باريس – مروى حجّار |
بعد سنة من عرضه في مهرجان كان ٢٠٠٤ نزل فيلم إيشي كاتسوهيتو «طعم الشاي» إلى الصالات الفرنسية. الفيلم وإن كان عدد مشاهديه أقلّ بكثير من عدد مشاهدي الأفلام الأميركية والفرنسية المعروضة في الصالات، فهو يلقى نسبياً إقبالاً كبيراً توازيه حفاوة نقديّة في معظم الصحف والمجلات الفرنسية. الإجماع هو أّّ فيلم إيشي كاتسوهيتو مختلف. الفيلم مختلف من دون شكّ. ولعلّ أبسط ما يمكن قوله عن الفيلم هو أنّه غريب. غرابة تظهرها فرادة أطوار شخصيّاته، طريقة السرد التي اعتمدها المخرج (وهو كاتب السيناريو أيضاً)، واللجوء إلى فنّ التحريك وعالم المانغا. يصوّر إيشي كاتسوهيتو يوميّات عائلة في إحدى القرى الجبليّة اليابانيّة. الفتاة الصغيرة ساشيكو تحاول التخلّص من شبيهتها الوهميّة العملاقة التي تراها خلفها في كلّ مكان. شقيقها هاجيمي يعيش حبّه الأول. العمّ أيانو مهندس الصوت المستغرق في صمته عاش تجربة ساشيكو عندما كان ولداً صغيراً ولم يتخلّص من الرجل الذي كان يلاحقه إلا بعد أن استطاع الدوران على نفسه دورةً كاملةً مستنداً إلى عارضة خشبية. الأم يوشيكو تقرّر معاودة ممارسة عملها في صناعة الرسوم المتحرّكة بعد انقطاعٍ طويل. الأب نوبوو المُعالِج بالتنويم المغناطيسيّ يتجنّب شقيقه رسّام المانغا الشهير الذي يريد الإنطلاق في عالم الغناء. وأخيراً الجدّ الغريب الذي يعيش مع العائلة من دون أن يسمح لأحدٍ من أفرادها بدخول غرفته. شخصيات غريبة شخصيّات إيشي كاتسوهيتو غريبة الأطوار. هذه الغرابة التي نراها بوضوح من خلال تصرّفات الجدّ والعمّ الرسّام وخصوصاً في مظهرهما الخارجيّ الذي هو إلى حدٍّ ما كاريكاتوريّ هي أشدّ وقعاً وتأثيراً في الشخصيّات الأخرى الأكثر هدوءاً والأشدّ رزانةً. فرادة ناتجة من استغراق هذه الشخصيّات في عالمها الخاصّ. شخصيّات إيشي كاتسوهيتو تغوص لحدّ الغرق في هواجسها. ساشيكو التي تثابر على الذهاب إلى الغابة لتتدرّب على الدوران على نفسها على عارضة خشبيّة قديمة معتقدةً أنها بذلك ستمحو شبيهتها الخيالية من الوجود. هاجيمي الذي يصبح مهووساً بلعبة الـ go لأن الفتاة التي يحبّ تلتحق بنادي اللعبة في المدرسة. الأم المستغرقة في رسومها التي وإن كان غياب إبنتها ذات الأعوام الثمانية عن البيت يثير استغرابها لكنه لا يسبّب قلقاً لها. الكلام بين افراد العائلة شبه منقطع. ساشيكو لا تخبر أحداً عن شبيهتها العملاقة، هاجيمي لا يخبر أحداً عن أوي الفتاة الجديدة التي انتقلت حديثاً إلى مدرسته. العمّ أيانو لا يخبر أحداً عن حبيبته التي تركته لتتزوّج من آخر. لعلّ أجمل ما في «طعم الشاي» أنّ المخرج لا يظهر هذه الفرداويّة وقلّة الكلام كسببٍ لانقطاع التواصل ولفتور العلاقات بين شخصيّات فيلمه. على العكس، فهذه الانطوائيّة إن صحّ التعبير هي على غرابة الفكرة ما يجمع هذه العائلة. فلاش باك لم يسرد إيشي كاتسوهيتو يوميّات هذه الأسرة في شكلٍ عاديّ، فهو اعتمد في شكلٍ أساس على الفلاش باك متنقّلاً في السرد من شخصيّة إلى أخرى عشوائيّاً بطريقةٍ تبدو لوهلةٍ غير مترابطة. إلا أنّ هذه التقنيّة في السرد لم تسرّع من إيقاع الفيلم الذي بقي بطيئاً جدّاً لحدّ الرتابة أحياناً. ساعتان وخمسٌ وعشرون دقيقة مدّة «طعم الشاي»، ساعتان وخمسٌ وعشرون دقيقة تشعر بمرور كلّ دقيقةٍ منها. الا أنّ هذا الملل الذي قد يعتري المشاهد في النصف الأوّل من الفيلم سرعان ما يتبدّد في النصف الثاني، إذ انّ الربط بين المشاهد والتنقّل بين الشخصيّات يصبح أكثر تماسكاً. لا شكّ في أنّ مشاهد إيشي كاتسوهيتو الجميلة تخفّف من وطأة الرتابة التي يشعر بها المشاهد في بعض الأحيان. فصورة إيشي كاتسوهيتو شاعريّة: كمشهد المظلات الملوّنة تحت المطر، أو مشهد هاجيمي راكضاً خلف القطار، المشاهد التي تظهر فيها ساشيكو جالسةً على الإفريز الخشبي، حافية القدمين، مقطّبة الوجه، غارقةً في تأمّلاتها، أو مشهد الشجرة المزهرة الذي يتكرّر في الفيلم أكثر من مرّة (والذي لا بدّ من أن يذكّر المشاهد بمشهدٍ مطابقٍ هو أيضاً يتكرّر أكثر من مرّة في فيلم «دمى» لتاكيشي كيتانو). ولعلّ أكثر ما يرسّخ غرابة «طعم الشاي» هو لجوء كاتسوهيتو إلى كسر سرده البطيء باللجوء إلى فنّ التحريك وثقافة المانغا وموسيقى البوب اليابانية الحديثة. هذا المزج إن كان مبرّراً وجميلاً أحياناً (كعرض الفيلم القصير الذي ساهمت الأمّ في رسمه أو الغوص في عالم الرسوم المتحرّكة وصناعتها عند اكتشاف العائلة لرسوم الجدّ) فهو يظهر في أحيانٍ أخرى مصطنعاً، مفبركاً وحتّى سمجاً (كمشهد الشابين المتنكّرين بثياب المانغا في القطار). في أحد مشاهد الفيلم يسأل نوبوو إبنه وزوجته إن كانا قد استمعا إلى الأغنية التي كتبها ولحّنها وغنّاها شقيقه الرسام. فتجيب زوجته بأنّ الأغنية مزعجة تثير الأعصاب. أمّا هاجيمي فيقول انّ الأغنية أعجبته. وعندما يسأله والده لماذا يجيب بأنّها تعلق بالذاكرة وتتردّد في الرأس من دون وعي. لا شكّ في أنّ فيلم إيشي كاتسوهيتو يبقى في الذاكرة (لغرابته واختلافه أوّلاً ولرقّة أبطاله الثلاثة الرئيسيين ساشيكو، هاجيمي وأيانو). لكن أيكفي ذلك لوصفه بالجميل؟ الحياة اللبنانية في 3 يونيو 2005 |