صلاح سرميني

 
سيرة جديد مقالات ملفات
 
 
 
 

ملفات

 

>>>

30

29

28

27

26

 

زمن الحديث عن الأشجار

كتابة: أمنية عادل/القاهرة

 
 
 
 
 

"أيّ زمنٍ هذا؟ يكاد الحديث عن الأشجار أن يصير جريمة..."، هكذا عبّر الشاعر، والمخرج المسرحي الالماني بريشت المعروف دائماً بتمرده، وتعبيراته الصادمة الصارخة، بريشت الذي قدم العديد من النصوص للمسرح خلال النصف الأول من القرن العشرين، أنارت كلمات قصيدته "إلى الذين يأتون من بعيد" لافتات السينمات العالمية، وألسنة المُشاهدين مطلع القرن الحادي والعشرين.

قدم المخرج السوداني "صهيب قسم الباري" فيلمه الوثائقي الطويل "الحديث عن الأشجار" عام 2019، مرثية على المشهد السينمائي السوداني، أو بالأحرى المشهد السوداني بكافة جوانبه، وجهاته، السودان التي عانت لعقودٍ من التضارب السياسي الذي رمى بظلاله على الواقع الاجتماعي، والفكري، والثقافي، يحاول أربعة رجالٍ استعادة روح الإنسانية، وملامح الفكر في نفوسٍ شاخت رغم صباها.

"إبراهيم شداد، سليمان إبراهيم، الطيب مهدي، ومنار الحلو"، رجالٌ في خريف العمر كما يطلق عليه، يتمتعون بروح الشباب، وفكر منفتح، وروح لا تخلو من السخرية المتعايشة مع الواقع، حالة هؤلاء الرجال، وطريقتهم في التعاطي مع الحياة تزيد من التساؤل، والتفكير لماذا يفعلون ذلك، هل حبهم للسينما، أم حبهم للسودان؟

خلال فترة الستينيّات حظي السينمائيون السودانيون ببعثاتٍ لتعلم فنون السينما كغيرهم من طلاب العالم، رغم قلة تلك البعثات لكنها أسفرت عن تجارب سينمائية شديدة الخصوصية مُحتمية بجماليات الصورة السينمائية كسبيلٍ لمخاطبة الجمهور.

 

دون كيخوت السودان

 

بالمقارنة بالتجارب التي شكلت تاريخ صناعة السينما التجارية في السودانية، وما قدمه هؤلاء المخرجين من تجارب فيلمية، نلاحظ انتصاراً شديداً في أفلامهم، بل وإخلاصاً للصورة السينمائية، واحترام عقلية المشاهد، والتعامل معه بعمقٍ لا بخفة، أيضاً لا يمكن إغفال تواريخ صناعة أفلامهم التي بدأت منذ منتصف الستينيّات، وحتى آخر الثمانينّات في ضوء التاريخ السياسي السوداني، والتباينات التي شهدتها الحياة السياسية المُلغمة، وهو ما أسفر عن تشتتٍ داخل المجتمع السوداني، ورؤيته للعديد من الأمور من بينها الفن، والسينما.

تدور أحداث فيلم "الحديث عن الأشجار" خلال عام 2015 عن المحاولات المُستميتة التي يقوم بها هؤلاء الأربعة لإحياء سينما الثورة حتى تكون مكاناُ لمشاهدة الأفلام، وعقد جولات في القطر السوداني لزيادة الثقافة السينمائية، المخرجون الاربعة مؤسّسي "جماعة الفيلم السوداني" يحاولون جاهدين مجابهة كافة العقبات، السياسية\الأمنية\الإسلاموية، وكذلك معضلة الفكر المستكين، وتضاؤل الدور المجتمعي في الإصلاح والتغيير، الرجال الأربعة يفنون حياتهم في محاولة تغيير الواقع، في تطورٍ دراماتيكي واضح مواجهين الإنهيار.

لوهلة، يتلاقى الفيلم بملامحه، حيث حالة الحلم والأمل في التغير، وصعوبة الواقع المحيط مع ملامح رائعة ميغيل دي ثيربانتس "دون كيخوت"، وكأن الفنانين الأربعة يحاربون طواحين الهواء كما هو حال دون كيخوت، كما يحمل الفيلم ملامح "الرواية الحديثة" التي أسّست لها رواية "دون كيخوت"، والتي تجمع أصواتاً عديدة بداخلها، نجد في فيلم "الحديث عن الأشجار"، رغم ارتكازه على تيمة المرثية، لكن حس السخرية، والمفارقة تلعبان دوراُ هاماً في تكوين ملامح مشاهده، لاسيما مع شخصية المخرج إبراهيم شداد، الذي يُعدّ من أوائل المخرجين السودانيين الذين اتجهوا لتعلم فنون السينما في الخارج.

1964 يُعدّ عاماً هاماً، ومؤثراً في تاريخ السودان كما هو الحال بالنسبة لإبراهيم شداد، 27 أكتوبر 1964 هو تاريخ توقيع الميثاق الوطني الذي دعت إليه الجبهة القومية الموحدة لإزالة الوضع العسكري القائم أنذاك، ومحاولة رسم ملامح بيئة ديمقراطية رغم الانشقاقات بين الشمال والجنوب.

هذا الميلاد الجديد الذي شهدته السودان على الصعيد السياسي، رافقه أيضاً ميلاد مخرج سوداني جديد وهو إبراهيم شداد، وفيلمه الروائي الطويل "حفلة صيد" مشروع تخرج شداد من معهد كونراد فولف في ألمانيا الشرقية، الفيلم بصورةِ عامة متأثر بالسينما الألمانية، والملامح الأوروبية.

شداد الذي يُعتبر أكثر المخرجين السودانيين نبوغاً، وشهرة، على الأغلب هو أكثر الوجوه تأثيراً في فيلم "الحديث عن الأشجار"، لا لتجاربه السينمائية المميزة فقط، لكن أيضاً لحسّه الفكاهي الساخر الراغب في التغيير لكنه يعلم علم اليقين أن ما يفعله هو محاولة في بحر محاولاتٍ عدة تقارب الفشل أكثر من النجاح.

اعتمد المخرج "صهيب قسم الباري" الصورة الثابتة في أغلب مشاهد الفيلم، الصورة التي ترصد ما يحدث دون تدخلٍ فيه، وهو ما يفسر تلقائية المشاهد، والفيلم بصورةٍ عامة، رغم الانتقاء الملحوظ في مشاهد عمر البشير المتلفزة، ورجال السلطة، والأمن، والترويج لحالة الاستقرار التي تعيشها السودان، وفي المقابل يعاني الشارع.

 

انقلابات، وأفلام

 

شكلت أفلام الرباعي نقطة تلاقي مع تواريخ السودان الهامة، والمتغيرات التي شهدتها البلاد، 1977 تاريخ هام للسودان، وكذلك للطيب مهدي، قدم مهدي في العام المذكور فيلمه القصير "الضريح"، حيث الإيمان بالخرافة، والانسياق ورائها دون إعمال العقل من خلال رجل يدير ضريحاً مدعياً أنه لرجل صالح يتخذ منه الناس وسيطاً لله، شهد العام نفسه انفجاراً جديداً في أزمة الانشقاق بين الشمال والجنوب بالسودان التي تبلورت مع انقلاب 1977 في مدينة جوبا، ألمٌ جديدٌ في جسد السودان.

لا يقف فيلم "الحديث عن الأشجار" عند بوابة التاريخ، أو التأريخ للسينما، أو مسيرة هؤلاء المخرجين المثابرين، بل ركزت أحاديثهم، ومشاهد الفيلم على رؤيتهم لهذا المجتمع الحالي الخاوي من أيّ روح متذوقة بعد أن جرفه السياسيون، وساقوه إلى هذا المصير، من خلال حديثٍ أقرب إلى الفضفضة منه إلى التنظير.

هناك ثنائية واضحة برزت في فيلم "الحديث عن الأشجار" وهي الحوار في مقابل الصمت، قد يكون موضوع الفيلم مساحة للحديث الذي لا ينتهي، لكن "الباري" آثر الصمت كسمةٍ للتأمل، والتفكير، وهو ما يتجلى في مشهد لقاء إبراهيم شداد والجمل في ساحة السينما المعهودة، والمنتظرة، وهو ما يجدد اللقاء الذي عاشه إبراهيم شداد أثناء تصوير فيلمه القصير "الجمل"، هذا الفيلم الذي يشكل نقطةً مضيئةً في سينما إبرهيم شداد القصيرة، والسينما السودانية والعربية بصورةٍ عامة.

تلك النظرة التي تجلت في عينيّ شداد التي جمعت بين الأمل والمعافرة، بين ضياع الحلم والسعيّ نحو خطوة ضبابية، رؤية لتلك الأحلام التي تحطمت على صخرة الماضي، شكلت نظرة شداد أحلام جيلٍ من محبي، ومتذوقي، وفناني السينما السودانيين، هؤلاء الذين قدموا ما قدموه من أفلام مميزة آملين في تغيير الواقع من خلال تشكيل جبهة لحماية المجتمع المنهك من المتغيرات السياسية والدينية، وهو ما ظهر على ألسنة الجمهور السوداني المُحب للأفلام الهندية البوليودية التي تتجلى بها قدرات البطل، ونجاحاته المطلقة، في محاولةٍ لتعويض سلب الإرادة التي يعيشها هذا المجتمع تحت وطأة الحكم المطلق، الذي انتهى به الفيلم بنجاح البشير بعهدٍ جديدٍ ينضم إلى السنوات التي حمل فيها لقب رئيس السودان، وكأنه ضحكة القدر في وجه هؤلاء المخرجين الحالمين، وأحلامهم.

ما يزيد من قيمة فيلم "الحديث عن الأشجار" لا يقف عند حدّ قيمته الفنية، وترتيب مشاهده بطريقةٍ تبعث على الضحك، والبكاء في اللحظة نفسها، ولا حتى قيمة هؤلاء المخرجين، وتجاربهم الفيلمية المميزة، وإنما ارتباط الفيلم، وظروفه بمعطيات الثورة السودانية التي تفجّرت مع نهاية 2018، صرخة في وجه الألم المستمر الذي عانت منه السودان، انطلق فيلم "الحديث عن الأشجار" عام 2019، العام نفسه الذي شهد نجاح سينمائيين سودانيين، وأعمالهم في المهرجانات الدولية، وإشادات واضحة لرؤيتهم العميقة للبيئة السودانية، ومعطيات الحياة القاسية التي تحايل عليها هؤلاء السينمائيون الجدد، معلنين عن ظهور ظهير جديد للسينما السودانية قد يقارب جيل شداد، ومهدي، والحلو، وسليمان إبراهيم في طموحه، وحلم التأثير.

 

على العهد

 

هناك رابطٌ يجمع بين السينمائيين السودانيين الجدد أمثال صهيب قسم الباري، وأمجد أبو العلا، وغيرهم بأنهم قدموا حكاياتٍ سودانية بعد تلقي فنون السينما في الخارج كما فعل جيل إبراهيم شداد، لكن جميعهم يعودون من جديدٍ إلى بلادهم في محاولة لصنع سينما تحمل سمات السودان، وتعبّر عنها.

1985 هو تاريخ الإنقلاب على جعفر نميري الرئيس السوداني منذ 1969، الذي حضر هو أيضاً بانقلاب، وسط هذه الانقلابات المتوالية، والتوترات، يبقى الشعب السوداني مشتتاً بين الهويات، ما يفرغ ينتهي من انقلابٍ حتى يلاقيه الآخر، وكأنها صفعات لا تنتهي، هذه الدائرية التي شهدتها السودان بلورها إبراهيم شداد في فيلمه القصير "الحبل".

انطلاق الفيلم من واقعةٍ حقيقة، وهي الحملة التأديبية التركية التي وقعت عام 1822 في القرى السودانية، لكنه تلاقى مع الواقع المعاصر، اللحظة التي يعيشها المجتمع السوداني في عام 1985، تدورأحداث فيلم "الحبل" حول رجلان كفيفان يسعيان جاهدان للنجاه من هذه الحملة التأديبية، وسفك الدماء الذي يعنون تلك الحملة، يربطهما حبلٌ حتى لا يفقدا بعضهما البعض، العجيب أنه رغم صعوبة السير في الصحراء القاحلة، يصل الرجلان إلى نفس نقطة البداية، حيث الكهف الذي خرجا منه في بداية الفيلم، ولا يجدا ملاذاً إلاّ البقاء فيه.

تلك الحالة الدائرية التي اتسم بها الفيلم لم تكن وليدة فكرته فحسب، بل اسقاطاً على واقعٍ مُعاشٍ ما يلبث يتكرر مرة أخرى بأشخاص مختلفين، مُنقلب اليوم يكون هو المَنقلب عليه غداً، وهكذا، دائرة سرمدية عبثية حاكتها تجربة شداد في فيلم "الحبل"، العبث نفسه عاشه جمله في فيلم "الجمل" قبل ذلك بعدة أعوام، وتحديداً في 1981، وإن كان فيلم "الجمل" ينطلق من معطياتٍ إنسانية عامة.

في ضوء تجارب الرباعيّ "إبراهيم شداد، الطيب مهدي، سليمان إبراهيم، منار الحلو" لاسيما شداد ومهدي، قد يتبادر للذهن تساؤل: هل كان هدفهم بالفعل مواكبة أفلامهم للأحداث السياسية التي طحنت السودان، وهو ما يتضح من تواريخ أفلامهم، وكذلك محتواها الموضوعي.

إذّ تكرر الأمر نفسه عام 1989 أثناء الانقلاب الذي جاء بالبشير رئيساً للسودان، بعد إطاحته بانقلاب 1985، قدم الطيب مهدي عام 1989 فيلمه "المحطة"، كعادة أفلام الرباعيّ التي تحمل أكثر من مستوى للقراءة والتأويل جاء فيلم "المحطة" الذي تدور أحداثه حول أوضاع احدى القرى، وساكنيها بعد أن طرأت متغيراتٍ إقتصادية واضحة على ملامح الطريق، لكن عموم ساكني القرية لم يلحقوا بهذا الركب التقدمي، إذّ يُعتبر التغيير أمراً صورياً غير مترجم في حياة المواطن السوداني.

أعزي طريقة قرائتي لفيلم "الحديث عن الاشجار" من خلال تجارب الرباعي الذي شكل بطولة الفيلم، وجانباً من البطولة التي عاشتها السينما السودانية، لأن فيلم "الحديث عن الاشجار" نفسه لاقى المصير ذاته حيث الاستشراف، والتعليق، والارتباط بمتغيراتٍ حتمية جديدة عاشتها السودان منذ ديسمبر 2018، وهو ما يجعل الفيلم مميزاً في ضوء اللحظة التي ظهر بها، وكذلك في ضوء التجارب السينمائية السودانية التي قد لا تكون كثيرة، لكنها مميزة، وثاقبة في توجهها، ونهجها البصري، وهو ما يبشر بغدٍ سينمائي يمتاز بعلاقاتٍ أصيلة قادرة على جلب التمويل لإنتاج الأفلام، وهو الأمر الذي شكل عقبةً من ضمن عواقب كثيرة أمام جيل شداد، وأقرانه، وننتظر أفلاماً، ومشاريع سينمائية قادرة على الحديث عن الأشجار، والغابة بأكملها.

سينماتك مُؤقتة للسينما التجريبية في باريس

قبل أن نستخدم "مصطلح التجريب" في كتاباتنا عن أيّ فيلم، يتوّجب علينا بدايةً أن نعرف تاريخه، ومعناه، ونتزوّد بمشاهدة مئات الأفلام من السينما التجريبية، وإلاّ، فنحن نخدع القارئ (وأنفسنا) بقراءاتٍ فيلمية غير صحيحة (إنشائية)، ويصبح أي شيئ بالنسبة لنا، وللقارئ/المتفرج تجريب.

ليس من العيب أن لا نعرف شيئاً عن السينما التجريبية (وهي سينما لم نهتمّ بها طوال حياتنا المهنية)، ولكن، العيب بأن نستخدم المصطلح في غير محله، فقط، لأننا وجدنا في الفيلم حركة كاميرا غير معتادة، أو سرداً متشظياً، أو لقطة غريبة.

السينما التجريبية أبعد من هذا التبسيط الذي لا يجب أن يقع في مصيدته نقاد محترمون.

وهذا ما حدث في أطروحةٍ دكتوراه بائسة كتبتها باحثةٌ عراقيةٌ يعرفها معظم الذين درسوا في أكاديميات الفنون العراقية، ومن بين الفضائح غير العلمية التي كتبتها في أطروحتها تلك، بأن السينما التجريبية قد انتهت، أو سوف تنتهي.، كان ذلك في عام 2010، أو 2011.

أمنيةٌ أكاديمية تحقيرية مع أنها هي التي كتبت هذه الأطروحة عن منطقها (منطق السينما التجريبية)، بينما الأطروحة من أولها إلى آخرها لا علاقة لها بالسينما التجريبية، ولكن، هي لم تكن أكثر من ثرثرةٍ عن فهمها الجاهلي لهذه السينما التي لا تعرف عنها شيئاً.

اليوم، وبافتخارٍ، وكبرياءٍ، وغرورٍ، وتحدي، وتعالي.. أسجل هذه المعلومة الجديدة عن هذه السينما التجريبية التي لا حدود لها.

وهي مبادرةٌ جديدةٌ من بين مئات المبادرات التي تخصّ هذا الجانب من السينما، سينماتك مخصصة للسينما التجريبية في باريس.

في عام 2021، احتفلن "مجموعة السينما الشابة" (المُتخصصة بالسينما التجريبية) بمرور نصف قرنٍٍ على تأسيسها.

ومن أجل هذه المناسبة، تمّ دعوة الجمعية في إقامةٍ دراسيةٍ من طرف المركز الثقافي (يدّ عاملة) من أجل إنشاء سينماتك مؤقتة لمقتنيات الجمعية.

وهكذا، ومنذ شهور، تستمرّ الجمعية بعرض أكثر من ثلث الكتالوج الخاصّ بها، عرضاً واحداً في الأسبوع كلّ يوم جمعة، وعروضاً متواصلة طوال أيام السبت من كلّ شهر.

سيكون هناك ما يقرب من 80 عرضاً إجمالاً، مع أفلام من إنتاج 2020 إلى 1943.

سيتمّ عرض الأفلام وفقًا لتاريخ إنتاجها، وبترتيبٍ زمنيّ معكوس، وفي مقاساتها الأصلية.

سينماتك في ـ  01 يناير 2023

* هذه المواد نشرت في جريدة التيار السودانية، بتاريخ 19.08.2021

 

>>>

30

29

28

27

26

 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004