لم يكد المخرج المصري أسامة فوزي يخرج بمساندة مفكرين ومثقفين منتصرا في معركته مع الرقابة من أجل عرض فيلمه المثير للجدل "بحب السيما" الذي يعرض لأسرة قبطية "متزمتة"، حتى وجد نفسه في مواجهة جديدة مع عدد من رجال الدين الأقباط، أبدى إصرارا على خوضها والسباحة ضد التيار. فقد اشترطت الرقابة على فوزي في مرحلة ما حصول الفيلم على موافقة الكنيسة القبطية، لكن المخرج رفض وسانده مفكرون ومثقفون حتى تقرر عرض الفيلم بدون هذه الموافقة. وبعد أسبوعين تقريبا من بدء عرض الفيلم تقدم 40 مصريا بينهم 11 من كهنة الكنيسة القبطية ببلاغ إلى النائب العام، يطلبون فيه منع عرض الفيلم؛ بدعوى أن فيه "ازدراء فاضحا للعقيدة المسيحية"، حسبما صرح أحد هؤلاء الكهنة القمص مترياس نصر لمجلة "روز اليوسف" في عدد السبت 10-7-2004. وقال القمص إسطفانوس ميخائيل -راعي كنيسة العذراء بمصر الجديدة، أحد مقدمي البلاغ- للمجلة نفسها: إن الفيلم "وراءه مؤامرة صهيونية تستهدف هدم الدين المسيحي من أساسه". لكن المخرج أسامة فوزي الذي حصل فيلماه "عفاريت الإسفلت" و"جنة الشياطين" على عدة جوائز فقد اعتاد مقاومة التيار، مؤكدا "أحب أن أعمل في السينما المصرية رغم كل الظروف الصعبة التي تمر بها، أحب جدا هذا التحدي". فيلم ضد الخوف وعندما سألته "إسلام أون لاين.نت" السبت 10-7-2004: ألم تكن تتوقع كل هذه المشاكل؟ أجاب أسامة فوزي : "لم أفكر بهذه الطريقة. وأرى أن أي فيلم لا بد أن يحمل هذا القدر من الجرأة. لكننا لم نعتد على ذلك خاصة في السنوات الأخيرة حيث انتشرت الأفلام السطحية التافهة، ولا نناقش أي قضية بجدية بل نهزر ونهرج". وأضاف: "مناقشة أي قضية بجدية لا يؤدي إلى الخوف. والفيلم ضد الخوف، ويدعو لأن يمتلك الإنسان قدرا أكبر من الشجاعة في مواجهة وحب الحياة والتعامل معها دون تعصب". وتدور أحداث الفيلم في فترة الستينيات وبالتحديد عامي 196 و1967، ويؤكد المخرج أن "تنفيذ الفيلم في فترة الستينيات أصعب، إلا أن تلك الفترة تعطينا حرية أكبر في مناقشة موضوعات ربما لم يكن ليسمح لنا بمناقشتها بنفس القدر من الحرية لو أن الأحداث تدور حاليا". ورغم أن الفيلم يحمل كراهية واضحة للعهد الناصري (1954-1970) ويقدمه في صورة الأب كرمز للقهر.. يرى أسامة فوزي أن نقده لفترة بعينها لا يعني كراهيتها. ويوضح: "مثلا أنا لا أكره شخصية الأب في الفيلم؛ فرغم قسوته على ابنه فمن الواضح جدا حبه له. المشكلة فقط هي فكرة الوصاية أو السيطرة والقهر من شخص يحبك ويدعي أنه يعمل لصالحك". ويضيف: "وهذا ينطبق على عبد الناصر؛ فلا يستطيع أحد أن يشك في وطنيته وعمله لمصلحة الشعب، لكنه مثلا اختار الاشتراكية التي ربما رآها أنسب لنا، دون أن نُسأل كشعب عما نريده. وعندما جاء السادات وحولنا للرأسمالية لم نُسأل أيضا، ولم يتم إعدادنا لهذا التحول". وكما يعرض الفيلم للقهر على مستوى الأسرة فإنه يقدم بشكل غير مباشر قهر المجتمع، وهو الذي يدفع الأم في الفيلم لقهر أبنائها في النهاية فتقول لهم: "أنت لازم تطلعي مهندسة، وأنت لازم تطلع دكتور"، حتى لا يقول أحد إنها لم تستطع تربية أولادها أو "أنها رمت العيال وراحت تتجوز". فاضطرت أن تضحي بسعادتها ورفضت الزواج. "بحب الحرية" وهو يرى أن "الفيلم ضد كل سلطة.. ليس فقط السلطة السياسية، ولكن سلطة الأب في الأسرة، والمدرس في المدرسة، والطبيب. والطفل يمثل نداء الحرية، والسينما هنا هي معادل الحرية (بحب السيما بمعنى بحب الحرية)". ويعد تناول الفيلم للتطرف في فترة الستينيات مثيرا للدهشة، خاصة أن هذه الظاهرة قد تنطبق على المجتمع المصري اليوم، إلا أن المخرج يقول: "عندما نتكلم (يقصد نفسه هو والمؤلف) عن الستينيات فلسنا بمعزل عن الواقع الذي نربط المتفرج به دائما عن طريق الراوي". وأضاف: "وما نريد أن نقوله أننا ما زلنا نعاني لهجة التعصب حتى الآن. ويمكن أن أطلق عليه تزمتا دينيا. والتزمت الديني موجود في كل عصر؛ لأن أي فكر أو أيديولوجية معينة يعتقد فيها مجموعة من الناس لها تأويلات متطرفة". مشاكل رقابية وأضاف أن هذا "التزمت الديني" هو الذي أدى لرفض رقيبة مسيحية لسيناريو الفيلم، بينما وافق عليه ثلاثة رقباء آخرين. وتابع: "ولأن الفيلم يتناول أسرة مسيحية اضطر رئيس جهاز الرقابة إلى تكوين لجنة، تضم: د.يونان لبيب رزق، والناقدين مصطفى درويش، وأحمد صالح أجازت السيناريو". وأضاف: "ونتيجة لمشكلات نظام الرقابة كانت نفس الرقيبة ضمن لجنة أخرى شكلت وضمت أحد عشر رقيبا شاهدوا الفيلم، وكانت العضو الوحيد الرافض". ورغم الثناء الشديد على الفيلم من جانب اللجنة قرر د.مدكور ثابت رئيس الرقابة على المصنفات الفنية عرض الفيلم على الكنيسة القبطية؛ وهو ما رفضه صناع الفيلم، وأقاموا عرضا خاصا رأى فيه رجال الفكر والإعلام والفنانون ضرورة عرض الفيلم كاملا؛ مما أدى لتراجع الرقابة عن موقفها. وكون د.جابر عصفور لجنة تضم د.أسامة الغزالى حرب، د.قدرى حفني، د.هدى بدران، والناقدين ماجدة موريس وكمال رمزي الذين أبدوا إعجابهم الشديد بالفيلم. وتم حذف بعض جمل حوارية معظمها خاص بمشهد المعركة في الكنيسة كما تقرر عرض الفيلم للكبار فقط. رسالة الفيلم دعوة الفيلم لقهر الخوف تدفع للتفكير في مشهد نهاية الفيلم الذي يموت فيه الأب؛ فقد سبق هذه النهاية مشهد رائع تعانق فيه الغروب مع تحول شخصية الأب؛ فرأيناه يركب الدراجة واضعا أمامه ابنه في رقة وحنو لم نعهدهما به منذ بداية الفيلم، وهو مشهد أقوى من مشهد النهاية. لكن المخرج أسامة فوزي يؤكد أنه يختلف تماما مع هذا الرأي؛ فهو يرى أن "في هذا النوع من الأفلام لا بد أن نرى الأب وهو يموت، ولا يصلح أن نتخيل موته. فقد مات وهو يصلى كما تمنى دائما، ولم يمت كافرا كما قد يظن البعض، خاصة بعد مشهد مناجاته لله، مؤكدا أنه لا يحبه بل يخاف منه". وأضاف: "ظهرت على وجه الأب ميتا علامات السعادة والارتياح بعدما استطاع أن يسعد أسرته ويفهم الطريق الصحيح للإيمان. وكان لا بد أن نرى الأم وهي تتسلم السيطرة من الأب". وتابع المخرج: "لكننا تعودنا أن نشاهد الأفلام بأفكار مسبقة، ونتصور مشاهد نهايتها. وأنا أحب أن أعمل ضد توقعات المتفرج. وقد أخذ الفينال (مشهد النهاية) شكلا رمزيا عكس الدراما الموجودة طوال الوقت وهذا مسموح". واعتبر أنه "لا بد من هذا المشهد (الطفل لا يعبأ بموت جده، ويستمر في مشاهدة التليفزيون ضاحكا) الذي يحمل تطلعا إلى المستقبل؛ فالطفل المعزول عن العالم يصر أن يكمل حياته كما يريد، ويختار ما يحبه. وعلى مستوى الشخصيات الدرامية فقد توفي الجد الذي كان يربطه بهذا العالم، وسافر الخال الذي جعله يحب السينما، ولم يبق رجلا سواه في العائلة". ويشير أسامة فوزي لاهتمامه برد فعل الجمهور تجاه أفلامه من أجل اختيار فيلمه التالي "ففيلماي: عفاريت الإسفلت وجنة الشياطين صادمان، ويواجهان المتفرج بقسوة؛ إذ كنت أشعر في هذا الوقت أن المجتمع يحتاج إلى صدمات حتى يفيق من ثباته وحالة عدم الإحساس واللامبالاة التي أصابته". وقال: "كنا لسنوات نقدم الأفلام لنطبطب على الناس، ونقول لهم: إن الحياة جميلة رغم مساوئها، ونحن شعب من الأبطال يستطيع أن يقاوم ويتحايل على الحياة، خاصة الطبقة المتوسطة والمهمشين. ورأيت أن هذا يساعد على أن تظل الأوضاع كما هي". وتابع: "وفي فيلمي الثالث بحب السيما قررت أن أتصرف بشكل مختلف، محاولا التأثير على المشاهد ولكن بحنو. فالفيلم أيضا يحمل نوعا من الصدمة والاستفزاز ولكن بشكل قائم على الوجدان والمشاعر". موقع "إسلام أنلاين" في 10 يوليو 2004 |
راشدة رجب |
|