ابراهيم العريس |
كان واضحاً انه يريد من فيلمه الجديد ان يكون «خبطة» العودة الى اضواء السينما الطليعية، بعد غياب عن هذه الأضواء، إنما ليس عن السينما نفسها، دام اكثر من عقدين من السنين. ففيم فندرز الذي كان، خلال سبعينات القرن العشرين وثمانيناته، احد ابرز وجوه السينما الجديدة في العالم، ووصل الى نيل جوائز عن بعض ابرز افلامه لتلك المرحلة، صار بالتدريج مخرجاً لا يثير اهتماماً حقيقياً بعد ذلك. وراح كثر يسألون عما اذا كان صاحب «باريس/ تكساس» (سعفة «كان» الذهبية 1984) و»أجنحة الرغبة» (جائزة الإخراج في «كان» ايضاً، 1987) قد انتهى ونفد ما لديه من ابداع سينمائي. صحيح انه عرض افلاماً عدة، في «كان» وغيره منذ ذلك الحين، وفاز ببعض الجوائز («بعيداً... قريباً» – جائزة لجنة التحكيم الكبرى في «كان» 1993، «حكاية لشبونة» – 1995 -، و»نهاية العنف» – 1997)، لكنه لم يتمكن من العودة ابداً الى مستواه القديم، إلا نسبياً وفي فيلم تسجيلي، لا روائي، هو «بوينا فيستا» عن الموسيقى الكوبية. من هنا، كان على فيلم فندرز ان يعود ليثبت مكانته قبل ان يُنسى تماماً، او قبل ان يحوّل الى «المتحف». وكان من المشروع له ان يعتقد ان فيلمه الجديد «لا تأتي قارعاً بابي» سيؤمن له ما يريد. فهذا الفيلم كانت احتشدت له كل العناصر الكفيلة بإنجاحه: تصوير في فساحة اميركا ومدنها الغامضة، سيناريو كتب مع سام شيبرد، احد اعمدة الأدب والفن الطليعيين في اميركا، والذي كان كتب معه «باريس/ تكساس»، ثم خاصة موضوع من ذهب، يدخل في صلب الأساطير التي دائماً ما كونت هوجس فندرز (اميركا وبراريها، السينما، الشيخوخة، الابن، العلاقات المستعادة، واللقاءات العابرة) وكل هذا على خلفية «سينما الطريق» التي كان فندرز احد روادها منذ اول فيلم اطلقه عالمياً «على مر الزمن» (1976). ومع هذا كله عجز «لا تأت قارعاً بابي» عن اعادة فندرز الى الواجهة من الباب العريض. عجز عن ان يعيد له تألق «باريس/ تكساس»، مع انه – أي الفيلم – يمت الى هذا الأخير بالعديد من الصلات. هناك اذاً، شيء غامض حول الفيلم الجديد، جعل استقباله فاتراً، وأبعده حتى عن ترجيحات الجوائز حين عرض في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان». هل هو الإحساس بأن كل ما في الفيلم قد شوهد من قبل؟ هل هو الضجر العام من نظرة فندرز الى اميركا وهي نظرة تُتهم بالسطحية؟ هل هي الحبكة التي لفرط ما هي واقعية – أي بديهية – بدت مفبركة؟ ام هو تاريخ فندرز الذي بات يقف عقبة في وجه حاضره ومستقبله؟ ربما يكون الجواب واحداً من هذا كله, او كله مجتمعاً. المهم في الأمر ان فندرز عاد من «كان» خائب المسعى. والسؤال الآن: هل سيكون حظ «لا تأت قارعاً بابي» مع المتفرجين في الصالات التجارية، افضل من حظه مع نقاد «كان» وجمهوره؟ لا احد يدري منذ الآن. ومع هذا لا بد من القول ان في «لا تأت قارعاً بابي» لحظات كثيرة رائعة، كما ان صورته – التي تبلغ في بعض المشاهد روعة لوحات ادوارد هوبر، في احالة لم تأت صدفة على اي حال – اتت جديدة في احيان كثيرة. كما ان الفيلم انطلق في بدايته انطلاقة متميزة اعطت المتفرجين انطباعاً بأنهم يشاهدون عملاً استثنائياً... ولقد تعزز هذا الانطباع عند منتصف الفيلم ليختفي بعد ذلك تماماً، حين اكتشف بطل الفيلم ان له، بدل الولد الواحد، ولدين (صبي وبنت)، وحين في النهاية وبعد سلسلة مشاهد مملة وغير مقنعة، وجد نفسه يعود صاغراً الى ما كان هرب منه اول الأمر. ولنوضح: ان ما يهرب منه هوارد سبنس (سام شيبرد) منذ المشاهد الأولى للفيلم هو واقعه كممثل افلام رعاة بقر في براري الغرب الأميركي... فالأفلام ثانوية الأهمية، وأدواره متشابهة بحيث احس ذات لحظة، وقد أغرقه سأمه في ادمان المخدرات والمشروب والنساء ان عليه ان يوقف هذا كله. فيفعل ويهرب، مبدلاً ثيابه وأساليب ركوبه على الطريق وسط مشاهد قلما صورتها كاميرا سينمائية على ذلك الشكل الرائع من قبل. اما وجهته فهي امه التي لم يرها منذ ثلاثين عاماً، في نوع من العودة الى الرحم ومحو كل تلك السنوات. لكن الأم لا تبدو مستعدة لاحتضان طفلها وقد اربى على الستين، خصوصاً انه من دون ان يعرف، أب الآن لفتى في العشرين انجبته له زوجة سابقة كان هجرها منذ ذلك الحين. وإذ تخبر الأم ابنها العجوز بهذه الحقيقة، يتحول صاحبنا من البحث عن ماضيه كملجأ، الى البحث عن ابنه كذريعة لمواصلة الحياة. ويلتقي الابن بالفعل، في وقت كانت ثمة فتاة تحمل اناء فيه رماد امها وتتجول، باحثة عنه هي الأخرى، لأن امها اخبرتها انه ابوها المبتعد منذ زمن. اذاً، منذ تلك اللحظة يفقد «لا تأت قارعاً بابي» سياقه، حتى وإن كانت موسيقاه وصوره وحتى اداء الممثلين فيه، بقيت كلها في تميزها وتذكيرنا بلغة فندرز السينمائية. ما يهوي هنا هو السيناريو، هو تتابع الأحداث الذي يقترب من حدود الكليشيه: الكليشيه العام، بمعنى ان كل شيء من الآن وصاعداً، يبدو متوقعاً: رفض الابن الاعتراف بأبيه مع شيء من الاحتقار؛ اللقاءات الفاشلة بين سبنس وزوجته السابقة (جيسيكا لانج) حين يحاول استعادة العلاقة معها، سطحية شخصية الفتاة صديقة الابن؛ ردود الفعل التي يبديها سبنس نفسه ازاء كل ما يحدث له؛ وصولاً الى الجزء من الفيلم المتعلق بمطاردة عميل شركة التأمين للبطل، لكي يعيده بالقوة لاستكمال الفيلم؛ والكليشيه الخاص (المشهد التهريجي الذي يهاجم فيه لصوص سبنس ويشتبكون معه، وهو مشهد يذكر الى حد بعيد بمشهد الاشتباك بين المخرج والمنتج في فيلم – رائع – سابق لفيم فاندرز هو «حال الأمور». في النهاية، اذاً، لا يكون امام هوارد سبنس إلا ان ينصاع لقدره، ويعود مكبلاً في رفقة عميل شركة التأمين (تيم روث، في اسوأ ظهور له على الشاشة منذ سنوات بعيدة)، لكي يواصل تمثيل الفيلم. والحال ان البعد الإخراجي المسطح لهذا القسم كله، حال بينه وبين ان يحمل أي دلالاة حقيقية، كان يمكن له ان يحملها مفسراً، مثلاً جزءاً من علاقة النجم (أي نجم) بالفيلم، او حتى جزءاً من علاقة فيم فندرز نفسه بالسينما في شكل عام. هنا، قد يدهش المرء حقاً، ما يقوله فيم فندرز من انه اشتغل على سيناريو الفيلم، مع سام شيبرد نفسه طوال عامين كاملين، كانا يكتبان فيهما معاً وفي شكل يومي، مضيفاً انه كان يحلم بالعودة الى العمل مع شيبرد منذ تعاونا في كتابة «باريس/ تكساس» قبل عشرين عاماً، لكنه كان دائماً يؤجل املاً في عودة كبرى! طبعاً، القسم الأول من الفيلم يبرر ويفسر مثل هذا القول، وبخاصة الافتتاحية التي تحيلنا مباشرة، وربما ايضاً بشكل اجمل، الى افتتاحية «باريس/ تكساس» حيث لدينا شخص يطلع من اللامكان، ليجد نفسه في لب احداث الفيلم المرتبطة مباشرة بماضيه، وبعجزه عن استعادة ذلك الماضي بعد كل الانقطاع. غير ان ما كان جديداً قبل عشرين سنة، يكاد يبدو عادياً اليوم. فندرز: من مدينة الأشباح الى وديان جون فورد كالعادة، يلعب المكان في «لا تأت قارعاً بابي» دوراً أساسياً... ففيم فندرز، الذي بدأ حياته السينمائية قطباً من أقطاب التجديد السينمائي في ألمانيا السبعينات (الى جانب فاسبندر وهرتزوغ...) كاد ينفرد بتلك المكانة التي يضفيها على الجغرافيا، خصوصاً انه كان من رواد ما يسمى بـ «سينما الطريق». ولقد تعزز وجود المكان لديه، بخاصة في أفلامه الأميركية («الصديق الأميركي»، «هاميت» و»باريس تكساس»). ومن هنا لم يكن غريباً أن يبدو فيلمه الجديد وكأنه بني كله من حول المكان... المكان الذي يبدو هنا كالحلم. تحدث فندرز عن هذا الأمر قائلاً: «لقد صورت هذا الفيلم في مدن بوت، ايلكو ومواب. وكنت أعرف بوت منذ العام 1978، قبل سنوات من بدء اشتغالنا شيبرد وأنا على كتابة السيناريو. وباكراً اقترحت ان نجعل من هذه المدينة مكاناً للتصوير... إذ كنت أرغب دائماً في أن أحكي قصة تدور في المدينة وكنت قرأت في مقابلة قديمة أن دانيال هاميت (الكاتب البوليسي الذي حقق فندرز فيلماً عن حياته)، انه استوحى هذه المدينة لوصف مدينة بويزونفيل الاسطورية في أول رواياته «الحصاد الأحمر». وهكذا توجهت بالسيارة يومها لزيارة بوت وصعقت: أبداً في حياتي لم أكن رأيت مكاناً مثل هذا يمتلئ بأبنية بنية شاهقة، ولكن لا يسكنها أحد... بدت كمدينة أشباح مهجورة. وعلمت ان المدينة كان لها ماض غني جداً. وهكذا كبرت مكانة المدينة في خاطري. أما سام (شيبرد) فاقترح أيضاً مدينة الكو، كمكان للقاء البطل بأمه. وكنت أعرف الكو أيضاً. وهكذا أقمت في داخلي مباراة بين المدينتين كان الفوز فيها لألكو وذلك لسبب بسيط: ثمة روح رعاة بقر حقيقية تهيمن عليها. أما البراري والسهوب فكانت في ماونتن فالي، التي أعرف انها المكان الذي صور فيه جون فورد أضخم مشاهد أفلام رعاة البقر...». الحياة اللبنانية في 8 يوليو 2005 |
«المناضلون» يطالبون بمقاطعة فيلم يهاجم جدار الفصل العنصري عمان – غسان حزين لم تصمد الدورة الحادية عشرة لمهرجان الفيلم العربي الفرنسي التي أقيمت في عمان الأسبوع الماضي أمام رياح السياسة، فتحول المهرجان إلى ساحة جديدة مصغرة من معارك مقاومة التطبيع أثارها عرض الفيلم الفرنسي «الجدار» للمخرجة اليهودية سيمون بيتون. الفيلم الوثائقي، المنتج كبقية أفلام المهرجان في العام الماضي، يتناول قضية جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل في الضفة الغربية كعامل إضافي يصعّب من حياة الفلسطينيين الصعبة أصلاً. وعلى رغم أن الفيلم يتبنى وجهة النظر الفلسطينية من الجدار، ويدافع عنهم، فإن أفراداً من لجنة مقاومة التطبيع عارضوا ما وصفوه بـ «التطبيع الثقافي» ووقفوا أمام مركز الحسين الثقافي التابع لأمانة عمان الكبرى حيث أقيمت فاعليات المهرجان، حاملين لافتات بالعربية والفرنسية تحث الحاضرين على مقاطعة الفيلم. فيلم «الجدار» حاول تصوير معاناة الفلسطينيين من الجدار، وكيف أنه يفصل بين المزارع ومزرعته ويفصل بين العامل ومكان عمله. رسالة الفيلم التي تدين عنصرية الجدار واضحة حتى لمن لا يجيد لغة من لغات الفيلم الموزعة بين العربية والعبرية والفرنسية والإنكليزية. الفلسطينيون يتحدثون عن أحوالهم التي تزداد سوءاً بفعل الجدار، لكنهم على رغم ذلك يظهرون أشخاصاً متفائلين لم يفقدوا حسهم الساخر تجاه الظروف السوداء المحيطة بهم. أما الإسرائيليون فيظهرون جنوداً قساة وعسكريين يتحدثون بجلافة عسكرية، وكلامهم يحكي عن المال أكثر: كم يكلف الجدار في المرحلة الفلانية، وكم سيكلف في المرحلة التالية، وكذا. وهذه الرسالة الواضحة ما تلبث أن تزداد وضوحاً عندما يسمع صوت المخرجة في أحد المشاهد تتحدث مستغربة من نفسها، وهي اليهودية، كيف أنها تتعاطف مع الفلسطينيين في قضيتهم هذه: «هل أنا على خطأ؟» فيأتيها الجواب من الضيف الذي كانت تتحدث معه: «أنت على صواب. لكننا اليوم نرى من هم على صواب استثناء للقاعدة». لص صغير وفيلم «الجدار»، الفيلم الوثائقي الوحيد المشارك في العروض، استطاع سرقة الأنظار من أفلام أخرى مشاركة، لما أثاره من زوبعة سياسية، على رغم أن بقية الأفلام المشاركة تستحق الاهتمام، وأبرزها كان أحدث أفلام المخرج محمد خان «كلفتي» الذي يعرض للمرة الأولى في مهرجان سينمائي. وكلمة «كلفتي» تعبير مصري دارج مأخوذ من الكلمة اليونانية «كلبت» التي تعني سرقة. والكلمة التي شارفت على الانقراض في مصر بحسب خان، تعني نصب أو سرقة صغيرة. الفيلم يحكي قصة فتى شوارع (يقوم بدوره باسم سمرة) يصنع نمطاً لحياته قائماً على النصب والسرقات الصغيرة. صحيح أن البطل شخص، معه مجموعة من الأصدقاء والأقارب يشكلون عالم الفيلم وأساس قصته، إلا أن القاهرة تبدو هي البطلة: الحياة التي تدور فيها الشخوص والعمارات والبنايات المرهقة والأزقة التي تخفي بين ثناياها فصول العشق والغرام كلها تدور في تلك المدينة العاجّة بالسكان دوماً، وهم ينصبون وينصب عليهم، ولا شرطة في المكان ولا قانون يردع. تبدو المدينة - البطلة أكبر من أن تلتفت إلى سرقات صغيرة وعمليات احتيال تقليدية أو قبل عابرة في قن دجاج. خان استعان بكاميرا ديجيتال، معتبراً أنها مستقبل السينما، ولذلك فقد صور فيمله بهذه الكاميرا للمرة الأولى، ولذلك أيضاً لم يقدم وجهاً معروفاً للجمهور، وهو المعتاد على تقديم أسماء من الوزن الثقيل في أفلامه، ليس أقلها النجم الراحل أحمد زكي. جمهور نادر ومن الأفلام الأخرى التي شاركت في المهرجان، كان الفيلم السوري «الهيام» للمخرج محمد ملص، والفيلم التونسي «الأمير» لمحمد زران، والجزائري «المنارة» لبلقاسم حجاج، والمغربي «الرحلة الطويلة» لاسماعيل فروخي، إضافة الى «باب الشمس» ليسري نصر الله. وعرض في اليوم الأخير للمهرجان عدد من الأفلام الأردنية القصيرة التي أنتجتها «الهيئة الملكية للأفلام» في محاولة لإضفاء صبغة محلية على المهرجان. طبعا لم تحظ الأفلام بحضور جماهيري كبير، شأنها في ذلك شأن غالبية الفاعليات الفنية والثقافية التي تقام في الأردن. وكان الحضور الأبرز ليوم عرض فيلم «باب الشمس» بجزأيه للمرة الأولى في الأردن، بعد أن سحبت إحدى صالات العرض السينمائية عرض الجزء الأول منه في وقت سابق مطلع العام الحالي لقلة الإقبال عليه. وقد تكرر الأمر مرة أخرى خلال المهرجان، فلم يملأ الجمهور إلا نزراً يسيراً من مقاعد مركز الحسين الثقافي الصغير وسط عمّان، وكان في غالبيته من الشباب. على كل لم يقتصر الغياب الجماهيري على المهرجان، وإنما شاركه في ذلك غياب إعلامي محلي، فلم تشر الصحف المحلية إلى موضوع الاحتجاجات على عرض فيلم «الجدار» إلا باقتضاب شديد، حرصاً على استمرار عروض الأفلام وعدم إثارة البلبلة، وحرصاً على الضيوف العرب المشاركين في هذه التظاهرة. الحياة اللبنانية في 8 يوليو 2005 |