المبدعون هم القتلة وأحياناً السياسيون:
نديم جرجوره |
· نقلت الكاميرا الأحداث الهادرة فهل تستطيع أن تصنعها.. أبي خليل والراهب وزعتري وسلهب وشمعون وعليوان يجيبون لا شكّ في أن جريمة اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط الفائت باتت محطّة تاريخية مهمّة في مسار الأحداث اللبنانية المستمرّة منذ سنين طويلة، وتحديداً منذ النهاية المزعومة للحرب اللبنانية والسلام الهشّ والمنقوص الذي عرفه لبنان بدءاً من العام 1991. طرحت الجريمة، وما تلاها من تحرّك شعبي ومعارضة سياسية حادّة للنظام الأمني والسياسي، أسئلة كثيرة ومتنوّعة، تعلّق بعضها بالحدث نفسه ونتائجه السياسية والشعبية، وارتبط بعضها الآخر بطبيعة التحرّك الشعبي ومدى استغلاله من قبل سياسيين معارضين وغياب الوعي المعرفي لدى الشباب لقيمة ما أنجزوه ولضرورة التحرّر من السياسي والطائفي والقبائلي، للوصول إلى الوطن، وتناول بعضها الثالث مستقبل لبنان وشعبه، خصوصاً الشباب اللبنانيين الذين لا يزالون ضائعين في عراء السياسة وسطوة الطائفة وعزلة القبيلة والفراغ الروحي والثقافي والإيديولوجي الحزبي والعقائدي. يهدف هذا التحقيق إلى محاولة فهم ما جرى ويجري منذ حادثة الاغتيال، من خلال عيون سينمائيين لبنانيين شارك بعضهم في التحرّك الشعبي بهدف التقاط المشهد الآنيّ والبحث عن معنى الصورة وأصلها وتداعيات الحدث وآفاقه، وارتأى بعضٌ آخر البقاء على مسافة كي يتسنّى له معاينة الواقع بموضوعية وهدوء وسوية، إذ قدّم هؤلاء بعضاً من مشاعرهم وانفعالاتهم وأسئلتهم الخاصّة وعلاقتهم بالحدث، بحسب هواجسهم الفنية والثقافية والفكرية. إنهم يشكّلون صورة متواضعة عن علاقة السينما اللبنانية بهذا الحدث. وهم، بحسب الترتيب الأبجدي لأسماء عائلاتهم: جاد أبي خليل، إليان الراهب، أكرم زعتري، غسان سلهب، جان شمعون وفؤاد عليوان. ؟جاد أبي خليل: فيلمٌ ساخرٌ منذ اغتيال رفيق الحريري وأنا أشعر بحالة قرف. لست قادراً على تصديق أي شيء، فأنا لم أشعر بأن التجمّعات والتظاهرات التي جرت حقيقية. لهذا، لم أشارك في أي منها. ما حصل هو تجمّع أناس لا يمتّون بصلة إلى بعضهم البعض، وهذا انسحب على الانتخابات، إذ إن ما حصل لم يكن <<انتخابات>>، بقدر ما بدا ترجمة لوضع عاطفي لا يزال قوياً تمّ اللعب به. لا أرى فرقاً بين المعارضة والموالاة. لا أستطيع أن أفهم كيف أن أحداً حمل خطاباً معيناً في خلال عشرين أو ثلاثين سنة، بات فجأة يُسمِعُك خطاباً معاكساً. والمضحك في الأمر أن هناك أناساً مستمرّين في السير معه. كنتُ سأفهم لو أن الناس لم تمشِ معه. أين هي الحيوية في التظاهرتين الكبيرتين؟ لماذا أنتجت الطبقة السياسية نفسها؟ ما الذي تغيّر في المجلس النيابي الجديد؟ برأيي: لا شيء مهم تغيّر، أو ربما لا شيء يُذكر تغيّر. والمشكلة الكبيرة أن الناس يلحقون بمن يحمل خطاباً كهذا. إن أساس الديمقراطية يكمن في منح الناس خيارات عدّة، وهذا غير موجود، إذ ما هو الخيار بين ميشال المرّ وغبريال المرّ مثلاً، أو بين وليد جنبلاط وطلال أرسلان. لا أعرف ما إذا كان الوضع سيؤثّر على عملي السينمائي بشكل ملموس. ما حصل معي هو أني كتبتُ كثيراً في هذه الفترة نصوصاً لا تتصل مباشرة بالأحداث. ما حدث استفزّني فكرياً ودفعني إلى الكتابة. لكن، هل ستؤدّي هذه الكتابة إلى إنتاج سينمائي ما؟ لا أعرف. أحتاج إلى وقت لأعرف ما الذي كتبته. أنا محتاج إلى قضية كي أُستَفزّ، ليس بالمعنى الإيديولوجي. ربما تكون القضية حبّا أو أي شيء آخر. المشكلة أن لا قضية في لبنان الآن. هناك أناس يتنازعون على السلطة، وهذا لا يُولّد قضية. ما حدث ويحدث يستفزّني على المستوى الفكري. الصورة الوحيدة التي خلقها لي ما حدث شيء ساخر للغاية. الآن، إذ <<أُجبِرتُ>> على تحقيق فيلم عن الوضع في لبنان فستكون النتيجة فيلماً كوميدياً ساخراً. أحداث كهذه لا أستطيع قراءتها الآن خارج إطار الريبورتاج التلفزيوني. نحتاج جميعاً إلى وقت كي تظهر الصورة. ربما بعد عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً يمكننا أن نتحدّث في الأفلام عمّا سمّي ب<<انتفاضة الاستقلال>>. ؟إليان الراهب: صورة المليون الآخر في الفترة الأولى، بين لحظة وقوع الجريمة في الرابع عشر من شباط وتظاهرة الرابع عشر من آذار، كنت تحت تأثير الصدمة، كأي مواطن آخر. تسارعت أمور عدّة دفعتنا إلى طرح مئة سؤال، من بينها: إلى أين نحن ذاهبون؟ ذلك أن الذين قرّروا مصيرنا منذ ثلاثين عاماً لا يزالون هم أنفسهم، يرفعون في كل يوم شعاراً، ويقنعوك بما يقولون، كأن الناس لا ذاكرة لهم. تشعر أن هناك في الأساس كذبة كبيرة، طالما أن هؤلاء لا يتغيّرون. بدأ المشهد السينمائيّ يتشكّل عندي مع التظاهرات، التي شاهدتها أولاً عبر شاشة التلفزيون، والتي أعادتني إلى العامين 1989 و1990، حين اندلعت تظاهرات بعبدا في أيام ميشال عون. هناك، ظهرت لي الكذبة الأولى، التي قالت إن الشعب اللبناني، خصوصاً الشباب، يستطيع أن يغيّر شيئاً. خفت على هؤلاء الشباب المتحمّسين، ومن بينهم طلاّب عندي سألتهم في محاولة مني لفهم ما يريدون: قالوا إنهم يريدون الحقيقة، ويريدون <<حرية، سيادة، استقلال>>. شعرت أنهم لا يعرفون جيدا كل كلمة يلفظونها، وأنهم ورثوا هذه الشعارات من أهاليهم، وأحسّوا فجأة أنهم يريدون أن يلعبوا دوراً ما. لكن، حين احتككت بهم جيدا، وسألتهم عما يزعجهم في الوجود السوري مثلاً، أو في السلاح الفلسطيني، لم يستطع أحدٌ منهم أن يجيبني بشيء، لأنهم لا يعرفون شيئاً عن الموضوع الفلسطيني مثلاً، ولم يلتقوا فلسطينياً واحداً في حياتهم. شعرت أن هناك عنصرية ضد الفرد السوري، لأن أحداً منهم لا يميّز بين النظام والشعب السوريين. خفت على هؤلاء الشباب أن يصطدموا بالكذبة. حتى لو تسنّى لهم أن يلعبوا دوراً ما في المستقبل، فهم لا يعرفون شيئاً، لأن هناك تغييباً طويلاً للسياسة عن وعيهم. لقد انتقلوا فجأة من عالم ال<<فيديو كليب>> إلى السياسة، بعد أن عاشوا فترة طويلة في غيبوبة سياسية، لا شكّ في أن رفيق الحريري، بمشروعه الإعماريّ والسياحيّ وغيره، ساهم فيها (عملية التغييب هذه). أنا حالياً أصوّر. بدأت التصوير منذ ما قبل الانسحاب السوري بيومين تقريباً. ما حصل استفزّني. بين مليون متظاهر في هذه الساحة ومليون ونصف مليون متظاهر في الأخرى، هناك مليون لبناني آخر لا يعرف ما يقوله، وهو غير ممثَّل، وغاضب. شعرتُ أني أنتمي إلى هؤلاء. وبالتالي، فإني أرى في هذه <<الهمروجة>> كلّها مجرّد مهرجان وكذب. أريد تسجيل موقف، لهذا، بدأت أصوّر أشياء تعنيني. أصوّر من دون نظام في التصوير. أصوّر في الأوقات التي أراها مناسبة، وبمساعدة أصدقاء (باسم فياض، زينة صفير، إميل سليلاتي). أفتش في الفيلم عن كلمة <<مصالحة وطنية>>. أسأل الناس الذين تحالفوا مع أناس ينتمون إلى المعسكر الضد (محازب في القوات اللبنانية عن التيار الوطني الحرّ والعكس، القواتيّ عن التقدميّ الاشتراكي والعكس، هكذا). اكتشفت أن من يصوّت للتحالفات السياسية لم يتصالح مع ماضيه بل صوّت فقط لأن الزعيم قال أو شرّع أو أفتى. الناس لم يتصالحوا مع بعضهم البعض، ولم يتصالحوا مع أنفسهم. إن هذه الشعارات يستعملها الزعماء لمصالحهم الخاصة. لا أزال أبحث وأفتّش وأسأل. أصوّر على مراحل، من الآن لغاية ستة أشهر مثلاً، رغبة مني في معرفة ما إذا كانت هذه الثوابت التي تحدّث عنها الجميع ستصمد أم لا، وما إذا كانت توقّعات الناس الذين شاركوا في التظاهرات والاعتصامات ستتحقّق في خلال الفترة المقبلة. حتى هذه اللحظة، لا أعرف ما الذي سيحدث بعد ذلك. ؟ أكرم زعتري: عسكرة الحياة المدنيّة لا أعمل شيئاً الآن. ربما في المستقبل أنجز عملاً ما. ذلك أن أي تجربة من هذا النوع يستثمر فيها صاحبها كثيراً، عاطفياً وسياسياً، تحتاج كما أعتقد إلى وقت لتكوين رأي نقدي، من دون أن ينجرف عاطفياً مع أو ضد ما حدث ويحدث. في خلال خمسة أو ستة أشهر طحنت الحياة السياسية والاجتماعية واليومية بشكل عنيف، يخرج المرء بخلاصات صغيرة وقاسية جداً، أولها: إن أشخاصاً قلائل يمكن أن يتحكّموا بمسار بلد، وبعواطف أناس، وبتغيير سياسات وشعوب، بتخطيط عمليات محدّدة جداً. سؤال يطرح: كم شخصاً قرّر اغتيال رفيق الحريري أو سمير قصير؟ مستحيل أن يفوق العدد عشرة أشخاص. حسناً. يعتبر المخرج نفسه مبدعاً يُفترض به أن يخترع أشياء وأن يخلق شخصيات وأفعالاً. لكن، مقارنة بما يفعله هؤلاء الأشخاص القلائل يصبح المخرج <<لا شيء>>. هناك أمور تقلب المعادلات، وأنت لا تفعل شيئاً. تتأكّد مجدّداً أن <<المبدعين>> الذين يغيّرون فعلياً حياة الشعوب هم <<الأشرس>> وليسوا السلميين. ترى أنه من مكانك المسالم، إذا كان حلمك التغيير، لن تستطيع أن تغيّر شيئاً. موقعك كإنسان مسالم يكمن أكثر في التفكير والنقد. أعتقد أن دور المثقف تقديم رؤية نقدية للتاريخ. موقعي هنا: التذكير بأشياء أراها ناقصة، إلقاء الضوء على أشياء أرى أنها غير سليمة، إعطاء بعد آخر للأشياء. وهذا كلّه كي أكون، في النهاية، شاهداً على مكان وزمان. لو أني أنجزت أفلاماً كثيرة، نالت تقديراً كبيراً وجوائز كثيرة، وعرفت نجاحاً باهراً نقدياً وجماهيرياً، لما استطعت أن أحشد أناساً احتشدوا بهذا العدد الضخم إثر اغتيال رفيق الحريري على أيدي حفنة قليلة جداً من الناس. لا أقصد القول إن الذين خطّطوا ونفّذوا أرادوا توحيد البشر، لكن المسألة أن قلّة قليلة للغاية تنجح في فعل شيء عن طريق الشر لا تستطيع أنت أن تفعله بمسالمتك، مع أنك مبدع وفنان ومثقف. هذا كلّه دعم رأيي القائل إن الفنون لا تغيّر العالم، بل هي مكان لرؤى خاصة، وسجل لتاريخ شخصي أو فني، يعبّر عن رأي ما، ربما يسمعه أو يقرأه أحدٌ ذات يوم. وبالتالي، هناك شعور بأن التغيير يتمّ عن طريق بعيدة عنك، وبأدوات لا تستعملها أنت. على الرغم من مظاهر الوحدة كلّها التي ظهرت بعد الرابع عشر من شباط، وخصوصاً بعد الرابع عشر من آذار، اكتشفتُ أن هناك نوعاً من الهشاشة. لا أقول أني لم أكتشف هذا من قبل. أتمنّى أن أكون مخطئاً، لكن هذا هو الواقع. حين تختفي أعلام الأحزاب وراء العلم اللبناني فهذا ليس دليلاً على الوحدة. نحن بلد أعتقد أننا نحبّ تغذية التعددية بالأفكار والانتماءات، لهذا ربما علينا ألاّ نخجل بتعددية الأعلام. لا ينتقص من قيمة رفيق الحريري إذا أخذنا موقفاً متفهّماً للتعدّدية. هناك مسألة أخرى يجب ان نتذكّرها: إن المواطن الصالح هو الذي يُكوّن رأيه الخاص، ويستطيع أن ينتقد زعيمه السياسي وليس زعيم حزب آخر. المواطن الصالح هو الذي يستطيع أن ينتقد رئيس حزبه. هذا ما يجب أن يتذكّره الجميع جيّداً، خصوصاً في مرحلة الانتخابات. نلوم دائماً النظام الانتخابيّ الذي يجب أن يكون أفضل، وأن تراعي التقسيمات النسب، أو بحسب القضاء، أو غيره. لكن الأهم من هذا كلّه هو أن نجعل المواطن ينتخب على أساس معطيات وليس لائحات وأسماء. اللائحة الكاملة ليست أمراً يجب أن نتباهى به. على المواطن أن يختار. أقول هذا من منطلق نقد ذاتيّ. في النهاية، هناك مادة كبيرة يُمكن أن نتحدّث عنها. الآن، نتحدّث عنها بأفكار وليس بأفلام. إذا كان عليّ أن أتحدّث عن شيء أو أن أقوله في فيلم، فهذا إحساس يلمّ بي في لحظة معينة. هناك صلة وصل بين الرأي والعمل يجب أن تكون جاهزة، وإلاّ فإننا لا نستطيع أن نحوّل الرأي إلى عمل. أشعر أن العمل الذي يجب إنجازه يرتبط بموضوع <<عسكرة الحياة المدنية>>. إذ إن أحداً لم يشتغل عليه، او بالأحرى العمل عليه قليل للغاية. سمير قصير كتب فيه ولو قليلاً. أما في الإطار الأدبي والسينمائي، لم ينشغل كثيراً عليه. هذا أمر موجود لكنه غير مرئي. الآن أصبح يظهر شيئاً فشيئاً. ؟غسان سلهب: تمثيلية مستمرّة شخصياً، لا أفرّق بين كوني مواطناّ ومخرجاً سينمائياً. فالمهم، بالنسبة إليّ، كامن في كيفية رؤيتي الأمور، لهذا شاركت في تظاهرات عدّة. والمهمّ أيضاً أن أرى كيف يتمّ تصوير هذه الأحداث كلّها. إذ، فجأة، انسكبت على النظرة اللبنانية كمية كبيرة من الصُوَر الملوّنة بالأحمر والأخضر. أثناء تصويري فيلمي الجديد، قتل رفيق الحريري وتسعة عشر شخصاً. توقّفنا عن العمل لأربعة أيام، لأن ما حدث شكّل نوعاً من الصدمة. حينها، سألت نفسي: ما الذي أفعله أنا؟ الرؤية تكون هشّة عندها، وكل مخرج يتصرّف بطريقته الخاصة. غير أن مخرجاً ينجز فيلماً في بلد كهذا، لا يستطيع أن يفعل شيئاً إذا لم يحدث شيء. لكن، هل هذا يعني أن ما يحدث سيدخل في فيلمي؟ هل ما حدث ويحدث سيؤثّر في عملي؟ ما أستيطع قوله الآن إني كنت أنجز فيلماً حين وقعت حادثة الاغتيال. لو لم أكن أصوّر فيلماً، هل كنتُ سآخذ الكاميرا وأصوّر؟ لا أعرف. لن أُدخِل الأحداث في فيلمي. فأنا أحبّ أن آخذ مسافة من الأشياء مهما كانت قبل الشروع في تنفيذ عمل ما حولها. أصبحتُ الآن في مرحلة توليف فيلمي. لديّ تسجيلات صوتية كثيرة لها علاقة بالأخبار وليس بموت الحريري تحديداً، لا أعرف ما إذا كنت سأستخدمها أم لا. كيف أرى ما حدث؟ صعب أن يتحدّث المرء عما حدث من خلال الصورة فقط. تسأل نفسك عن الحركة بالمعنى الكامل (أناس ينزلون إلى الشارع، ردود الفعل، وليس فقط السياسة)، تسأل نفسك: إلى أين ستصل هذه الحركة (وأنا أهتم بها)، وإلى أين ستوصلنا، وإلى أين ستوصل من يتحرّك أيضاً؟ بكل صراحة، منذ البداية وأنا حذر. ربما لأننا لا نزال نرى الممثلين أنفسهم منذ فترة طويلة في التمثيلية المستمرة منذ أربعمئة حلقة. لكن، فجأة، يقولون لنا: انظروا، نحن نستطيع أن نفعل شيئاً آخر. لا أتحدّث عن الشعب، بل عن الممثلين أنفسهم الذين يلعبون فجأة لعبة أخرى من خلال شيء غير منتظر أبداً، شيء غريب، موت شخص وكل شيء من خلال موته. فجأة، يمثّل الممثلون دوراً آخر، والكومبارس أي الشعب (لا أسخر من الشعب حين أقول إنه كومبارس) أجبر لاعبي الأدوار الرئيسة على تغيير أدوارها. لكن، كأي فيلم (وما جرى ربما ليس مختلفاً إلى هذا الحدّ)، فإن الأدوار الرئيسة ستمحي الكومبارس. منذ البداية، كنتُ شكّاكاً كثيراً، لكن في الوقت نفسه مهتم بهذه الحركة لأن البلد لم يتحرّك منذ فترة طويلة. الآن، التلفزة التي نقلت كل ما حدث، ذكّرتني للحظة بالصُوَر التلفزيونية، وأعادتني إلى ما أسميه ب<<مشهد الحرية>> وليس الحرية. (Le spectacle de la liberte). لن أتحدّث عن رأيي ب<<تلفزيون المستقبل>> الذي تحوّل سريعاً إلى بروباغندا ولم يعد لديه أي موضوعية. ليس المهم أي تلفزيون، لكن في النهاية، وكالعادة، فإن التلفزيونات لم يكن لديها أي نظرة. هناك قلّة شاهدت، لكن الجميع دخل في <<الاستعراض الكبير>> (Big show)، وهذا يعني التدخل في الجانب الانفعالي العاطفي ولا أحد يرى ما يحدث. الآن، الناس يستفيقون ويقولون إنهم صدموا. لا أقول إني كنت فاهماً اللعبة، لكن لديّ شيء إجباريّ في طريقة عملي: حتى لو كان حماسي قوياً، يجب أن أتطلّع جيّداً. يجب ألا أنسى ما الذي يجري، وأن أنظر إليه. علينا أن نفهم ما يحدث ليس للحصول على أجوبة، بل أقلّه لمشاهدة ما يجري. ضروري على المرء أن يرى ويسمع ليحاول أن يتحاور مع ما يحدث وليس أن يذهب في موجة ما يحدث. هذا كلّه جعلني أفهم بسرعة أني لن أدخِل شيئاً مما حدث في فيلمي، لأني أحتاج إلى مسافة كي أرى أكثر. وبصراحة أكبر أقول إنه لا يخطر على بالي أن أنجز فيلماً عمّا جرى ويجري، إلاّ إذا كان المشروع عملاً جماعياً، أي أن يُنفّذه أربعة أو خمسة مخرجين، كل واحد يصوّر بأسلوبه علاقته بهذه المدينة وبهذا البلد، في هذه الفترة. بالنسبة إليّ، أحب كثيراً أن أتعامل مع الموضوع الطائفي في محاولة فهم ماذا تعني الطائفة، ماذا يعني أني أنتمي إلى جماعة، ماذا يعني <<أصلي>> (من بيروت، من جونية، من أي منطقة لبنانية أخرى). ماذا يعني هذا كلّه بالنسبة إلى الطائفة؟ هذا ما يعنيني أن أشتغل عليه، لكن ليس على <<المشهديّ>> منه بل عن وفي عمقه. يقترح البلد عليك أسئلة كثيرة. لا أريد تقديم دروس، بل الدخول في الأسئلة ولا يهمّ إذا ضيّعتني هذه الأسئلة. متعب من الناس الذين لا يطرحون الأسئلة. هناك اللعبة السياسية والمسرح السياسي وغيرهما: هذا موجود في كل مكان في العالم، ولا يهمّني أن أتطرّق إليه أبداً. ؟جان شمعون: لا أغرق في اليوميات في البداية، وجدت أن الحالة الإنسانية كانت ردّة فعل عامة، فيها شيء من العاطفة أكثر من التفكير الذي رُكّب فيما بعد على هذه الحركة الخاصة بالناس الذين نزلوا إلى الشارع. ردة فعل عاطفية لها علاقة بترسّبات تاريخية، لا نستطيع أن نربطها بالجوّ العام الذي هو نتيجة لحرب أهلية استمرّت خمسة عشر عاماً. البرهان على ذلك نوعية الناس الذين نزلوا إلى الشارع: ليست حركة اجتماعية لها علاقة بأشياء محددة. في العادة حين يصير هناك حركات شعبية جماعية، تكون القصة مرتبطة بمطالب محدّدة على مستوى التركيبة. تركّز الأمر بشكل أساسي على الوضع الأمني الذي رُبط بالوضع السياسي. إذا عدت إلى ما قبل اغتيال رفيق الحريري، فإن الوضع الأمني كان شبه مستقرّ على صعيد الناس العاديين: لا تفجيرات، لا مشاكل تمسّ الحالة الأمنية اليومية للناس. تمّ استيعاب هذه الحركة على المستوى السياسي، والنتيجة أننا وصلنا إلى هنا. بين ما حصل إثر اغتيال الحريري وصولاً إلى ما بعد انتهاء الانتخابات، هناك سؤال لا بُدّ من طرحه: إلى أين نحن سائرون؟ لا أستطيع الإجابة عليه، لأن أحداً لا يعرف ما الذي سيحدث، فالقضية لا تزال معلّقة. ثم إن الشعارات التي رُفعت بعد اغتيال الحريري، جميلة: سيادة، حرية، استقلال. أتمنّى من كل قلبي أن يتحقّق شيء منها، كلمة واحدة على الأقلّ. اعتدت أن أنتظر إحساساً داخلياً يدفعني إلى تنفيذ مشروع لا شكّ في أني أفكّر به وأرغب في تنفيذه. أفتّش في موضوعه كثيراً، لكن هذا الإحساس يولد فيّ في لحظة معينة ويحثّني على العمل. غير أن هذا الإحساس لا يولد ولا ينمو إلاّ حين أكتشف ملامح أكبر وأوسع مما يحدث على المستوى اليومي. أحاول ألا أغرق في اليوميات، لأنها نتيجة أكثر منها سببا. يمكن أن تنطلق من النتيجة للوصول إلى السبب، لكن على الأقلّ عليك أن تعرف دلائل هذا السبب، وأن تكون متأكدا منها. هذا هو إحساسي. لا أرغب في صنع فيلم إخباري. لأننا، ميّ المصري وأنا، نحاول دائماً التقاط المؤكّد كي نبني عليه النتيجة. ؟فؤاد عليوان: لنصنع فيلماً لبنانياً جميلاً عند اغتيال رفيق الحريري، كان لديّ شعور مزدوج: حزنت على موته وعلى الطريقة التي نُفّذ بها اغتياله، وفي الوقت نفسه كان هناك فرح كبير، إذ تبيّن لي أن شيئاً جديداً يولد: الاستقلال الفعلي. كرجل بلغ الأربعين من عمره، شعرت للمرة الأولى في حياتي أننا بصدد نيل استقلالنا. عايشت فترة التظاهرات التي تعارف فيها اللبنانيون بعضهم على بعض، وكنا كلنا نتحدث على المستوى نفسه. كانت حالة من الصفاء الروحي، وكنا جميعا نطير في فضاء هذه المدينة المنكوبة ونقرر. نلبس مجددا ثياب الفرح وليس الحزن، ونقول: في النهاية، فإن الكبير والصغير سيموتان، وسيعيش لبنان. تأكّدت أيضا أن أصغر واحد في هذه الجمهورية هو أكبر واحد. وأكبر واحد يمكن أن ينتهي بثمن رخيص. حين نزل الجميع إلى الشارع، شعرتُ أن الشعب أهم من الحكّام، وأن حكّامنا ليسوا صورة عنا. هناك حالة انفصام بيننا وبينهم، إذ إننا لا نلتقي على أي خطاب سياسي. يبدو أنه انتهى أمر السياسيين في لبنان. أتصوّر أن على الفنانين أن يشتغلوا، وعلى المثقفين أن يكتبوا. على الفنانين والمثقفين أن يوجدوا مناخ عمل واحتفالاً يومياً بورشة فنية كبيرة، بدل أن <<نناقر>> بعضنا البعض، سياسيا وفنيا. ليأخذ الفنانون أمكنتهم بعد أن تركْنا السياسيين ثلاثين سنة يفعلون ما يريدونه. أنظر النتيجة. حين مات سمير قصير، شعرتُ بحزن عميق للغاية. عند موت الحريري، كان هناك حزن عميق وفرح في آن واحد. بموت سمير قصير، تملّكني حزن عميق. عندما اغتيل الحريري، كتبت هذا النصّ الصغير بعنوان <<قلب آخر>>: <<حيث فجأة يتوقف القلب عن الحركة/ حيث تحلق الطيور في دوائر مفتوحة/ حيث تتوقف الأشياء في قيثارة الزمن/حيث البداية والنهاية يلتقيان>>. وعندما اغتيل سمير قصير، كتبتُ نصّا آخر بعنوان <<كوما>>: <<حيث يتحرك القلب/ حيث تحلق الأفكار في دوائر واهية/ حيث الأشياء تتحرك في خطوط الألوان/حيث البداية والنهاية لا يتفقان>>. أما بصدد تأثير ما حدث على عملي، فأقول إن لا مشكلة من حيث الأفكار، لأن المرحلة غنية، وهناك أشياء كثيرة يمكن قولها. المشكلة أني كسينمائي أشعر أن حياتي قصيرة. لا معنى ولا قيمة للزمن والوقت. تصبح الحياة العملية أقلّ قصراً. كسينمائي أعيش في وطني لبنان وأشعر أن كل ما تفعله إلى الأمام يصبح الناس ضدك، وأن كل ما تفعله إلى الوراء تصبح ضد نفسك. كسينمائي، أعيش هذا الإشكال كل لحظة، ككل الفنانين وككل اللبنانيين في هذا البلد. برأيي، حان وقت الفن، ويجب على الفنانين أن يعملوا وأن يُسكتوا السياسيين الذين احتلّوا الشاشات كلّها كمسلسل مكسيكي يشاهده المرء بسبب الملل. لهذا كلّه، أقول للجميع: لنصنع فيلماً لبنانياً جميلاً. (عن السفير). موقع "كيكا" في 27 يونيو 2005 |
العربية الأولى التي تدخل «الأكاديمية الفرنسية» من باب الأدب والنضال: آسيا جبار الروائية الجزائرية أعادت كتابة القرن العشرين «مؤنثاً» في لغة فرنسية مخضّبة بدم القتلى عبده وازن انها الشخصية العربية الاولى تدخل «الاكاديمية الفرنسية» التي تُسمى بـ «مؤسسة الخالدين» في فرنسا، وقد دخلتها كروائية جزائرية تكتب باللغة الفرنسية، «المضمخة بالدم» كما تعبر هي نفسها، دم شهداء حرب التحرير الجزائرية، الذين تعتبر نفسها «وارثة» لهم. انها آسيا جبار، الكاتبة الكبيرة التي ورد اسمها السنة الفائتة في لائحة المرشحين لجائزة نوبل وقد اختارتها «الاكاديمية الفرنسية» عضواً فيها بعدما حصدت 16 صوتاً في مقابل 11 صوتاً للكاتب الفرنسي دومنيك فرنانديز. وهذا المنصب كان رشح له في الدورة السابقة الكاتب اللبناني أمين معلوف، لكنّ الاصوات لم تسعفه للفوز به. على ان فوز آسيا جبار يملك بعداً آخر، فهذه الروائية التي ابدعت في اللغة الفرنسية لم تتخل يوماً عن قضيتها الجزائرية التي هي قضية المواطنين والنساء، قضية التحرر والاستقلال، قضية الثقافة واللغة والانتماء. وقد حملت روايتها الاخيرة عنواناً مثيراً هو: «اختفاء اللغة الفرنسية» وفي هذه الرواية لا تتوانى عن رثاء لغة الاستعمار، التي كانت لغة ابيها المثقف الجزائري مثلما اصبحت لغتها هي التي تجسد في نظرها «الغربة» و»الكينونة» في وقت واحد. وكلما تحدثت آسيا عن هذه المعاناة تتذكر قول الأديب الجزائري الكبير محمد ديب: «غربتي لغتي». الا ان هذا الاحساس الداخلي بـ «الغربة اللغوية لم يحل دون قيام علاقة «رحمية» بينها وبين الفرنسية، التي احبتها واعتنقتها وأبدعت فيها أيّما ابداع، ودرّستها في الجزائر وفرنسا وحتى في الولايات المتحدة الاميركية. في التاسعة والستين من عمرها، شهرتها اخترقت حدود العالم المغاربي وأوروبا، وأعمالها الروائية نقلت الى نحو 15 لغة، ومنها العربية، لغتها الأم، التي اصرت على ان تترجم اليها كتبها، ناهيك بالأمازيغية لغة امها البربرية الجذور. ولعل صدور روايتها الاولى «الظمأ» في العام 1975 وكان لها من العمر احدى وعشرون سنة جعلها تنتمي الى الجيل الروائي المخضرم الذي ضم: كاتب ياسين ومحمد ديب ورشيد بوجدرة وسواهم. لكن ما ميّزها عن هؤلاء مضيّها في مشروعها الروائي الخاص القائم اساساً على «اعادة كتابة القرن العشرين كتابة مؤنثة» كما تعبر. ولكن لا يمكن إغفال وحدة الموضوعات – الموضوعات الجزائرية – التي جمعتها بأولئك الروائيين الرواد. وعندما تستخدم مفردة «التأنيث» او «المؤنث» في أدب آسيا جبار فهي لا تعني ان هذا الادب ذو نزعة «نسوية» تهدف الى مواجهة النزعة «الذكورية» التي تسم «أدب الرجال»، بل على العكس، ان أدب آسيا جبار هو أدب قائم بذاته ولا علاقة له بـ «الجنسانية» وحتى وإن طغت هموم المرأة الجزائرية عليه. فالمرأة تحضر هنا كانسان وكائن، وكضحية اجتماعية جلادها الرجل والسلطة والمجتمع... والرجل بدوره يحضر كانسان وان كان متسلطاً، وسلطته لا تقتصر على المرأة (زوجة او ابنة) وانما على بيئته ومجتمعه. ونضال آسيا جبار في سبيل تحرير المرأة الجزائرية والمغاربية والعربية هو نضال انساني يوازيه نضالها من اجل السلام والعدالة والحق. وكان فوزها في العام 2002 بجائزة «السلام» التي تمنحها المانيا خلال معرض فرانكفورت تكريماً للأدباء الكبار، تتويجاً لمسيرتها الابداعية و «النضالية»، واعترافاً بموقعها في حركة الأدب العالمي. وليست هذه الجائزة هي الوحيدة التي حازتها آسيا، فالجوائز العالمية التي نالتها كثيرة، ناهيك بحفلات التكريم التي اقيمت لها في دول عدة مثل كندا وايطاليا والولايات المتحدة والنمسا وبلجيكا... الا ان اللافت هو حضورها الطفيف عربياً، فأعمالها المترجمة الى العربية لم توزع خارج الجزائر وبعض الدول «المغاربية»، مع ان اثرها في الروائيين والقاصين الفرنكوفونيين الجدد واضح جداً. ولعل هذا ما جعلها تبتعد قليلاً من المعترك العربي فيما استطاع كاتب مثل الطاهر بن جلون ان يحضر عربياً من خلال اعماله المعربة. ولعل حياة آسيا جبار الاكاديمية والجامعية جعلتها تبتعد قليلاً من الاعلام العربي فوقعت في حالٍ من العزلة عربياً على رغم شهرتها العالمية. آسيا جبار التي ولدت في مدينة شرشال القريبة من العاصمة عام 1936 كانت تحمل اسماً آخر هو فاطمة زهرة ولم تبدله الا عندما اصدرت روايتها الاولى بالفرنسية «الظمأ» عام 1957 في باريس، لكنها لم تختر اسماً اجنبياً كما يفعل بعضهم، بل اصرت على اسم عربي آخر تختبئ خلفه خوفاً من الفشل في عملها الاول، ولا سيما ازاء ابيها. وهي لم تنس يوماً انها درست القرآن الكريم في الكتّاب البلدي مع الاطفال وقد عادت لاحقاً الى دراسة اللغة العربية وقواعدها لتحافظ على علاقتها بعالمها الاول. وعندما صدرت رواية «الظمأ» شبهها بعض النقاد برواية «صباح الخير ايها الحزن» للكاتبة الفرنسية فرانسواز ساغان، نظراً الى جرأة هذه الرواية التي تنتمي الى مرحلة البدايات مثلها مثل روايتها الثانية «نافدو الصبر» التي صدرت في باريس ايضاً عام 1958. وهاتان الروايتان تميزتا بطابعهما الاجتماعي وبرغبة المؤلفة في ابراز «الذات» وجعلها في مهب «لعبة الحياة». وقد دارتا في الاجواء الاولى للحرب الجزائرية التي ستهيمن لاحقاً على بعض رواياتها. واذا كانت رواية «الظمأ» اشبه بالاحتجاج على المعاملة السيئة للمرأة انطلاقاً من تحريف بعض المقولات الدينية، فإن الرواية الثانية «نافدو الصبر» تتناول مفهوم النضال من اجل الاستقلال من خلال بطلة شابة تدعى «دليلة» تحاول التحرر من ربقة السلطة الذكورية ومواجهة «الاحباط» الذي يسود عائلتها والمجتمع. ومن الشائع ان آسيا جبار كانت الجزائرية الاولى التي التحقت بجامعة «سيفر» الفرنسية، وكانت الجزائرية الاولى ايضاً في العمل المسرحي والسينمائي وكانت الاستاذة الجامعية الاولى التي تدرّس التاريخ والأدب في الجزائر (والمغرب)... ومنذ بداياتها عرفت في كونها الروائية الاولى التي تناضل ضد «الصمت المطبق للمرأة الجزائرية» مستخدمة «قوة الكتابة» في مواجهة «السكوت الخانق» الذي يرين على عالم المرأة. ولئن اختارت آسيا جبار ان تكون صوت النسوة الخاضعات لسلطة الرجال والتقاليد المتوارثة فهي سعت الى ان تكون مناضلة مثقفة وهادئة، سلاحها الكلمة المتجلية في اعمالها الروائية والمسرحية، وفي مقالاتها وأبحاثها. وفي الجزائر ما برح مواطنوها (المثقفون) يختلفون حولها: بعضهم يعتبرها رمزاً للحرية والحوار والانفتاح، وبعضهم يجد في اعمالها صفة «فضائحية» تبعاً لاصرارها على تحرير المرأة كإنسان اولاً ثم كأنثى. وكم كانت جريئة في مديح والدها الذي كان «حديثاً جداً» كما تقول، والذي ساعدها على التحرر باكراً فيما كانت الفتيات يعشن في انتظار الزواج، على حد تعبيرها. وهذه الروح دفعتها الى المشاركة للمرة الاولى في اضراب سياسي للطلبة الجزائريين المناضلين من اجل الاستقلال في باريس، فطردت من الجامعة التي التحقت بها عام 1955. ومنذ ذلك الحين ستكون آسيا من الناشطات سياسياً، وراحت خلال «حرب التحرير» تعمل في الصحافة وتحديداً في جريدة «المجاهد» الصادرة حينذاك عن «جبهة التحرير الوطنية» التي تكافح ضد الاستعمار. وواصلت عملها الصحافي طوال فترة في فرنسا والمغرب. في العام 1962 اصدرت آسيا رواية «أطفال العالم الجديد» في باريس وهي تدور حول نسوة جزائريات يجاهدن للحصول على حقوقهن، وتسعى «البطلة» الى الخروج من عزلتها لتشارك في نشاطات جماعية في هدف التغيير السياسي والاجتماعي. وفي روايتها الرابعة «القبرات الساذجة» (1967) تتناول آسيا امور الحب والحرب والذاكرة والراهن. وفي هذه الرواية تبدو البطلة شابة ايضاً وثائرة على السلطة الابوية او «البطركية». هذه الروايات الاربع قد تشكل مرحلة اولى من مراحل آسيا جبار الروائية، لا لتقارب موضوعاتها (او تيماتها) فحسب، ولا لهيمنة رؤية شبه واحدة عليها وهي رؤية قائمة على مفهوم التحرر في معانيه المتعددة، وإنما ايضاً – وأساساً – لانقطاع الروائية عن الكتابة زهاء عشر سنوات بدءاً من مطلع السبعينات. وبدا هذا «الانقطاع» أقرب الى الصمت الذي راحت الكاتبة تعيد النظر خلاله في مفهوم الكتابة نفسها. تقول آسيا في هذا الصدد: «في سبيلي، ككاتبة اعتراني ذات يوم شك عميق ما لبث ان هزّني ودفعني الى الصمت فترة طويلة». لكنها خلال هذه الفترة لم تستسلم لليأس والاحباط، وإن ابتعدت من الكتابة الروائية، فهي انصرفت الى انجاز افلام توثيقية وحوارات، وجابت الجزائر بحثاً عن النسوة العاملات في القرى والمناطق النائية ولا سيما مناطق البربر ذات التقاليد الخاصة. وتقول آسيا: «استطعت ان اعود الى عشيرة أمي بعد اثني عشر عاماً من تحقيق الاستقلال». كانت هذه الفترة اذاً فترة العمل السينمائي والمسرحي من ثمّ. وهدفت من خلال الكاميرا ان تدخل عالم الناس الاميين، الناس الذين يعملون في الارض وبأيديهم. وهكذا حاز فيلمها الاول «نوبة نساء جبل شنوة» عام 1979 الجائزة الدولية في مهرجان البندقية. وفاز فيلمها الثاني «زردا أو أغاني النسيان» بجائزة افضل فيلم تاريخي في مهرجان برلين السينمائي عام 1982. والفيلم هذا اقرب الى السرد التوثيقي لمظاهر الحياة المغربية في النصف الاول من القرن العشرين. وخلال هذه الفترة ايضاً عملت آسيا في المسرح كتابة وإخراجاً، وشاركت المخرجة الفرنسية الكبيرة اريان نوشكين في عمل جماعي. ودرّست كذلك السينما والمسرح بعد عودتها الى جامعة الجزائر. عودة بعد... انقطاع في العام 1980 كسرت آسيا جبار صمتها وانقطاعها عن النشر (والكتابة) عائدة الى الواجهة عبر كتاب «نسوة مدينة الجزائر في مسكنهن» وهو مجموعة قصص ولوحات سردية. والعنوان (كما الغلاف) مأخوذ من عنوان لوحة للرسام الفرنسي الشهير دولا كروا. وبدت القصص هذه تحمل نفساً جديداً و «تجريبياً» سواء من ناحية الاسلوب السردي المرتكز على الحوار أم من ناحية اللغة التي تعتمد البعد الايقاعي والتناغم. ووظفت آسيا في هذه القصص تقنية «المونتاج» السينمائي بغية كسر البنية القصصية التقليدية. وبعد نحو أربع سنوات اصدرت آسيا روايتها «الحب والفانتازيا» التي ستفتتح بها «رباعية الجزائر». ويبدأ تاريخ الرواية في حزيران (يونيو) 1830، تاريخ غزو الاسطول الفرنسي للجزائر. وتليه عشرون سنة من المعارك تبرز خلالها صورة الأمير الجزائري الشهير عبدالقادر. ثم تعقب هذه السنوات مرحلة السيطرة الفرنسية على البلاد. غير ان هذه الفصول التاريخية تتداخل في مشاهد الطفولة الخاصة للراوية (التي هي صورة اخرى للكاتبة)، في احدى قرى الساحل. وحول «الراوية» يقوم عالم من النسوة «المحاصرات» والحالمات بلقاءات حب... في هذه الرواية تدمج آسيا ذكرياتها الطفولية في وقائع الماضي البعيد، وصور الاحتلال في مشاهد حرب التحرير. وقال الطاهر بن جلون في هذه الرواية: «هذا كتاب عن الحب. الحب الجسدي الانثوي هنا استطاع ان يفلت من قبضة الغازي. وقد كتبته روائية كبيرة في لغة رائعة». في هذه الرواية تجلى مشروع آسيا جبار في الغوص داخل اللغة الفرنسية كرمز من رموز الماضي الكولونيالي او الاستعماري القاتم. فاللغة التي كانت اداة تعبيرية اضحت هنا اداة للفضح والمواجهة. انها اللغة التي اصبحت شاهدة بعدما كانت شهيدة، او بعدما كانت ضحية «الآخر» الذي هو المستعمر. بل ان لغة «الآخر» باتت اللغة التي تدينه في عقر ذاكرته اللغوية ووجدانه اللغوي. تقول آسيا: «تبعاً للغة الفرنسية أُبعدت اللغتان العربية والبربرية عن المدارس وعن المناخ العام في الجزائر، وكان هدفي ان اشير الى الصمت المطبق للنسوة الجزائريات والى نفي اجسادهن، وهذه ظاهرة عادت مع عودة التقاليد الرجعية». اما الرواية الثانية من «الرباعية» فكانت «ظل السلطانة» وصدرت عام 1987 وتبعتها رواية «بعيداً من المدينة» (1991) ثم رواية «وقائع صيف جزائري» (1993). اما رواية «واسع هو السجن» التي صدرت في 1995 فحاولت ان تجمع بين حياة امرأة جزائرية مثقفة ذات نزعة حديثة (هي ربما الوجه الآخر للمؤلفة) ونساء «مغاربيات» برزن خلال التاريخ «المغاربي» العربي وحضارة قرطاج القديمة التي تركت صدى في الثقافة البربرية المعاصرة. وواصلت آسيا اصدار الرواية تلو الاخرى، غائصة في تاريخ الجزائر وأصولها وفي أعماق الشخصية الجزائرية، الانثوية والذكورية. وتقول: «يجب علي ان ارد على كل الاسئلة. انني اود على الاقل ان اعبر عن إلحاح هذه الاسئلة، وأقوم بذلك من اجلي ومن اجل بقية النسوة اللواتي أُجبرن على الرحيل لكي يتمكنّ من التنفس والعيش، ومن اجل النسوة الصامتات والمُهانات اللواتي يمتن مطفآت القلوب وواعيات ذلّهن. هذا ما دفعني الى كتابة «فانتازيا» و «ظل السلطانة» وبقية اجزاء «رباعية الجزائر». حينما سكنت كمهاجرة في احدى ضواحي باريس لم اكن اتخيل انني سأنشغل في الاعوام المقبلة بالتقلبات والجنون والعنف والقتل اليومي في بلادي، مثلما قرأنا في الصحف، مما شوه صورة بلادي. من هنا جاء هذا البحث المنفرد والعاجز في كتبي، وزادت اسئلتي حيرة». أصدرت آسيا جبار بدءاً من منتصف التسعينات روايات وكتباً عدة مثل: «الجزائر البيضاء» (1996)، «وهران، لغة ميتة» (1996)، «ليالي ستراسبورغ» (1997)، «هذه الاصوات التي تحاصرني» (مقالات، 1999)، امرأة بلا قبر» (2002) و «اختفاء اللغة الفرنسية» (2003). ولعل رواية «ليالي ستراسبورغ» التي يبدو عنوانها مثيراً ومختلفاً عن عناوين روايات آسيا جبار، هي رواية حب بامتياز. وشاءتها الكاتبة رداً غير مباشر على الحال المأسوية التي شهدتها الجزائر مع صعود التيار الظلامي. انها رواية حب متخيلة تقع في ستراسبورغ بين شابة جزائرية تدعى ثلجة، آتية من باريس، ورجل فرنسي (أرمل) اسمه فرانسوا يكبرها عشرين سنة. يعيش هذان العاشقان ليالي تسعاً من الحب وهما يعلمان كل العلم انهما سيفترقان في النهاية... تقول آسيا عن روايتها هذه: «لن تفاجأوا ان قلت انني كتبت هذه الرواية في 1997 في لويزيانا (الولايات الاميركية) عندما علمت هناك، وأنا بعيدة عن وطني، بالمجازر التي كانت ترتكب بحق اهالي القرى في وطني... وكان رد فعلي الاول على دموية الحاضر هو ان اكتب باسهاب عن ليالي الحب الخيالية تلك، في ستراسبورغ. وكانت خيالاتي تلك اشبه بالعلاج النفسي». واذا استعادت آسيا في روايتها «امرأة بلا قبر» شخصية زليخة، بطلة المقاومة الجزائرية بعد سنوات طويلة على رحيلها، في لعبة تجمع بين السرد والتخييل، فهي عمدت في روايتها الأجدّ «اختفاء اللغة الفرنسية» الى اختيار رجل بطلاً على خلاف كل رواياتها الحافلة بالنسوة – البطلات. وهذه الرواية من اعمالها البديعة حقاً وتسرد قصة رجل جزائري يدعى «بيركان» يقرر ذات يوم انهاء حياته في باريس بعد خيبة عاطفية والعودة الى الجزائر. ولدى عودته يجد بلاداً اخرى لا تشبه بلاده السابقة. وعندما يدرك ان عائلته لم تبق موجودة يمضي في تذكر امه حليمة، المرأة الناعمة التي كانت ملاطفاتها له تعزيه ازاء عنف اخيه. يجد «بيركان» نفسه وحيداً و «سائحاً» يتعرّض للسرقة... وهكذا يبدأ في البحث عن وجوه انثوية كان يحبها، وينتهي خائباً ولكن كاتباً... لقد جعلت آسيا جبار من هذا «البطل» صورة لها ايضاً ولكن مع بعض التحريف. فالسيرة التي سيسردها هذا البطل تحمل الكثير من ملامح سيرتها الذاتية. لا ينتهي الكلام عن آسيا جبار، روائية وكاتبة ومثقفة ومناضلة، هذه الروائية المرشحة بقوة الى جائزة نوبل والتي دخلت «الاكاديمية الفرنسية» مسكونة بشجونها الجزائرية. وليت رواياتها المترجمة الى العربية تخرج من حصارها الجزائري وتروج عربياً، حاملة الى القراء العرب ابداع كاتبة كبيرة، استطاعت ان تتخطى الحدود الجغرافية واللغوية للعالم. (عن الحياة). موقع "كيكا" في 25 يونيو 2005 |