مع تنامى سطوة التيار السلفى، أو الذى اصطلح على تسميته
المتأسلم، والتغير الهائل فى بنية المجتمع المصرى نتيجة التحول الاقتصادى
والانقلاب الاجتماعى والتراجع القيمى والاخلاقى، تصور بعض المنتمين للحقل
السينمائى من أصحاب الكيانات الانتاجية الاحتكارية المسيطرة على مقاليد الانتاج
والتوزيع ودور العرض، أن اتجاه الريح، حسبما تقول بوصلتهم المعطوبة، ينبئ بيوم
قريب يسيطر فيه التيار الأصولى على المجتمع المصرى بأكمله (!) فما كان من هؤلاء
السذج سوى أن أعدوا العدة لركوب الموجة والسعى الحثيث لتملق هذا التيار
المتخلف، ومداهنة رموزه المتطرفة، عبر تمهيد الأرضية لاستقباله، مع ضمان
استمرارية وجود هذه الكيانات الأكثر رجعية، والتى تعمل فى الغالب بأموال
«الشيوخ»، ولا تتورع عن الترويج للأفكار الوهابية المتشددة، فكان الاعلان عن
«تحجيب السينما المصرية» من خلال رفع شعار «السينما النظيفة»، الذى زعموا، فى
تزييف صارخ للوعى وتحايل خبيث على الواقع، أنه ينأى بالسينما المصرية عن مشاهد
الجنس والقبلات والإثارة والخلاعة والعرى والترخص والابتذال، بينما الحقيقة
التى يعلمها جميعهم، قبل غيرهم، أن الهدف فى الأول والآخر لا يخرج عن التقرب
لهذا التيار الرجعى، جنى الأرباح الطائلة من وراء دغدغة المشاعر الدينية وخداع
الجمهور بالإيحاء أن هذه «السينما النظيفة» تحترم مشاعر الأسرة المصرية، وتحرص
على ألا تخدش حياء المجتمع، مادامت تحرم القبلة وتحظر المشاهد العاطفية، وتحمى
الوطن من الغى، والضلال!
يمكن القول أن المجتمع المصرى تعرض لإرهاب فكرى، باسم الدين،
وكأن الهدف احلال سينما التفاهة، واضفاء مشروعية عليها وتقديمها كسينما بديلة
للسينما المزعجة، ولن نقول الجادة، التى تقترب من هموم الناس وتتناول قضاياهم
وتعكس أحلامهم وطموحاتهم، وكأن الهدف تغييبهم، وليس فقط تزييف الواقع وتجميله
عن طريق اخفاء عوراته، من عنف وجنس وفساد سياسى وانهيار اجتماعى، فأصحاب الدعوة
إلى السينما النظيفة أول من يعلمون أن رصد الواقع، بسلبياته قبل ايجابياته،
خطوة مهمة فى سبيل تغييره، والنهوض به، وهو هدف يتنافى بل يتقاطع مع مخططاتهم،
لذا تجاوز الأمر حد الإرهاب الفكرى إلى الضغط النفسى وتوظيف الأدوات الإنتاجية
للكيانات الاحتكارية، لاجبار الجميع، من كتاب ومنتجين ومخرجين وممثلين، على
الترويج لهذه «السينما النظيفة»، وجاء نجاح فيلم «إسماعيلية رايح جاى» فى تحقيق
أعلى الإيرادات عام 1997 ليسهل «عملية غسل المخ»، بالإيحاء أن «نظافته» وخلوه
من القبلات والأحضان هو الذى أسهم فى نجاحه، وجاء نجاح «صعيدى فى الجامعة
الأمريكية» ليعمق هذا الاحساس، خصوصا أن معدل إنتاج السينما المصرية بات يتراجع
بشكل مخيف، حتى وصل إلى 18 فيلما فى عام 1999 ولم يتجاوز الثلاثين فيلما طوال
السنوات التالية قبل أن يبلغ الأربعين فيلما هذا العام، المأساة فى الأمر أن
عددا غير قليل من الممثلات، من جيل الشباب، استجبن للضغوط الانتاجية، وأصبحن
يرفضن الموافقة على بطولة الأفلام الجريئة التى لا تعرف «السينما النظيفة» أو
التى لا يعترف مخرجوها بهذه النوعية من السينما الساذجة والمتملقة، والحجة
المعلنة لهؤلاء الممثلات أنهن يحرصن على تقاليد المجتمع، بينما الحقيقة أنهن
يخشين غضبة المنتجين الذين يروجون للسينما النظيفة، الأمر الذى يمكن أن يؤدى
بهن إلى ملازمة بيوتهن من دون عمل، إضافة إلى الخوف من ردة فعل المجتمع الذى
اجتاحه وباء التطرف وسيطرت على طوائفه حمى الرجعية والتخلف، فأصبحنا نقرأ
ونطالع كل يوم عن ممثلة تتباهى فى حوار صحفى أو تليفزيونى بأنها «لا تسمح لأحد
بأن يقبلها، ولا ترتدى «المايوه» ولا تجمعها مشاهد عاطفية مع أحد، لكى لا يكون
الشيطان ثالثهما، وتبدلت الأسماء من منى زكى إلى حنان ترك وياسمين عبد العزيز
وغيرهن من المدعيات أو المغرر بهن، لكن اللاءات الثلاثة لم تتغير، وسرعان ما
انضمت للقائمة اسماء أخرى رفع أصحابها لواء «السينما النظيفة»، بمعنى ألا تتضمن
الأفلام التى يقومون ببطولتها قبلات ومايوهات وعواطف حميمة أو جنسا، وكأن نفى
هذه العناصر عن الشاشة يقود إلى المجتمع المثالى بينما الحقيقة أن الترويج
لنوعية كهذه يسىء للمجتمع، ويظهره فى ثوب المجتمع الشاذ الذى يفتقر إلى الحس
الإنسانى السوى، الذى يمثل الجنس والغريزة وتبادل المشاعر أساس قوامه الطبيعى،
فالمهانة الحقيقة أن تقدم فيلما مزيفا لايعرف الصدق ويحط من الذوق ويضيق بالرأى
الآخر فيصادره مكتفيا بالترويج للتفاهة والسطحية والابتذال والإسفاف اللفظى
والحركى تحت مسمى «السينما النظيفة»! بالطبع خرجت بعض الممثلات عن السياق،
نتيجة لوعيهن أو سمة التمرد التى تميز شخصياتهن، ورفضهن الانسياق وراء القطيع
فقدمت منة شلبى «الساحر» وعانت كثيرا من اتهامات حزب المحافظين والمتطرفين،
وباتت النموذج الذى يلوح به فى كل مرة يجرى الحديث فيه عن «السينما المحظورة»
أو التى لاينبغى الاقتداء بها، وهو التهديد الذى لقى صدى فى نفسها أحيانا لكنها
لم تتخل عن جرأتها وواصلت المشاركة فى السينما التى تحبها، سواء على مستوى
الدور أو قضية الفيلم كما فى «هى فوضى» و«الأولة فى الغرام» و«العشق والهوى»
و«ويجا» و«بنات وسط البلد».. وظلت هند صبرى على حالها، وجرأة اختياراتها والوعى
الذى يحرك خطواتها وقراراتها، فلم تستجب يوما للدعاوى الساذجة والتحذيرات
الجاهلة والتحريض ضد الفن بحجة حماية المجتمع من شروره وانحرافاته، وقدمت
«مواطن ومخبر وحرامى» و«مذكرات مراهقة» و«أحلى الأوقات»، و«بنات وسط البلد»
و«ملك وكتابة» و«لعبة الحب»، ومن فيلم إلى آخر نجحت هند صبرى فى توجيه لطمة
قاسية لأدعياء «السينما النظيفة» ومدعيها الذين فشلوا فى إغوائها أو إقناعها
بتوجهاتهم أو على الأقل تخفف من غلواء أدوارها الجريئة، خصوصا بعدما شجعت
ممثلات كثيرات على الاقتداء بجرأتها، بعدما أدركن أن الاستسلام والذعر والتراجع
والجبن ليس الحل، وأن مواجهة غلاة التطرف وأصحاب المصلحة فى الردة الفكرية،
والفنية، التى يدفعون المجتمع المصرى إليها، وهو السبيل لإنقاذ السينما
والمجتمع بأكمله، فأعلنت علا غانم تحديها لدعاوى تجريم ارتداء «المايوه» وحظر
«القبلة» وتحريم «العاطفة» ولم يختلف الأمر كثيرا فى تجربة داليا البحيرى،
وربما لهذا السبب لاتجد لهما مكانا فى إنتاج الكيانات «الاحتكارية الشهيرة»، بل
تجدر الإشارة إلى أنه باستثناء فيلمى «كامل الأوصاف» لعلا غانم و«زى الهوا»
لداليا البحيرى لم توزع شركة «النصر» لصاحبها محمد حسن رمزى، أيا من أفلامهما،
والملاحظة الأخطر أن «كامل الأوصاف» كان يروج للفتاة المحجبة بوصفها المثال
والنموذج، وربما لهذا السبب تحمست «النصر» لتوزيع رسالته، وليس لأن علا
«المارقة» واحدة من أبطاله!
فى كل الأحوال انتقلت عدوى التمرد على «السينما النظيفة» من
هند ومنة وعلا وداليا إلى أخريات مثل: بسمة، التى لم تخضع يوما للابتزاز، وقدمت
ما يحلو لها، وبالطبع دفعت الثمن غاليا فتجاهلوا موهبتها وعطلوا مسيرتها، وتكرر
الشىء نفسه مع سمية الخشاب وغادة عبدالرازق، اللتين أعلنتا التحدى، حتى لو جر
عليهما الغضب والمشاكل، وقدمتا أدوارا جريئة للغاية، وأيضا ريهام عبدالغفور
ونيللى كريم ودنيا وأميرة فتحى، لكن «السينما النظيفة» نفسها تهاوت وانهارت
وانكشف زيفها بعدما ظهر جيل جديد من الوجوه الجديدة تمثل المراهقات النسبة
الغالبة منهن، جاء معبرا عن عصر مختلف وعقلية متطورة لاتعترف بالأفكار الرجعية
والدعاوى المتزمتة، ولم يقتصر الأمر على الوافدات فقط، مثل التونسية درة
والجزائرية سارة بسام واللبنانية تاتيانا، بل كانت هناك الوجوه المصرية
الواعدة: هيدى كرم وإيناس المصرى وفرح يوسف ولارا صبرى وأروى جودة وماريان، وهو
الجيل الذى أدرك معنى السينما وفهم رسالتها، فتجاوب معها ووافق على ما تمليه
ضروراتها، ولم تفسده الأجندة المعدة سلفا أو الأفكار المسبقة المفسدة، أو
مجاراة دكتاتورية المتطرفين. هل يمكن القول أن الصورة تبعث على التفاؤل؟
القراءة المتأنية للواقع، وما يجرى فيه من تراجع واضح لتيار التزمت والتطرف،
حتى لو بدا متشبثا بإفساد المجتمع والتنغيص على أفراده حتى النفس الأخير، تؤكد
هذا؛ فالمستقبل للجيل الجديد المستنير من الممثلين والممثلات الذين تربوا على
«الإنترنت» والحرية والانفتاح على العالم، والسينما الجديدة بمدارسها ومذاهبها
التى لايحدها التطرف؛ فالأمر المؤكد أن جيلا يملك هذا الوعى لن تفلح معه الحيل
الساذجة لكيانات إنتاجية ستتهاوى عن قريب، وبالتالى لن تجدى نظريات محمد حسن
رمزى ووائل عبدالله وهشام عبدالخالق التى تداهن وتتملق وتتستر أو تكرر القول
بأن «السينما النظيفة» هى الحل؛ لأن أحدا لن يصدق بعد اليوم خديعة السينما التى
تحرم القبلة لحساب القبح، وترفض الجرأة لكنها تروج للتخلف وتحارب «المايوه»
لتنشر الانحطاط وتحتفى بالنماذج المقززة مادامت لاتملك عقلا، وتشيع الفاحشة
لفظا وفعلا لكنها تحرم الاقتراب من الجسد لأنه عورة!
روز اليوسف المصرية في 5 يناير 2008
|