صلاح سرميني

 
سيرة جديد مقالات ملفات
 
 
 
 

ملفات

 

>>>

125

124

123

122

121

 

حول فيلم (دُعاء .. عزيزة)

للمخرج المصري سعد هنداوي

كتابة: صلاح سرميني

 
 
 
 

(1)

قبل الغوص في تفاصيل الفيلم التسجيلي (دُعاء .. عزيزة) للمخرج المصري سعد هنداوي، وكتابة ملاحظاتٍ نقدية تحليلية مُتسلسلة، وهو المنهج الأفضل برأييّ لجذب انتباه القارئ نحوه..
قبل الكتابة، لفت انتباهي مُلصق الفيلم (البوستر)، وهو الواجهة الإعلانية، الدعائية لأيّ فيلم، ويمكن أن نبالغ، ونعتبر ملصقات الأفلام ملخصاتٍ بصرية مُركزة للأحداث، بالإضافة إلى أنها أعمالٌ تصميميّة تستحقّ الدراسة من طرف المُختصين.

تلفّ العتمة ملصق فيلم (دُعاء.. عزيزة)، وتغمر الألوان الزرقاء الداكنة وجهيّ شابتيّن، كلّ واحدةٍ منهما تنظر في اتجاهٍ مختلفٍ عن الأخرى، أجواءٌ ليليّةٌ، وحنينيّة.

في أسفل المُلصق صورتيّن ضبابيتيّن، الأولى في باريس، والثانية في القاهرة، وعلى الرغم من اللون الأصفر الداكن إلاّ أنهما لا تقلا عتمةً عن وجهيّ الشابتيّن، والمُلصق بشكلٍ عام.

الجزء الوحيد من الملصق، شريطٌ مائل، الحدود الفاصلة بين وجهيّ الشابتيّن، وصورتيّ المدينتين، هو بلونٍ أصفر فاقع نقرأ عليه عنوان الفيلم.

في أعلى الملصق اسم مدينتيّن، باريس، والقاهرة كما نراهما عادةً في اللوحات الإعلانية المُنتشرة في المطارات، ولكن، رُبما يلاحظ قارئٌ/متفرجٌ مُدققٌ(خبيثٌ)، بأنّ المُصمّم وضع باريس في الأعلى، وتحتها القاهرة، ولكن أيضاً، نفس هذا (الخبيث) ورُبما غيره، سوف بلفتُ انتباهه إشارةً نحو الأعلى بجانب باريس، بينما إشارة تتوجه نحو الأسفل بجانب القاهرة.

من المُثير للانتباه، بأنّ وجهيّ الشخصيتيّن الرئيسيتيّن في الفيلم يتوجهان نحو وجهاتٍ متعارضة، وكأنهما خصمان مع أنني سوف أصل في ملاحظاتي اللاحقة إلى تأكيد فكرة بأنهما شخصية واحدة على الرغم من اختلاف وجهتيّهما، سوف نكتشف بأنّ كلّ واحدة "قرينٌ" للأخرى، وهما في مواجهةٍ ذهنية مشتركة.

الأولى، تعيش في باريس، وتريد العودة إلى القاهرة.

والثانية، تعيش في القاهرة، وتريد الهجرة إلى باريس.

ولهذا، فإنه ليس من قبيّل الصدفة أن يختار المخرج عنوان الفيلم (دُعاء.. عزيزة)، وليس (دُعاء، وعزيزة).

إنهما شخصيةٌ واحدة، منشطرة بين مدينتيّن لا تشبه الواحدة الأخرى: باريس، والقاهرة.

وليس صدفة أيضاً أن تكون ألوان الملصق غامقة، كئيبة، وحتى جنائزية....

ولولا الشريط الأصفر، لكنا اعتقدنا بأنه ملصقٌ لأحد أفلام ديفيد لينش، أو أنجمار برجمان.

 

*****

 

في صيف عام 1996، تعرّض المخرج رومان بولانسكي إلى مصيبةٍ غير متوقعة، قبل بعض الأيام من التصوير اضطر أن يهجر مشروعه The Double المُقتبس عن رواية ديستوفسكي، وكان من المُفترض أن يصوره في باريس مع إيزابيل آدجاني، وجون ترافولتا بعد اعتذاره المُفاجئ.

في صيف عام 2014، صوّر المخرج ريتشار أويادي The Double آخر مع جيسي آيزنبرغ في دور موظف بخيل تتغير حياته عندما يصل إلى الشركة شبيهاً له، وبينما كان المخرج يرغب بأن يطبع فيلمه بأجواءٍ كافكاوية، كان ذاك الشبيه يتشرّب بشكلٍ خاصّ من فيلم "المُستأجر"(1976) للمخرج بولانسكي.

في فيلم Enemy للمخرج دوني فيلنوف تواجه الشخصية الرئيسية بالآن ذاته شبيهاً، وعيوبه، والشخصيتان هما في حالة مواجهة مباشرة أقلّ من التشابهات.

ونحن، جمهور السينما، ألا نواجه دائماً أشباهنا في السينما؟

أليسَ الفنّ السابع مرآة مشوّهة من وجودنا؟

أليست ردود أفعالنا أمام عملٍ ما مرتبطة بتاريخنا الحميميّ؟

في هذه اللعبة، وجهاً لوجه مع أنفسنا، هناك الذين نتفرج عليهم، وأولئك الذين يتفرجون علينا، هذا الذي يُغضبنا، وذاك الذي يحرك مشاعرنا، مع القليل من كلّ واحدٍ منا في الحالتين.

السينما، هي أكثر من تشابهٍ بسيطٍ (أو اختلاف)، وأكثر من ازدواجية،.. هي عددٌ لانهائي من الإمكانيات.

في (دُعاء...عزيزة) فيلم المخرج "سعد هنداوي" شخصيتان :

الأولى، تعيش في القاهرة، وتريد الهجرة إلى باريس.

والثانية، تعيش في باريس، وتريد الهجرة إلى القاهرة.

أليست حقاً لعبة مرايا؟

تشابهٌ، وتعارض؟

أو بالأحرى شخصيةٌ، وقرينتها، تجسد بوضوحٍ علاقةً مزدوجةً تتضمّن الكثير من التشابهات كما الكثير من الاختلافات.

هناك حاجزٌ زجاجيٌّ شفافٌ، وهشٌّ بينهما، وكلّ واحدة تتطلع أن تجتازه، وتحظى على مكان الاخرى بدون أن يتحطم.

نفس الحاجز الشفاف، والهشّ (الشاشة) التي تفصل بين الفيلم (الشخصيتيّن)، والمتفرج الذي سوف يحتار، هل يتعاطف مع هذه الشخصية، أو تلك، ورُبما ينقسم تعاطفه بين الشخصيتين على الرغم من اختلاف تطلعات كلّ واحدة منهما.

إنهما بالأحرى شخصيةٌ مزدوجة، الواحدة تشبه الأخرى، وفي الوقت نفسه، تتعارض معها، وبدون هذه الازدواجية التراجيدية (التشابه، والاختلاف) لن يحدث أيّ صراع، ولن يكون هناك أيّ حدث..

"المصير لا يفتح باباً بدون أن يُغلق آخر"

من كتاب "الرجل الذي يضحك"، فيكتور هوغو


هكذا يبدأ فيلم (دُعاء .. عزيزة)، مكتوبةً، وباقي العناوين على خلفيةٍ تخفي في سوادها ملامح من برج إيفل.
ويبدأ الفيلم بالشخصية الأولى، نشاهدها، ونتعرّف على اسمها، وعمرها كتابةً : دُعاء عبد الرازق، 25 عاماً، مع أنها سوف تُعرّفنا على نفسها بنفسها، تحتفي اللقطات، وخاصةً الكبيرة منها بوجهها الجميل، وابتسامتها الأجمل المُزينة أحياناً ببعض الحزن.

افتتاحيةٌ حكائية/سردية، وكأنّ المخرج يُحضرّنا لمُشاهدة فيلم روائي، ويجعلنا نترقب حدثاً تراجيدياً، وإلاّ لماذا رافقت الكاميرا الشخصية الأولى (دُعاء) في طائرةٍ من باريس حتى وصولها إلى مطار القاهرة.

ويختصر المونتاج الكثير من الأحداث اليومية العادية، يوميات دُعاء، يتركها تتعوّد على الاستقرار في القاهرة، ويعود إليها بعد فترةٍ بصحبة الكاميرا في مقهى، أو تتجول معها في بعض الأماكن (ضفاف النيل)، وتبدأ دُعاء فوراً بالحديث عن قرارها المصيريّ، وبكلماتٍ قليلة تُعرّفنا على نفسها :

مولودةٌ هنا في مصر، ولكنها عاشت طوال حياتها في باريس..

القاهرة هنا "سينمائياً" شوارع مزدحمة، وخاصةً المركبات الصغيرة "التوك توك"، وكأنها واحدةٌ من معالمها التاريخية، بينما تظهر الأهرامات في إحدى اللقطات الافتتاحية بعيدة، وكأنها خلفية تطغى عليها صور الحاضر.
من خلال هذا التكثيف المونتاجيّ للزمان، والمكان، تتوّضح المنهجية السردية الكامنة في الفيلم المُعتمدة رُبما على خطةٍ درامية مكتوبة، أو سيناريو ذهنيّ تخلّق في مرحلة المونتاج.

هذه الرغبة السردية تجعلنا نتساءل: لماذا لم نتعرّف على دُعاء مباشرةً، وهي في القاهرة بدون أن يبدأ الفيلم بلقطاتٍ افتتاحية (السماء، داخل الطائرة، وصولها إلى المطار) إلاّ إذا كان الغرض اللا واعيّ للمخرج (أو الواعيّ) تعاطفه مع خطةٍ درامية تجعل أحداث فيلم تسجيلي يميل إلى الحكاية، وهو على الأرجح كذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار مسيرة المخرج الروائية، والتسجيلية على السواء، وتأثر الجانبين ببعضهما.
تصل دُعاء من باريس إلى القاهرة...

لماذا بدأ الفيلم بلقطةٍ تمتلك دلالاتٍ دينية (السماء)؟ وهي لقطات لا تأتي عادة بالصدفة، وتمتلك دلالاتٍ، ورموز تختبئ خلف سطور الحكاية (اللقطات) :

لقد هبطت دُعاء من السماء، وجاءت إلى القاهرة.

وعندما وصلت إلى المطار، وقفت بين الجموع وحيدةً تتلفت حولها، وكأنها تبحث عن شخصٍ ما لم يأتِ لاستقبالها، أو تأخر، تتصل به، ويتوقف الزمن، تتحول اللقطة إلى صورة ثابتة، بينما يستبق المونتاج الصوتي الحكاية، حكايتها.

ما يُلفت الانتباه في اللقطات الأولى لحظات وصولها إلى المطار، ومن ثم التالية، ونفهم بأنه تمّ تصويرها بعد أيامٍ من وصولها، هذا التغيّر الملحوظ في شكلها، ملامح وجهها، تسريحة شعرها، ملابسها، وحتى أنها تخلت عن نظارتها الطبية، وكأنها شابة أخرى تختلف عن تلك التي تركتها في باريس.

في أحد مقاهي القاهرة، وفي لقطةٍ كبيرة تُظهر وجه دُعاء مشرقاً، ومبتسماً، نلتقط بعض بوحها:

ـ جيت عشان بحب مصر؟ مش عارفة، حابة فيها حاجة، بس إيه هيا، مش قادرة أوصلها...

أليست مقدمة تمهيدية تثير الفضول لمعرفة الأسباب التي من أجلها تركت هذه "المجنونة حلاوةً" باريس التي يتمنى أيّ "عاقلٍ" العيش فيها، وعادت إلى القاهرة التي يحلم أيّ "مجنون، و"عاقل" هجرتها؟

ـ فكرة باريس دلوقتي موجودة جوايا طبعاً...

منذ تلك الكلمات التي تقولها دُعاء، وهي تتأمل مياه النيل، تبدأ الموسيقى، وكأنها سوف تكون مفردة صوتية حنينية تُعيد الشخصية إلى باريس.

هذه المرة، بدون طائرة، وبدون سفر، إنها عودة مونتاجية إلى الماضي (فلاش بك)، إلى عام 2005، بداية تصوير الفيلم، هذه اللقطات التي أصبحت بمثابة أرشيف بصريّ سوف يستعين به المخرج كلما أراد العودة إلى الماضي القريب.

هذا الاستخدام يدعم المنحى الحكائيّ في الفيلم، حيث (الفلاش باك) خاصية مرتبطة بالروائي أكثر منه في الفيلم التسجيلي.

وفي الحقيقة، بدون الإشارة المكتوبة على الشاشة ما كان للمتفرج التمييز ما بين اللقطات التي صُورت خلال فترات متباعدة (وقد استغرق تصوير الفيلم سنوات انتقل خلالها المخرج مع شخصيتيّه بين باريس، والقاهرة).

من القاهرة كانت دُعاء تتحدث عن علاقتها بباريس، ونشاهد لقطاتٍ منها، كانت وسيلة الانتقال بين المدينتين سلسة للغاية، انتقالٌ ذكي، ودلاليّ، بدأ بإطلالة دُعاء على مياه النيل، ومن ثم نهر السين.

ومع أن هذا الانتقال يظهر سينمائياً مثل عودة إلى الماضي، خاصة، وأنه يترافق مع فكرة دُعاء عن باريس، إلاّ أنه يُخبئ للمتفرج مفاجأة لمن لا يعرف حكاية الفيلم.

هذه اللقطات القصيرة في باريس هي بالآن ذاته عودة إلى الماضي، وانتقال دراميّ (زمانيّ، ومكانيّ) إلى الشخصية الثانية في الفيلم، عزيزة، وكأنّ الأولى دُعاء تقول : ها أنا كما كنتُ في باريس.

ومنذ تلك اللقطة سوف نتعرّف على الشخصية الثانية في الفيلم، عزيزة.

هذه الشابة المصرية الأكثر "جنوناً، وعقلانية"، والتي كانت تعيش في القاهرة، وهجرتها إلى باريس.

عزيزة، الوجه الآخر من دُعاء.

سينماتك في ـ  28 يناير 2023

* هذه المواد نشرت في جريدة التيار السودانية، بتاريخ 22.12.2022

 

>>>

125

124

123

122

121

 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004