملية تحويله إلى فيلم. تدور القصة حول كاتب أميركي يشهد -بمحض الصدفة- جريمة قتل مروعة، ويدخل بعدها في تحقيق طويل ومعقّد، يقابِل خلالها شخصيات غريبة ومركّبة. أصبح الفيلم علامة فارقة في مسار هذه النوعية اللاذعة من الأفلام خلال عقد الثمانينات. مرّة أخرى، يستعين أرجنتو بعالم الجريمة الغامضة، والقتل المجاني، في تجريب نوعية جديدة من أفلام الرعب، محاولاً إضفاء حريّة فكرية وبصرية على الصورة النمطية السائدة لهكذا أفلام، وذلك من خلال فيلميه المقبلين: "أربع ذبابات على مخمل رمادي - 1972"، و"أحمر قاتم - 1975"، الذين أطلق عبرهما فكرة المؤثرات الخاصّة، والموسيقى الحادّة والمضطربة. في ثلاثيته المتسلسلة، يعتمد أرجنتو على مكائد مربكة في الحبكة الفيلمية، ويظهر ذلك بجلاء في "تنهّد - 1977"، و"جحيم - 1980"، الذين أحيطا بحسّ بصري فائق، على الرغم من المبالغة المتزايدة في خطوط القصة الرئيسية. وتميّز "تنهد" بانطلاقته السريعة في التغاير اللحني؛ حيث جاءت المقدّمة خارقة للنظم الموسيقية السائدة، ومساندة بقوّة للنص المكتوب. فقد مكَّنت المخرج من إضفاء أساليب إخراجية جديدة وممتعة. كانت الموسيقا فريدة، وحزينة أيضاً، وبقيت شفافيتها تمدّ الحدث بقسوة المشاعر، والإحساس بالجور المستبد للشخصية المحورية. وضع الموسيقى "ذي غوبلينـز" بآلات عادية ومألوفة، ضمّت بعض المؤثرات الصوتية الملفوظة والمخفيّة، والتي اندمجت لإنتاج شعور مشوّش وأصيل. وكانت الثيمة الأساسية المستخدمة طوال الفيلم ساحرة، بحيث ظلّت مفرداتها النغمية تبني حول نفسها هالة من الإبداع المتواصل، وكأنها تفقس بديمومة لانهائية كميّات هائلة من الذعر والوعيد والازعاج. وكالعادة، يوظّف أرجنتو أيضاً جريمة قتل روتينية عبر حبكة خادعة في فيلم "غير معقول - 1982"، والذي يستخدم البناء القصصي كنقطة انطلاق لسلسلة من الرؤى البصرية الفاتنة لجرائم القتل. كان "ظاهرة" أوّل فيلم ناطق بالإنجليزية يخرجه أرجنتو، وقد حظي بنجاح ساحق في شباك التذاكر الأوروبية، وأُعيد إطلاقه في الولايات المتحدة تحت عنوان "حشرات" عام 1984. يحكي الفيلم قصة مراهق يتمتّع بقدرات تخاطرية، ويتورّط مع قاتل سيكوباتي يستغله في اصطياد ضحاياه. وعوضاً عن الحبكة المربكة، استبدلها أرجنتو بالأسلوب البصري المتذبذب، وذلك عبر كاميرا لا مركزية، وزوايا تصوير منحرفة ومائلة، وحركة بطيئة متعاقبة، وإضاءة فاقعة، ومونتاج نشط. في عام 1978، انضم أرجنتو مع المخرج جورج روميرو في إعداد بعض الأعمال التقنية في فيلم "بزوغ الميت"، ثم أخرج جزءاً من سلسلة "عينا الشيطان - 1990" تحت عنوان "القط الأسود"، بينما أخرج روميرو النصف الآخر، والذي كان "حقائق في قضية السيد فلاديمير". جاء فيلم "فزع في الأوبرا - 1987" ليستعرض فترة العصر الفيكتوري، وفيه بدت النـزعة الهيتشكوكية واضحة وصريحة لدى أرجنتو، وخاصة باحتفاله غير العادي بفيلم "الطيور - 1963"، وبتجديده للفيلم الاستثنائي "شبح الأوبرا" نسخة 1925. قبل أن يشرع في إخراج أوّل فيلم أميركي، سجّل أرجنتو حضوره كممثّل في فيلم المخرج جون لانديز "دم بريء" عام 1992، وكان الفيلم "رضّ - 1993" بمثابة طقس عربيدي، ودرس قاسٍ في عملية إراقة الدماء المتفصّدة، وذلك من خلال قاتل متوحّش يفصل رؤوس ضحاياه عن أجسادهم. والغريب أن تقوم ابنة المخرج "آسيا" في لعب الدور النسائي الرئيسي في الفيلم. هنا لقاء مع المخرج أجراه آدم سميث لصالح مجلة "إمباير" البريطانية، عدد أكتوبر 1996، وفيه أسئلة وإجابات غريبة وخارجة عن النمطية المألوفة، كغرابة أرجنتو نفسه، وأيضاً بعض القفشات السريعة والمرعبة التي تبادلها الاثنان بحريّة ولذّة عجيبين: · آدم سميث: ما هي أسوأ رائحة في العالم؟ - داريو أرجنتو: يصعب عليّ القول، لأنه أثناء تصوير "رضّ" استخدمت الكثير من الدخان، وتضرّرت رائحتي تماماً. لذا؛ لا يمكنني الشّم بحدّة الآن. · ما هو أروع شيء حصل لك في حياتك؟ - كنتُ ذات مرّة في مطعم صيني في نيويورك، وكان فارغاً كليةً، وحدث أن اقتحم رجلان مسلّحان المطعم، لم أكن خائفاً البتّة، كانا يرغبان في سرقة المال فقط، وكان منظري يوحي بالفقر. أقصد، أنظر إلى ساعتي (إنها كاسيو بقيمة 9.99 جنيهاً). · متى كان آخر مرّة حلمت فيها؟ - أنا أحلم كلّ ليلة، ولكنه من السهولة دائماً أن تنسى. · هل أنت "أمرض" رجل في السينما؟ - كلا. أفلامي ليست بذلك السوء، فهي مجرّد مؤثرات خاصة. أنا أجرّب حدوداً جديدة، غير أن الإساءة تأتي من التقنيين. ولكنها أيضاً مجرّد خيال. أنا لا أخرج ليلاً لأقتل العاهرات على الشارع. · إن وقع لك حادث تحطّم طائرة، واعتمدت حياتك عليه، هل تأكل لحماً بشرياً؟ - نعم. · ألن تشعر بوخز ضمير أخلاقي بعدها؟ - كلا. · هل قلت ذات مرّة كلمة "أحبك" ولم تكن تعنيها؟ - نعم، عادة. وخاصة أثناء عملي هذا. فدائماً أقول للممثلين: "أحبكم.. أحبكم" وهي ليست كذلك البتة. · هل حدث ودخلت مصحّة نفسية؟ - لا أحتاج إليها، فأفلامي هي مصحّتي. · هل صحيح أنّك تفضّل تصوير قتل امرأة جميلة عوضاً عن أخرى قبيحة؟ - نعم، والعديد من الصحفيين يدبرون عندما أتفوّه بما أشعر تجاه هذا الموضوع. · إذن أنت مريض، أليس كذلك؟ - كلا. أنا أعشق النساء. وفي أغلب أفلامي تكون الشخصية الرئيسية لامرأة. كانت النساء خلال مسيرتي الإخراجية أكثر حساسية، ويدخلن إلى خيالاتك بسهولة أكبر. أنا أؤمن بعالم معبّأ بالإناث، ويسهل عليّ إخراجهن في المشاهد الدرامية، في الوقت الذي أحظى بمشاكل عظيمة مع الرجال. · لماذا تستعمل يديك الحقيقيتين في أفلامك وقتما تكون هناك جريمة قتل؟ - أنا أحترف جداً عمل ذلك. ومنذ فيلمي الأوّل قبل (20) عاماً، وأنا أستخدم السكاكين والمسدسات. لديّ خبرة عظيمة في هذا المجال. · كيف تصف عملية ضرب عنق ابنتك الحقيقية في فيلم "رضّ"؟ - أوه، إنه مجرّد فيلم، وليس كما ولو كنا وحيدين في غرفة. إنه فيلم، وهناك العديد من الأشخاص والتقنيين يصرخون ويضحكون: "جميل.. جيد". إنهم يربكون الأفلام بواقعيتهم. · هل سبق وأن "أخذت" شيئاً دون أن تدفع؟ - كلا، مطلقاً.. إنها سرقة. · هل حدث وانسحبت من فيلم؟ - نعم، من "الشياطين"، والجزء الثاني من "باتمان" الذي كان سيئاً للغاية. · هل رغبت في لطم ممثل في يوم ما؟ - كلا. · إن خيِّرت بين خسارة ذراعك أو قدمك، فماذا تختار؟ - الذراع. كلا.. القدم، لأنه يجب عليّ الطباعة واستخدام الكمبيوتر. · هل حدث وأن استخدمت دماء آدمية حقيقية في أفلامك؟ - مرّة واحدة، وكان ذلك أثناء تصوير مشهد في فيلم "جحيم"؛ حيث تهاجم جرذان ضخمة رجلاً قبالة بحيرة. كان الممثل منبطحاً على الأرض، وتسلّل أحد الجرذان إليه، وقضم جزءاً من أذنه. لم نعِ بما كان يحدث، غير أن الدماء أخذت تسيل على وجهه. وبالفعل أبقينا على المشهد في الفيلم. · لحظة. هل كذبت منذ أن بدأنا الحوار؟ - كلا. ثقافة فراديس في 15 يوليو 2005 |
خطر الانقراض يهدد الثقافة السينمائية المصرية بقلم / أشرف نهاد البيومي لا شك أن السينما مثلما هي صناعة وتجارة وفن، هي أيضا ثقافة. هذه الثقافة تتمثل في الندوات والمحاضرات والكتب، وفي مصر أكثر من جهة تهتم بإصدار الكتب السينمائية، بعضها مستمر في رسالته بصورة منتظمة مثل هيئة قصور الثقافة (آفاق السينما) وبعدد لا بأس به من الإصدارات مثل المجلس الأعلى للثقافة (المشروع القومي للترجمة) ومكتبة الإسكندرية (البرامج السينمائية). أما هيئة الكتاب فإن الكتب السينمائية التي تصدر عن مشروع الألف كتاب تعثرت بعد أن كانت منتظمة ومشروع القراءة للجميع يكتفي بعدد قليل من الكتب السينمائية. وأما المهرجانات السينمائية التي كانت تساهم سنويا بعدد من الكتب عن المكرمين والاتجاهات السينمائية فلم تصدر هذا العام كتبا سينمائية بالمرة مثل مهرجان القاهرة الدولي ومهرجان الإسكندرية الدولي، ولم يواصل هذا سوي المهرجان القومي للسينما ومهرجان سينما الأطفال، ومن المعروف أن جمعية الفيلم لا تصدر مثل هذه الكتب وكذلك المركز الكاثوليكي رغم أنهما يقيمان مهرجان من أهم المهرجانات السينمائية في مصر، بينما توقفت مجلة السينما التي كانت تصدرها جمعية النقاد. وهكذا تنحسر ظاهرة إصدار الكتب والمجلات السينمائية التي كانت تساهم في إثراء المكتبة السينمائية والحركة الثقافية السينمائية، وهو انحسار لابد من تداركه، لأن السينما لا تزدهر بإنتاج الأفلام وحدها، خاصة أن الإنتاج السينمائي هو الآخر يتراجع من حيث عدد الأفلام ومن حيث جودة هذه الأفلام. كما أن المهرجانات السينمائية لا تلعب دورها كاملا إذا هي تخلت عن الجانب الثقافي المتمثل في إصدار الكتب إلي جانب الندوات والمحاضرات علما بأن الندوات والمحاضرات قل عددها هي الأخرى وبشكل ملحوظ. صحيح أن بعض الكتب السينمائية تصدر عن دور نشر خاصة لكن العدد الإجمالي لهذه الكتب لا يمثل تيارا قويا ومنتظما نستطيع أن نستعيض به عن دور النشر الرسمية والجهات الأصلية بما فيها المهرجانات الدولية والمحلية والجمعيات السينمائية المختلفة. إن الثقافة السينمائية في خطر، ولعل المستقبل يطلع علينا بتيار واع من تعويض النقص في الإصدارات وعودة الاهتمام بها، حتى لا تطير السينما بجناح واحد هو الأفلام دون جناحها الآخر وهو الثقافة. ثقافة فراديس في 15 يوليو 2005 |