كان طبيعياً أن تتغير خريطة العالم السينمائية بعد 11 سبتمبر كرد فعل تلقائي للكوارث التي تماثلت بشكل مطابق في الصورة السينمائية الرائجة في افلام العنف والأكشن, ولعل من العوامل المهمة والرئيسية التي أدت إلي الشروع في تغيير الخريطة السينمائية ما أشيع وأثارته الصحف إبان وقوع التفجيرات في سياق تحليلاتها السياسية للأحداث عن احتمال أن يكون منفذوعمليات التفجير في مركز التجارة العالمي وفي البنتاغون من اليسار الأمريكي وميليشيات الإرهاب الصهيوني علي اعتبار ان معظم الأفلام التي تعرضت لعمليات التفجير في السينما من إنتاج مؤسسات امريكية صهيونية وليس من المستبعد أن يكون مرتكبي الحادث لهم يد في عملية الإنتاج وان ما حدث في بعض الأفلام كيوم الاستقلال, تحت الحصار, بيرل هاربور, كان مجرد ماكيت تم تدارسه فنيا واستخدم بعناية لإجراء بروفات علي العمليات الحقيقية ومن ناحية اخري كان بالون اختبار لرد الفعل الشعبي! هذا التصور يعتقد أنه كان العامل الأساسي وراء المبارة السريعة في اتخاذ قرارات حاسمة بمنع إنتاج أفلام العنف وحجب الأفلام التي تنتمي إليها هذه النوعية من العرض نهائياً حتي وإن كانت خسارتها تتعدي الملايين.. ومثلما اتخذت الإدارة الأمريكية قراراتها الخاصة بهذا الشأن وتمكنت من فرض حظر شامل علي كافة المؤسسات السينمائية سواء ما كان منها خاضعا للمؤسسة العامة للدولة أوالقطاع الخاص استطاعت أيضا أن تفرض ذلك علي الدول الأوروبية الحليفة مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا والمانيا.. والأخيرة بالذات حيث كانت اولي الدول التي استجابت فوراً لتنفيذ التعليمات الصارمة للإدارة الأمريكية ومن المفارقات ان هذه الدعوة قد وجدت صدي أوانتقلت بالعدوي إلي بعض الدول الأوروبية الأخري التي لم تصلها بعد تلك التعليمات فسارعت هي الأخري بإعلان رفضها لتجديد ظاهرة أفلام العنف كنوع من التضامن وخوفا من العقوبات التي ربما قد توقع عليها لولم تلتزم بتطبيق النظام السينمائي العالمي الجديد, وعليه فقد اتخذت إجراءات حقيقية نحوتصفية الميزانيات المرصودة لأفلام الأكشن ومنعت عرض أية أفلام أخري تشير من قريب أوبعيد للعنف بكافة اشكاله حتي انها صادرت سيناريوهات لأفلام كاراتيه وألعاب رياضية اعتادت المؤسسات السينمائية العالمية علي إنتاجها للمراهقين كنوعية رائجة جماهيريا تحقق إيرادات مرتفعة.. وعلي رأس الدول التي خضعت للقانون الأمريكي أسبانيا والبرتغال والسينما الحرة في دول شرق أسيا.. كل هذه الدول اعتبرت ان الشعار الذي ترفعه امريكا بمثابة تحذير تلوح به مسبقاً قبل أن تهم بضرب السوق السينمائية ومنافذ التوزيع للإجهاز علي مستقبل في العالم والانفراد بسيادة السوق تعهدها دائماً!! وحيث ان المؤسسات الإنتاجية تعلم مدي تجبر هوليود في هيمنتها علي السوق التجارية العالمية للفيلم ولها تجارب سابقة في هذا الشأن, اعتبرت أن ما يحدث يمكن أن يكون حربا للتصفية علي غرار حرب العدوان والبلطجة في أفغانستان والعراق ومقدمات التحرش بمؤسساتها السينمائية موازياً لتحرشها السياسي بالسودان! وبالفعل نجحت الإدارة الأمريكية في تصدير كروت الإرهاب الحمراء لمعظم الدول واجبرتها علي محاذاة القطيع في المضي نحوالقنوات أوالخنادق التي تعدها لدفن حريتها واستقلالها! وقد كان من نتاج هذا التعسف أن أعلن المخرج الأماني العالمي الكسندر كلوج مصرع سينما العنف والأكشن تحت انقاض مركز التجارة العالمي وكذلك جاءت تصريحات المسئولين الإداريين بشركة ووندر برونزرز الأمانية بضرورة إعادة النظر في خطتها الإنتاجية للموسم السينمائي الجديد بما يتناسب مع الظرف الطارئة والواقع الجديد للمجتمع الأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر الماضي فضلا عن قيامها بتدارس فكرة تغيير اسم احد أفلامها الذي أنتج في اعقاب التفجيرات خسائر مضاعفة بطولة أرنولد شوارتزينجر بعد قيامها بشن حملة دعائية ضخمة كلفتها 20 مليون دولار كما أرجأت في حينها فيلم ترابلي أو متاعب كبري والذي يدور حول الخسائر التي نجمت عن ضرب مركز التجارة وذلك لحساسية الموقف السياسي. ومن ناحية اخري قامت شركة سوني إحدي الشركات الإنتاجية العملاقة بالولايات المتحدة الأمريكية بسحب فيلم الرجل العنكبوت من الأسواق حيث يظهر فيه عملاق ضخم وقد نسج خيوطه بين برجي مركز التجارة العالمي في محاولة لتميرهما وهذا الفيلم يعكس رؤية ساخرة من جهاز المخابرات الأمريكية C.I.A ووزارة الدفاع البنتاجون ويشبه الذين قاموا بتدمير مركز التجارة العالمي بالعملاق الذي يمتلك قوة هائلة مكنته من التسلل إلي المبني وتدميره في غفلة من الحراس, ويتهكم الفيلم علي الإدارة الأمريكية ومزاعم التفوق التجسسي أوالتخابري ولم تقتصر الشركة علي هذا الإجراء تجاه فيلم الرجل العنكبوت بل اعلنت ايضاً أنها ستقوم بتغيير مشهد نهاية الجزء الثاني من فيلمها رجال متشحون بالسواد والذي يظهر ايضا مركز التجارة العالمي حتي لا يذكر الجمهور الأمريكي بالفاجعة.. واستمراراً للسيناريوالمفزع وحالة الاضطراب الشديدة التي تشهدها شركات الإنتاج أعيد تصوير مشهد نهاية فيلم آلة الزمن المأخوذ عن رواية الكاتب الأمريكي إتش جي ويلز الشهيرة لأن المشهد الأول يصور سقوط حجر ضخم من القمر علي مدينة نيويورك فيحيلها ركاماً.. ومن دلائل الرعب الذي بلغ مداه لدي القائمين علي صناعة السينما في أمريكا أن الأزمة امتدت إلي الأفلام الكوميدية ولم تقتصر علي أفلام الأكشن حيث صدرت تعليمات من جهات مختصة تشبه غرفة صناعة السينما في مصر أوالرقابة العامة علي المصنفات الفنية تفيد تأجيل عرض أحد الأفلام الكوميدية المهمة عصابات نيويورك لمجرد أن أحداثه تدور في حي منهاتن الذي وقعت فيه الأحداث ولم يستثن من الاحتياطات الأمنية والتي تشارك فيها عدة جهات امريكية مسئوبة إلا فيلماَ واحداً علي الرغم من ان عنوانه يتضمن تصريحا بالموت من شأنه إثارة الفزع. هذا الفيلم هو أيها الموت اللذيذ تعالي للمخرج النمساوي الأصل فولفغانغ مورنمير غرز فقد تم عرضه في ثلاث مدن ألمانية برغم مخاوف المنتجين من أن يصبح لعنوانه اثر مغاير علي إقبال المشاهدين.. وجاء هذا الفيلم وتم عرضه تحدياً لموجة الرعب السيطرة علي الألمان وتعزيز اتجاه ثقافي مناهض لتغيير مسار السينما والذي يتزعمه المخرج الألماني أولفر بربن الذي اكد علي مضيه قدماً في عرض فيلمه رساس ذلك الفيلم الذي تدور احداثه حول عالم العصابات ويعرض أشكالا متنوعة من الجريمة.. ويأتي إصرار المخرج الأماني علي عدم تغيير نمطه السينمائي لقناعته بأن الخضوع لحظر سينما العنف نوع من الاستجابة لتهديد الإرهابيين وتغيير شكل الحياة العامة كلها وليس السينما فقط.. الأمر الذي يجب ألا يحدث من وجهة نظره.. ? ومن المفارقات الغريبة التي لفتت نظر المنتجين ودعتهم للتحول عن النمط السائد لسينما العنف النجاح المذهل الذي حققه فيلم بريد حيث جونز دياري عند عرضه في بريطانيا عقب الهجوم علي الولايات المتحدة مباشرة.. وهوالفيلم المغرق في الكوميدية والرومانسية وتحطيمه للرقم القياسي في الإيرادات وعلي مستوي التليفزيون ظهر التأثر بالأزمة واضحاً إلي الحد الذي دفع كافة الشبكات التليفزيونية الألمانية لتغيير خرائطها البرامجية إبان توجيه الضربة لأمريكا حيث استبدلت البرامج الوثائقية والإخبارية بالبرامج الترفيهية مما كبد الشبكات الخاصة بألمانيا خسائر فادحة بلغت قيمتها 100 مليون دولار ? وجاءت عملية تغيير الخرائط البرامجية للشبكات مفاجأة أدهشت الجمهور الأماني خاصة وان التغيير لم يكن تدريجياً ولكنه جاء شاملاً وسريعاً ومتجاهلاً لكل ما يجري من صراعات وقتال وكأن شيئاً لم يكن.. وبرغم تكهنات بعض الإعلاميين الألمان بأن هذا الأمر لن يستمر طويلا إلا أن مديري القنوات أكدوا أن اي فيلم أوعمل فني لا يتناسب مع الخريطة الجديدة للإعلام الأماني سيتم إلغاؤه فوراً مهما كانت الخسائر والتضحيات, ومن جانبها أدخلت شركات الفيديوتغييرات شابهة في خرائطها الجديدة فقد أجلت شركة بي إم جي طرح الجزء الثالث من فيلم اضطراب بالأسواق نحوستة أشهر لاعتقادها بأنه يتشابه مع الأحداث المؤسفة التي جرت لأصدقائها الأمريكان حيث يدون مضمون الفيلم حول قصة اختطاف طائرة مدنية من قبل بعض الإرهابيين وهوما اعتبرته شركة الفيديوتماثلاً وليس تشابهاً مع النكبة الأمريكية علي حد تعبير أكبر مسئول بالشركة جي إن بل .. وهكذا أعادت الإدارة الأمريكية نفوذها السياسي علي الدول الصديقة لها وفرضت بالقوة آلياتها الإنتاجية الجديدة عبر مؤسساتها السينمائية وحلفائها في دول العالم ليتساوي الواقع الفني بالواقع العسكري وتثبت أنها صاحبة السياة في كل المجالات.. الواقع والخيال؟ القدس العربي في 27 أكتوبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
متغيرات السينما العالمية بعد 11 سبتمبر:
القاهرة/ كمال القاضي |