صلاح سرميني

 
سيرة جديد مقالات ملفات
 
 
 
 

ملفات

 

>>>

105

104

103

102

101

 

كوينتين تارانتينو

تارانتينولاند (1/2)

كتابة: سامي غنابا

ترجمة: صلاح سرميني

 
 
 

مع كلّ فيلمِ جديد، يقدم لنا تارانتينو المزيد من جنونه الجميل، حيث يُعيد ربط الأنواع، ويجعلنا نتألق في كلّ مرة بنتيجةٍ يُعاد تشكيلها قليلاً، وتجديداً "إعادة النظر" للأشكال.

*****

يُعتبر تارانتينو، إذا جاز التعبير، "المُهرّب" المثالي للسينما الأمريكية، صانع أفلامٍ ينتقل من معسكرٍ إلى آخر، من الجماهير إلى النخبة السينيفيلية، بدون صعوبة، وحيث تحظى لعبة المعاني المرجعية الكبرى بقبول، وموافقة كليّهما.

نادرون، خاصة، مكتشفو الأشكال الذين يحصدون مثل هذا النجاح، الجماهيري، والنقدي، بمثل هذا الانتظام المُشرّف.

بدون خطواتٍ متعثرة، يتنقل من نوعٍ إلى آخر، ويتبنى دائماً نفس الاستراتيجية/الحيلة: التقاط العينات، والاستحواذ على الأشكال لتحويلها، واختطافها إلى الأفضل لصالحه.

مًسبقاً مع الفيلم الدمويّ Reservoir Dogs، أظهر لنا موهبته في الاستفزاز، ولا شيء (لحسن الحظ) منذ ذلك الحين بدا أنه يخفف من ذلك:

«لم أعطي لأحدٍ السلطة عليّ كي يقول بأنني لا أستطيع فعل أيّ شيء - يمكنني فعل أيّ شيء أريده، أو يمكنني تحقيقه، لا أطلب الإذن، قد أطلب المغفرة، لكنني لن أطلب الإذن».

 بتجاورٍ مع أعمالٍ متحررة مثل The Killing  أو À bout de souffle، أو حتى Rashomon ، فإنّ أول عملٍ لتارانتينو، ومنذ الافتتاحية، يزيل أيّ شكلٍ من أشكال التسوية.

بطريقةٍ مباشرةٍ، وبارعة، يبتعد Reservoir Dogs تماماً عن فيلم العصابات، في الوقت الذي يحاول العثور على روحه.

بهذا المعنى، سنقوم بتسليط الضوء على المشهد بين الزعيم/المُعلّم، وموظفيه المُستقبليين في المستودع.

من خلال حواره الخطابيّ، يقدم تارانتينو لأفراد العصابات شخصيةً غير تقليدية، شاذةً بعض الشيء، مقارنةً بما اعتدنا عليه في مثل هذا النوع.

عنده، لا نتحدث عن السرقات، أو المجوهرات التي على وشكّ السرقة، ولكن، عن أشياء عادية، ومألوفة (كم قهوة شربوا، عدم أهمية البقشيش، ذكريات في دفتر ملاحظات قديم، لي مارفن..) بينما تقوم الكاميرا بفحصهم في لقطات تتابعيةٍ قصيرة (ترافلينج).

يتصنعون التمثيل كما في السينما، أن يكونوا صوراً ظليّة مزيفة، ممتدة إلى درجة الكاريكاتير، مثل شخصية السيد وايت.

شخصياته من اللصوص بالكاد لها أسماء، فسيتمّ تخصيص أسماء لونية، وكأننا نستثنيهم من أيّ خاصية تعريفية.

فجأةً، يتلاءم عدم الوضوح النفسي هذا تماماً مع عدم القدرة على التنبؤ بقصة الفيلم، وبنيته الزمنية المتشظية.

من هذا العمل التأسيسيّ الأول، نشير خاصةً إلى الفلاش باك البارع حول السيد أورانج في عملية إتقان نصٍّ يتعلق بمآثره (الكاذبة) كواحدٍ من رجال العصابات.

من الصعب بالفعل إنكار الإتقان، والقوة السردية التي يؤلف بها المخرج مشهده، يشبك بمهارةٍ شديدةٍ ثلاث أزمنة مختلفة جداً للقصة نفسها، كما لو كان الحاضر، والماضي، والماضي المنقوص متشابكة في بعضها البعض.

ثمّ جاء تكريس مهرجان كان مع Pulp Fiction ، وهو فيلمٌ، دعنا نكون صرحاء، أصبح، مع مرور الوقت مملاً، حيث لا يزال المؤلف يستخلص مهارته التي لا يمكن إنكارها (نظام الفصول، السرد غير الخطيّ، اختيار ممثليه، والتكوين المُفرط في اللقطة)، وهذه الكتابة، والحيوية، الفريدة، التي تستحقّ الرجل الذي حلم كثيراً بأن يكون مؤلفاً/مخرجاً.

حتى أكثر من محاولته الأولى، نتخبط، هنا، في عددٍ لا يُحصى من الشخصيات، والمراجع (استطراد مبتهج بين ميا، وفنسنت في رقصة Jackrabbit's Slim حول من هي مارلين مونرو، ومن هي مامي فان دورين) التي تطاردها أشباحٌ من فيلم نوار، وصموئيل بيكيت، وأدب الـPulp (الثقافة الشعبية)! من خلال الموقف الغاضب لشخصياته، وأخلاقها النسبية، واستهتارها، والزخارف الموسيقية، يعلن Pulp Fiction عن التحقق الوشيك لعبقرية تارانتينو.

باعتباره لقطةً مضادةً لسلفه (لقطة مواجهة)، يُظهر لنا Jackie Brown مخرجاً قد هدأً، يعود إلى الأرض (يصبح أكثر عقلانيةً)، يصوّر في أجواء طفولته (ساوث باي، إحدى ضواحي لوس أنجلوس الكئيبة، على النقيض من ميامي كتاب إلمور ليونارد).

بالتأكيد، كان الانتظار شرساً: بعد النجاح الكبير الذي حققه Pulp Fiction، ما هي الشرارات التي ستُشتعل من خلال اجتماع مُحارب الصور المُقدسة (محطم التماثيل الدينية، والمُعتقدات) تارانتينو، وصديق جاكسون، والأيقونية جرير، بعد عودتها من ردهات أفلام الـ Blaxploitation (الأفلام الشعبية المُوجهة خصيصاً للجمهور الأمريكي من أصولٍ أفريقية) أولئك الذين ينتمون إلى إنسانيةٍ عميقة، وحزينة.

بهدوءٍ مذهلٍ يُذكّرنا بهواكس، أو حتى إيستوود، يتيح لنا تارانتينو أن نلمح في هذا الفيلم نوار امتدادات الزمن، وثخانةً أكثر عضويّةً في صوره، بعيداً عن المؤثرات المُصطنعة التي تشكلت في فيلم Pulp Fiction.

لمرةٍ واحدةٍ نادرة، قام، وبروعةٍ منضبطة، بتصوير شخصياتٍ راسخة من كلّ حيلة (جاكي تعمل في شركة طيرانٍ صغيرة، الفجوات الاجتماعية الضمنية بين السود، والبيض)، وعلامات مرور الزمن ظاهرة على وجهيّهما، وخاصةً خلال المشهد الأخير الجميل المُفعم بالحياء الذي يشير إلى انفصال البطلين.

من الصعب أيضاً نسيان هذا النقاش الذي يشعر فيه المخرج بالرغبة، والمخاوف المؤلمة لشخصيتيّن/ممثلان يكبران في السنّ.

مع Jackie Brown، وكما اللقطة المأخوذة من الأعلى التي نشاهد فيها أورديل سوف يغتال بومونت، يسمو تارانتينو إلى الأعلى، ليتبنى بشكلٍ أفضل مقاربته كمؤلف لا هوادة فيه، في حريةٍ سيادية.

بمعنى ما، يختتم الفيلم المرحلة الأولى من عمل تارانتينو بشكلٍ مذهل.

 

فجأةً، ندخل مرحلةً جديدة، مرحلة سينما "تأنيثية/مُؤنثة" مبنية على سلسلةٍ من الدوافع الفيتيشية (الصنمية/الوثنية/التعبدية) المُمتعة تماماً.

 

كما مثله الأعلى (معبوده) بوب ديلان، يقايض نهب/سلب ألبوماته الأولى بأسلوبٍ أكثر قوةً، وكثافة، يقدم لنا تارانتينو مع جزئيّ Kill Bill تمريناً رائعاً للتحليق العالي - يمكننا تخيّله بسهولةٍ على أنه تقاطع بين  Blonde on Blonde و Bringing It All Back Home- حيث يسود أسلوب المؤلف (تارانتينو) الذي لا هوادة فيه على الرغم من إعادة استملاكه للأنواع بدون ضمير.

إنه تعريةٌ لا يمكن إنكارها لوعيٍّ سينمائيّ كامل (ومعرفته بالطبع) الذي دُعيّ إليه المتفرج هنا.

على هذا النحو، نقرأ Kill Bill تقريباً مثل سيرةٍ ذاتية مصوّرة للثقافة التارانتونية (نسبةً إلى تارانتينو)، ومتعددة الأصوات (خاص بالصدى الذي تتداخل أصواته المتكررة)، وذكية بشدّة.

لأنه، كما لو لم يكن واضحاً بدرجةٍ كافية في الماضي، يؤكد لنا تارانتينو بهذه النظرة الكاليودوسكوبية (ملونة، وسريعة التغيّر) المتفجرة النطاق الكامل لمعرفته الموسيقية.

يتميز Kill Bill عن أفلام المخرج الأخرى بالمجموعة الاستثنائية من المغنين، والفنانين الذين أستعان بهم عاشق الموسيقى الفاسد تارانتينو.

يجب أن نلاحظ في هذا الصدد وجود ملحنين مشهورين مثل:

شارلز بيرنستاين ( A Night on Elm Street).

المُعلّم إنينو موريكوني ( The Good، The Bad And The Ugly) .

برنارد هيرمان (Taxi Driver).

أو حتى روبرت رودريغيز، ومغني البوب مثل 5.6.7.8’s ، جوني كاش، ونانسي سيناترا

الذين سيخفف عملهم التأملي تماماً من الجنون القاتل لثأر أوما ثورمان.

بالسماح لنفسه بكلّ شيء، من المعركة الدموية، والمنوّمة للعروس مع أفراد عصابة crazy 88 إلى ذروتها السحرية، بما في ذلك التبادل المتواطئ بينها، وبين المتفرج (مثل غمزة بلموندو للجمهور في فيلم À bout de souffle)، هنا يقوم المخرج الأمريكي بتهجين الأنواع، والأساليب في صقلٍ، ومتعةٍ نادرة.

بكثافةٍ جنونية، ومحمومة، يجمع Kill Bill المراجع من جميع الأنواع، ويجمع على مهلٍ الميلودراما مع الوسترن سباجيتي، أو wu xia pan - أفلام السيف الصينية- مع القصص المصورة، وسادية ابتهاجه الدمويّ مع رومانسية قصة الحبّ.

في بدايات عرضه، يبدو Kill Bill وكأنه استفزازٌ في أعين جميع مقدمي الدروس، وضمانات الأخلاق الحميدة، المنهكة بسبب الكثير من الدماء التي تتدفق على الشاشة.

من ناحيةٍ أخرى، بالنسبة لتارانتينو، نسبح في هذيانٍ سينمائيٍّ كامل، في واقعٍ بديلٍ، متخيل.

كما سيتضح بعد بضع سنواتٍ مع Inglourious Basterds ، ما زلنا نلعب في بُعدٍ سينمائيٍّ بالدرجة الأولى.

في هذه المرحلة أطيح بالمراجع، لا حاجة لإخفائها، أو حتى معارضتها؛ بالنسبة للأخير، لا يوجد سوى السينما كمرجع، باعتبارها مركز الثقل ذاته ... إذن، الكثير من اللغط حول لا شيء.

وفي النهاية، لماذا نغضب؟ وجدت بياتريكس ابنتها، وبالتالي، فإن الأخلاق، فيما يتعلق بتارانتينو، محفوظة، وبالنسبة للبقية، كما قال ميشيل بويكار (جان بول بولموندو) في فيلم "على آخر نفس":

"إذا كنت لا تحب (...) مارس الجنس مع نفسك" (ترجمة مؤدبة).

المهرجانات السينمائية (3)

صلاح سرميني

هناك بعض الإشارات التي تجعلك تحدد أهمية مهرجان سينمائي بالمقارنة مع غيره، ومنها على سبيل المثال: تاريخ المهرجان، مثلاً، في عام 2017 احتفل مهرجان كان بدورته السبعين، وهذا يعني، يانه مرّ على هذا المهرجان أجيالاً من الإداريين، والمُبرمجين، والمُستشارين، والموظفين، والسينمائيين، والإعلاميين، وكل العاملين في المجال السينمائي.

وهذا يعني أيضاً، بأن المهرجان اكتسب خبرةً كبيرةً في كل شيء من الإدارة، وحتى التنظيم.

ومن هنا تتجسّد أهميته، ولا يمكن مقارنته أبداً مع مهرجانٍ عمره سنة، أو سنتين، أو عشر سنوات.

لكن، ودائماً هناك (لكن)...

مهرجان كان مهمٌ بالنسبة للسينما العالمية بشكلٍ عام، وإذا قارنته مع المهرجان الفرنسي الذي ينعقد في مدينة كليرمون فيران، ويهتم بالأفلام القصيرة، وعلى الرغم من عمره الأقل (نصف عمر مهرجان كان) إلاّ أن المتخصصين يعرفون بأنه أكثر أهميةً من مهرجان كان (بالنسبة للأفلام القصيرة تحديداً).

شخصياً، ولأسبابٍ متعددة، أفضل متابعة مهرجان كليرمون فيران عن مهرجان كان.

ونعود إلى (لكن)....

بالتأكيد، الفيلم القصير الذي يتم اختياره في مهرجان كان سوف ينال حظوظه الكبرى من العرض، والشهرة، وأكثر من أي فيلم تمّ اختياره في كليرمون فيران.

والمفارقة الطريفة، بأن أفلاماً يتمّ اختيارها في مهرجان كان، ولكن لا يتمّ اختيارها في مهرجان كليرمون فيران، ومن هنا يجب النظر دائماً إلى الفيلم من وجهات نظرٍ متعددة، ونسبية، تختلف من حالةٍ إلى أخرى.

سينمات باريس

الأجانب يعرفون ذلك أفضل من الفرنسيين: توفرّ باريس كميةً، وتنوّعاً، ونوعية وصولٍ إلى السينما لا مثيل لها في العالم.

في هذه المدينة تمتلك السينما مكانةً خاصة، وتحظى على احترامٍ كبير أكثر من أيّ مكانٍ آخر.

يحدث اللقاء الحقيقيّ بين المُشاهدين، والأفلام في الصالات المُظلمة.

باريس، التي تضمّ ما يقرب من 90 دار سينما، و 400 شاشة عرض (احصائية عام 2017)، هي أرضٌ فريدةُ لنشر الأعمال الأصلية، كما يشهد على ذلك مخرجون من كلّ أنحاء العالم قدموا مساهماتٍ قصيرة لهذا الكتاب (365 صفحة، إشراف جان ميشيل فرودو، ودينا لوردانوفا).

على مرّ السنين، اختفت العديد من دور السينما الباريسية، ولكن، افتتحت أخرى مع انتشار الأماكن التي تُعرض فيها الأفلام، بدءاً من المؤسّسات الكبرى مثل السينماتك الفرنسية، ملتقى الصور، ومركز جورج بومبيدو، مما يعكس حيوية السينما في باريس.

تاريخ، وأداء دور السينما، النشاط الحكوميّ، مكانة الشركات الكبرى، دور الفاعلين المستقلين، وأهمية المنظومات التعليمية، والصحافة (الورقية، الإذاعية، والإنترنت): تُظهر هذه البانوراما للسينما، ودور السينما في باريس، كيف، ولماذا تحتلّ المدينة مثل هذه المكانة، وتلعب مثل هذا الدور.

علاوةً على ذلك، يُسلط الكتاب الضوء على آثار الشغف الفرنسي، والسياسة الثقافية طويلة المدى.

سينماتك في ـ  23 يناير 2023

* هذه المواد نشرت في جريدة التيار السودانية، بتاريخ 11.09.2022

 

>>>

105

104

103

102

101

 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004