"المترجمة" لسيدني بولاك في دائرة الضوء فشل الاستقرار على جبهة واحدة ريما المسمار |
منذ ايام بدأت العروض المحلية للشريط الاميركي "المترجمة" The Interpreter في الصالات المحلية. يقوم الفيلم على اسماء واعدة براقة: المخرج سيدني بولاك صاحب Tootsie وOut of Africa وThree days in Condor وسواها؛ الممثلة نيكول كيدمن في دور جديد يُضيف تنوعاً الى ادوارها الاخيرة في The Cold Mountain، The Human Stain، Birth...؛ والممثل شون بن في دور رجل يعيش مأساة الموت والفقدان بما يذكر بدوريه الاخيرين في شريط المكسيكي ايناريتو 21Grams وفيلم ايستوود المؤثر Mystic River. الفيلم الحالي، The Interpreter، يحمل كذلك عناصر اخرى تضعه في دائرة الضوء. فهو فيلم يندرج في اطار السياسي/التشويقي وهو العمل الاول في تاريخ السينما الذي يُسمح لفريقه بدخول المركز الرئيسي لهيئة الامم المتحدة للتصوير داخلها. وتالياً، هناك من سيسأل: هل يمكن لفيلم ينتقد المنظمة او دورها ان يجد طريقه الى قلبها؟ في المقابل، تستمر عروض افلام اخرى في الصالات المحلية: Hostage من النوع التشويقي ايضاً مع بروس ويليس؛ الجزء الاخير من "حرب النجوم" لمحبي السلسلة الشهيرة؛ Kingdom of Heaven في اجواء الحملات الصليبية مع اورلاندو بلوم؛ Exorcist: The beginning الذي يعود الى ماضي الاب "ميرين" طارد الارواح الشريرة؛ الى افلام كوميدية ورومنسية خفيفة من نوع Miss Congeniality 2 وWedding date وA Lot Like Love وسواها. السياسة أمر لا تحبذه هوليوود الا في الحدود التي تتماشى فيها مع ذائقة الجمهور او مع العلاقة التاريخية التي تربط بين هوليوود وواشنطن بما تمثله الأخيرة من الادارة السياسية للبلاد. ولكن المشكلة تكمن في التعريف نفسه: اي فيلم ينطبق عليه وصف "سياسي"؟ في عرف هوليوود، هو العمل الذي يتناول موضوعات شائكة بنظرة نقدية. أقرب الأمثلة هو "فهرنهايت 9/11" لمايكل مور الذي أشعل الرأي العام بنظريته حول أحداث 11 ايلول وحربي افغانستان والعراق. ويتسع ذلك التعريف ليشمل اعمالاً لا ترتبط من قريب او من بعيد بموضوعات سياسية بحتة. فيلم مثل "سائق التاكسي" لمارتن سكورسيزي هو حتماً سياسي في نظرته الى المجتمع الاميركي. وشريط مثل "اللاعب" The Player لروبرت آلتمن هو سياسي بدون شك في نقده نظام هوليوود السلطوي الرأسمالي. ولكن افلا ينطبق التعريف على افلام اتخذت المسار المعاكس للأفلام المذكورة في اتجاه تمجيد هوليوود واميركا؟ بالطبع نعم. الأمثلة لا تُحصى هنا وتتوزع على تاريخ هوليوود الطويل الشاهد على تحولات كبرى من حروب وكوارث ليس اقلها أحداث 11 ايلول التي ألهبت مخيلة المصنع الهوليوودي في اتجاه ابتكارات لا تزيد عن كونها تنويعات على تيمة البطل الاميركي المنقذ مع اضافة شبح التهديد الذي يتربص بالولايات المتحدة الأميركية. اذاً، ضمن هذه المروحة الكبرى، يتمدد تعريف الفيلم السياسي ويتصل بشكل وثيق بصاحب العمل. ولعل تلك العلاقة هي التي تلعب دور العلامة الفارقة التي تميز بين فيلم سياسي وفيلم سياسي. من فرانسيس فورد كوبولا يأتي فيلم مثل Apocalypse Now معبراً عن موقف خاص ونظرة شخصية. بينما يطلع Tears of the Sun اوBlack Hawk Down من دون اسم فارق ليعبرا عن خط جماعي سائد، ورسمي ربما. بين هذين المثالين، الموقف الخاص والنظرة الرسمية، يقع آخر افلام سيدني بولاك "المترجمة" The Interpreter. فالفيلم يتصل بقضايا معاصرة ـ العنف والارهاب والديكتاتوريات ـ ويختار لأحداثه مسرحاً ـ الامم المتحدة ـ يكثر اللغط حوله. كيف يمكن فيلم ان يحمل كل ذلك على كتفيه وان يتحسس طريقاً حيادية في الوقت عينه؟ هنا يقع الفيلم في مطبات كثيرة. فبين مستوييه السياسي ـ التشويقي والعاطفي ـ الميلودرامي يتنقل هرباً من الآخر. اي انه يهرب الى الميلودراما تحاشياً للموقف السياسي ويهرب الى التشويق كي لا يغرق في حكايات حب وخيانة وحداد. النوع هو الذي يحرك الفيلم. اي انه عمل يُراد له ان يكون تشويقياً جاذباً لشريحة واسعة من الجمهور ولكنه يبقي على خزان وقود احتياطي، يقوم على مكانة نجمته نيكول كيدمن وعلى حكاية خلفية لبطله شون بن، غير البعيد هو الآخر من الحياة السياسية معبراً عن مواقفه المناهضة لسياسة الإدارة الاميركية غير مرة آخرها عندما زار العراق. وهم يُفتتح الشريط بمشهد في ملعب كرة قدم مهجور وسط منطقة صحراوية خالية من معالم الحياة. ثلاثة رجال، مقاومان ومصور صحفي، يُقتادون الى مصالحة زائفة حيث يُردى اثنان قتيلين على يد طفل لا يجاوز الثالثة عشرة بينما ينجو المصور. لاحقاً، نفهم ان ذلك المكان المقفر هو بلد في شمالي افريقيا يُدعى "ماتوبو" وان الضحيتين مقاومان للنظام الديكتاتوري برئاسة "زواني" الذي ارتكب مجازر جماعية بهدف التطهير العرقي. في الولايات المتحدة الاميركية، تتركز الاحداث في مركز الامم المتحدة الذي يستعد لاستقبال الرئيس الماتوبي لالقاء كلمة امام اعضائه يريد من خلالها تجنب محاكمته بتهمة القتل الجماعي بناءً على طلب من اعضاء اميركيين واوروبيين في المنظمة. سيلفيا بروم (كيدمن) هي مترجمة فورية في المنظمة ويصدف انها مولودة في "ماتوبو". خلال مرورها ليلاً بمقر المنظمة لأخذ اغراض لها من غرفة الصوت، تسترق السمع الى اصوات هامسة من الميروفونات تخطط لاغتيال شخصية سياسية على منصة الامم المتحدة. هكذا يتشكل خط السرد بين بروم وخطة اغتيال الرئيس الماتوبي وجهاز امن الاستخبارات الاميركي المنوطة به مهمة حماية الشخصيات الرسمية والمتمثل بالعميل "كيلر" (شون بن). اولى المشاهد الخاطفة في الفيلم تلك النقلة من ارض الجريمة الدموية الى مركز الامم المتحدة الذي يظهر للمرة الاولى في السينما على حقيقته. ولعل المتابعون اخبار الفيلم يذكرون الضجة التي اثيرت عندما اعلن مخرجه بولاك انه حصل على موافقة بالتصوير داخل مركز المنظمة في سابقة لم تشهدها هوليوود. حتى الفريد هيتشكوك قام ببناء ديكور مصطنع لمقر الأمم المتحدة في فيلمه الشهير North By Northwest. يستند The Interpreter الى هذا التفصيل في محاولة لتأسيس أرضية واقعية لأحداثه. ومما لا شك فيه ان ذلك يترك اثره في الدقائق الاولى لجهة اثارة جو من الرهبة تجاه واحد من المراكز الاعلى المنخرطة في السياسة. فالراني الى الشاشة الى تلك المشاهد التي تظهر قاعة الاجتماعات الكبرى لا يسعه الا ان يفكر في القرارات المصيرية التي اتخذت هناك وبالمرات العديدة التي فشلت فيها المنظمة في فرض قوانينها. الا ان ذلك التأثير لا يلبث ان يزول مع تطور الأحداث لتبقى الصورة وفية لعنصر واحد فقط هي مثالية الدور المنوط بالمنظمة. فذلك الديكور العصري المرتب المقل في زخرفته وتلك الارضية اللامعة والتقسيم الهندسي المتقشف كلها عناصر موحية بصورة مثالية، لا تلبث ان تتحول المناخ العام للفيلم. فالمثالية هي ايضاً من صفات "سيلفيا" المؤمنة بانتصار الكلمة على السلاح والديبلوماسية على العنف. انها، بمعنى آخر، الناطقة الرسمية باسم المنظمة والصورة المشرقة لها. مثل "سيلفيا" المهتمة بعملها بدون ان تلقى بالاً للوجوه، كما تقول، كذلك هي الامم المتحدة، تعمل بصرف النظر عن تأثير اعمالها على الواقع. من هنا، تتحول هيئة الامم المتحدة في الفيلم هيئة وهمية مثلما هي "ماتوبو" دولة افريقية وهمية (ماتوبو هو اسم الحديقة العامة في زيمبابوي..مصادفة؟!) وكما هي حبكة الفيلم في النهاية وهمية مزيفة. فالتعاطي مع الامم المتحدة ككيان قائم بدون جذور وتاريخ هو تحديداً ما يحولها منظمة وهمية حيث تغيب الاشارات الى تفاصيل نعرفها او نسمعها ويُختصر دورها في الفيلم بمعاقبة زعيم وهمي لبلد وهمي! مثالية لأسباب عدة، يفشل فيلم بولاك في الاستقرار على جبهة واحدة كما يفشل في دمج جبهاته المتعددة في بوتقة واحدة متماسكة. في المقدمة، تحضر بشدة الامم المتحدة وعناوين الديكتاتورية والعنف في الدول الافريقية وخطة الاغتيال التي تقوم الحبكة عليها.. وفي الخلفية، يلعب الفيلم على ماضي شخصياته وعلى العلاقات في ما بينها من دون ان يتمكن صوغ عمارة متكاملة. "كيلر" خارج لتوه من مأساة وفاة زوجته. ولكن ذلك لا يثري الأحداث بالفعل الا من حيث اعطاء شون بن شيئاً يبني عليه اداؤه ويتشارك من خلاله مع "سيلفيا" المعاناة. كلاهما يلتقي عند مأساته الشخصية على الرغم من التباين الواضح بين شخصيتيهما. مرة أخرى، يتبنى الفيلم نظرة مثالية بريئة الى الأشياء. لا يزعج "كيلر" مثلاً ان زوجته ماتت في حادث سير عندما كانت برفقة عشيقها. ولا تتردد "سيلفيا" للحظة عندما تتلو فضائل الامم المتحدة في وجه العنف والسلاح والحروب على الرغم من ماضيها في المقاومة السياسية. في المستوى الآخر السردي، يعاني الفيلم من ثغرات هائلة. بعض الاسئلة يبقى معلقاً من دون اجابة. لماذا يقوم اثنان بالترتيب لعملية اغتيال داخل قاعة الامم المتحدة وعلى مسمع عشرات الميكروفونات التي من الجائز ان يكون احدها مفتوحاً؟ كيف تنبأت "سيلفيا" بصعود "كامبا ـ كامبا" المعارض الماتوبي المنفي الى ذلك الباص فلحقت به واتهمته بقتل اخيها وحبيبها السابق؟ كيف يمكن لاي مشاهد يتابع بالحد الادنى من التركيز احداث الفيلم ان يكتشف ان للمسؤول عن حماية "زواني" صلة بالعملية وان يغيب ذلك عن المحققين وعملاء الاستخبارات؟ لماذا يكون كل افريقي اسود في الفيلم منوطاً بالعنف بينما تكون "سيلفيا" الافريقية البيضاء الوحيدة الأكثر انسانية وعمقاً من حيث رسم شخصيتها؟ ولمَ تلك النظرة النمطية الى افريقيا كمرتع للعنف والدماء في المشهد اليتيم الذي تظهر فيه في افتتاحية الفيلم؟ ثم كيف يمكن اجتماع كل تلك الادلة على فساد "زواني" وضرورة محاكمته في حين تواجه المنظمة إعراض الدول الكبرى عن توصياتها وقانونها الدولي؟ على ايقاع تلك الاسئلة وغيرها، تتهادى الأحداث في اتجاهين: الاول تصاعدي مع اقتراب موعد وصول الرئيس الافريقي واقتراب موعد تنفيذ خطة اعتقاله المزعومة ويتمثل بمطاردات وتفجيرات وسواها من عناصر التشويق الكلاسيكية والثاني داخلي يتفجر عند "سيلفيا" كاشفاً عن غموضها الجميل. فمن مقاومة تحمل السلاح، تحولت مترجمة فورية في الامم المتحدة ومؤمنة ايماناً عميقاً بدور المنظمة في احلال السلام ومن ثم مرتدة الى ماضيها لتنتقم لعائلتها ولشقيقها. ولكن نهاية الفيلم تنسجم مع مناخه المثالي السائد. في غرفة مقفلة، تواجه "سيلفيا" الديكتاتور "زواني" في محاولة للتخلص من اشباح الماضي ومواجهة "زواني" بالمقاوم الذي كانه. مشهد لا يخلو من قوة وتأثير ولكنه يبقى مثالي النظرة. فلنتخيل: رجل سلطة فاسد يستعيد مشاهد من ماضيه كمقاوم مؤمن بتحرير بلاده وفوق ذلك يتأثر وربما يعترف ضمناً بخيانته لذاته! لحظة انسانية عميقة ولكنها ضرب من الخيال. برغم ذلك، يبقى فيلم بولاك في منطقة وسطية بين الانتاج الهوليوودي القائم على معادلة جاهزة وبين الفيلم الخاص. فهو يخاطر بالنسبة الى فيلم هوليوودي بتقديم بطلته تحمل السلاح وتعترف بقتلها طفلاً وفي الوقت عينه لا يبذل جهداً كبيراً في ابراز موقف سياسي خاص. المستقبل اللبنانية في 6 يونيو 2005 |
فيلم يكرس نظرة الأمريكان للآخر ترجمة فورية.. لـ مؤامرة فى الأمم المتحدة شاهده: أحمد يوسف أعترف للقارئ أننى خلال مشاهدة فيلم المترجمة الفورية أو مؤامرة فى الأمم المتحدة كنت أعيش تجربتين متناقضتين تماما، الأولى هى تجربة الاستمتاع الحقيقى بأسلوب الفيلم والذوبان الكامل فى العالم النفسى لشخصياته، أما الثانية فهى مرارة إدراك أن معظم السينمائيين الأمريكيين -حتى أكثرهم حيوية وانفتاحا- لا يستطيعون التخلص من أمريكيتهم، ولا أقصد بذلك مواطنتهم وإنما نظرتهم الضيقة المحدودة تجاه العالم الذى يرونه يبدأ وينتهى بهم، وهم إذا أرادوا تناول قضية ما خارج حدودهم فإما بالافتراس الوحشى على طريقة جورج بوش وعصبته، أو بالتعالى والتأمل من برج عاجى، وهما الموقفان اللذين تنقلت بينهما الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية حين قالت فى البداية ماليش دعوة، خليهم يخلصوا على بعض، لكنها عندما قررت أن تكون طرفا لم تتورع عن أن تستخدم القنابل الذرية للمرة الأولى فى تاريخ البشرية. إن هذا التناقض فى جوهر الثقافة الأمريكية يبدو واضحا مع المترجمة الفورية، الذى سوف أقرأه معك مرتين، ولنبدأ بالحبكة السياسية التى تحكى عن بلدة أفريقية متخيلة تدعى ماتوبو، يحكمها الرئيس العجوز زوانى الذى كان فى بداياته نصيرا للحرية لكنه انتهى ديكتاتورا يمارس الإبادة العرقية ضد خصومه، وها هى بعض الأسرار تتكشف بما يوحى بأن الخصوم يدبرون لمحاولة اغتياله فى مبنى الأمم المتحدة، وهكذا يتخذ الفيلم تلك الحبكة وسيلة لخلق توتر درامى فى محاولة للكشف عمن يقف وراء هذه المؤامرة وإيقافها قبل أن تحدث، ولا تأمل فى أن أحكى لك أكثر من ذلك حتى تستمتع بنفسك بالفيلم. المشكلة فى تلك الحبكة التى اشترك خمسة كتاب فى كتابتها أن الفيلم لم يمنحها قدرا كافيا من التأمل الجدير بها، فهى تحدث هناك فى أفريقيا ويجب أن تبقى هناك، والسباق الحثيث لوقف المؤامرة سوف يؤدى فى لحظة ما إلى انفجار إرهابى فى حافلة تسير فى شوارع نيويورك، فيعلق رئيس الشرطة -الذى يقوم بدوره المخرج سيدنى بولاك وكأنه يعبر عن رؤيته الذاتية- قائلا إن ذلك الحادث جدير بإحدى مدن الشرق الأوسط !! وهكذا تقبع فى لاوعى المتفرج الأمريكي- بل الفنان أيضا- فكرة أن أفريقيا والشرق الأوسط وأماكن أخرى من العالم ليست إلا سلخانات لأن البشر القاطنين فيها طبعهم كده، وهو الأمر الذى لا يسفه فقط قضايا الصراع التى تجتاح العالم، لكنه أيضا يحاول لفت الأنظار عن دور أمريكا -المباشر جدا فى بعض الأحيان- فى خلق هذه الصراعات، فى نفس الوقت الذى نجحت فيه فى تقزيم دور الأمم المتحدة وجعلها مجرد ديكور فى الواقع، لكن بعض نقادنا أشادوا بكون الأمم المتحدة بطلا فى هذا الفيلم !! دعنى أعترف لك الآن اننى -على الجانب الآخر- استمتعت بأسلوب الفيلم، وتصورت للحظة - ومعى بعض الحق - أن تلك الحبكة السياسية يمكن استبدالها بأية حبكة بوليسية أخرى، فلتكن على سبيل المثال عصابة من الأشرار تخطط لارتكاب جريمة ما، وبالمصادفة فإن بطلة الفيلم سيلفيا بروم نيكول كيدمان تعلم طرفا من تفاصيل هذا المخطط، فتستعين بضابط الشرطة توبين كيلر شون بين لكى يحميها، وهو لا يصدقها فى البداية لكنه يكتشف صدقها فى النهاية. إن كان هناك جهد حقيقى بذله كتاب القصة والسيناريو فهو محاولة إلباس الحبكة السياسية داخل الحبكة البوليسية، فلتكن إذن البطلة إحدى مواطنات هذا البلد الأفريقى، ولأنها تتحدث لغة هذا البلد وتعمل مترجمة فورية فى الأمم المتحدة،فإنها تسمع بالصدفة همهمات عن مؤامرة اغتيال الرئيس الديكتاتور، ولكى يزيد تعشيق الحبكتين معا فإن للبطلة -بالصدفة أيضا- ثأرا قديما مع الرئيس، حتى يثور الشك أحيانا أنها ربما تكون طرفا فى مؤامرة الاغتيال، وبالطبع فإن هوليوود سوف تنهى الحدوتة كلها بأنه أحسن من السلام مافيش، لأن السلام يجب أن يكون الخيار الاستراتيجى للعالم مادامت الحرب الشرسة هى لأمريكا بطيختها الصيفى الاستراتيجية! إن كل هذا التوتر السياسى أو البوليسى سوف يتبخر من ذهنك بعد أن تشاهد الفيلم، لكن ما سوف يؤثر فيك بحق هو الأسلوب السينمائى الذى ينتمى إلى سينما السبعينيات، وكان سيدنى بولاك أحد فرسانها الكبار، وإن كان لنا أن نتعلم من هذه السينما فهى تلك الحرفية العالية، والتى تبدأ برسم الشخصيتين الرئيسيتين اللتين تبدوان على طرفى نقيض: فتاة فى مقتبل العمر، تتقن العديد من اللغات وتحب الحياة، وكهل جعلته التجارب أكثر جفاء وتشاؤما. إن هذا الاختلاف بينهما يخلق التوتر الدرامى، لكن صناع الفيلم لا ينسون أيضا خلق مساحة درامية مشتركة بينهما تعمل على تضفير التناقض، فلكل منهما قصة مع الماضى القريب أو البعيد تركت فى نفسيهما قدرا هائلا من المرارة، وأرجو أن تتأمل تلك المشاهد العذبة التى يتبادلان فيها الاعتراف بالعذابات الدفينة بداخلهما، وتنتهى بنوم البطلة على كتف البطل دون أن تتطور هذه العلاقة الإنسانية أبدا إلى ما تعرفه عن نهاية هذه العلاقات فى هوليوود. يفهم سيدنى بولاك جيدا أن عبء تجسيد هاتين الشخصيتين يقع على عاتق ممثلين يجب أن يتمتعا بالموهبة والخبرة، ويعى أن على المخرج فى بعض المشاهد أن يتوارى لكى يضع الممثل وحده فى بؤرة الكادر والدراما. بهذا التواضع الفنى الذى يعكس الثقة بالنفس، لا يلجأ بولاك أبدا إلى أية إثارة مجانية حتى أنك - فى عصر تقنيات الكومبيوتر المبهرة - لا تلمح مؤثرا بصريا مقصودا لذاته أو لاستعراض عضلات المخرج. وهو يدرك أن الفيلم البوليسى ليس معناه حشد المطاردات التى تنتهى بتحطيم السيارات أو انفجارها وإن لم يخل الفيلم من ذلك على نحو متفرق فالأهم هو التوتر من الداخل إلى الخارج وليس العكس، التوتر النابع من الشخصيات والقابع فى أعماقها، الذى يمكنك أن تراه على نحو شديد البلاغة والبلاغة تعنى الإبلاغ والتوصيل أيضا فى العديد من المشاهد، فبدون كلمة واحدة نرى البطل الكهل للمرة الأولى وهو يجلس فى حانة بعيدا عن الناس، ويخلع خاتم الزواج ليضعه فى كأس فارغة، ويغير من الأغنية التى تتردد فى الحانة ليضع بدلا منها أغنية حزينة، ويتصل بمنزله ليستمع المرة تلو الأخرى لصوت زوجته على جهاز الرد الآلى، لنعلم أنها قضت نحبها فى حادث منذ أيام قليلة. فلنتعلم من هذا الفيلم كيف تصنع الدراما فى السينما، لكن يجب أن نتعلم أيضا كيف تقوم هوليوود بمسخ الأفكار السياسية، وهو الأمر الذى لخصه أشهر النقاد الأمريكيين روجر إيبرت فى ملاحظته الذكية: لا أدرى لماذا كانت البطلة من الأقلية البيضاء فى بلد أفريقى، وليتخيل المتفرج أنها بطلة سوداء ويتصور عندئذ كم ستكون الحبكة السياسية أكثر عمقا ، إن هذا يعنى أن النقاد الأمريكيين أنفسهم أكثر حساسية تجاه المضمون السياسى فى أفلامهم، لكن بعض نقادنا يخشون من ذلك ويتصورونه تعسفا.. فيا ليتنا نتعلم!! العربي المصرية في 5 يونيو 2005 |