لم يعد بوسع أحد أن يعرف مصير جلال الدين حكمتي، وهو الأمر الذي أثار مشكلة بين تليفزيون قطر ومحطة mbc قد تشهد المحاكم فصولا مطولة منها. جلال الدين حكمتي، شاب أفغاني درس في المدارس الدينية والتحق بالجامعة الحقانية، يدافع عن أرضه المحتلة، تملؤه الحيرة، ويجد نفسه متذبذباً في كثير من المواقف بين حسه الإنساني وواجبه نحو بلده، بين توجيه نيرانه للمحتل وامتداد تلك النيران لتصيب ضحايا من الأفغان الأبرياء، أخته تسافر إلى بريطانيا لدراسة الطب بجامعة كامبردج، بمباركة والده فيقنعه رفيق له في الجهاد بأن ذهابها إلى بلاد الكفر ومخالطتها للرجال يخالف الشريعة، وفي الوقت نفسه، يحاول الإفلات من رغبة هذا الرفيق في الزواج منها. هذا ما عرفناه - إلى الآن - عن جلال، ولن نعرف أكثر من ذلك، لسبب غير بسيط وهو قناة mbc لم تتسلم بقية حلقات مسلسل "الطريق إلى كابل" الذي كتبه الأردني جمال أبو حمدان وأخرجه محمد عزيزية وأنتجه المركز العربي للخدمات العربية والسمعية (وهي شركة أردنية), لحساب تليفزيون قطر، بتكلفة تزيد على المليوني دولار. قصة المأسآة الأفغانية جلال الدين حكمتي نموذج للأفغاني الذي يعيش في عزلة عن العالم ويشعر بالتيه نتيجة الحرب التي عاشتها بلاده، وهو الشخصية التي يجسدها بروعة وإتقان الممثل السوري عابد فهد، بطل المسلسل الذي يلامس واقعنا المعاصر ليقدم قراءة في الكارثة أو الكوارث التي ألمت بالشعب الأفغاني، وسعيه من أجل حياة كريمة ما زال محروما منها، كما يتناول أيضا معاناة العرب الأفغان وما آلت إليه حياتهم بعد أن تغيرت موازين القوى السياسية والعسكرية في المنطقة، وهو بداية خروج عابد فهد من دائرة المسلسلات التاريخية بعد نجاحه الفائق في أداء شخصيتي الزير سالم، والحجاج بن يوسف الثقفي. تبدأ الأحداث من الحرب السوفيتية - الأفغانية، وخلال الحلقات الثمانية التي شاهدناها تم طرح عدد من الموضوعات الحساسة مثل وضع المرأة الأفغانية والدور الأمريكي في دعم المجاهدين الأفغان في حربهم ضد الاحتلال السوفيتي مع الإشارة إلى بعض القيادات التى لعبت دورا بارزا مثل عبد الله عزام وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهم. وكان واضحا أن المؤلف وضع مسافة بينه وبين تلك الأحداث مكنته من طرح الكثير من الأحداث الملتبسة التي أحاطت بالقضية وشكلت أبعادها الرئيسية، فكان أمينا في عرض الآراء المتناقضة من خلال شخصيات تمثل كل واحدة منها توجهاً فكرياً مختلفا. لم يقع جمال أبو حمدان في الفخ الذي يحرص كتابنا على الوقوع فيه، وكان صعبا على المشاهد أن يستشعر انحيازه لأي طرف من الأطراف وهو ما حرص عليه المخرج فلم نر فريقا مرفوع الحاجب أو يطرح وجهة نظره بتشنج! رؤية مركبة للقضية ولعل حياد المسلسل وموضوعيته في تناوله لموضوع معقد ومتشابك تتداخل فيه الكثير من الأطراف الدولية مثل الحرب الروسية الأفغانية هو ما جعل أطرافا كثيرة تضيء اللمبات الحمراء، فهناك إشارات للدور الأمريكي الداعم للمجاهدين الأفغان سواء بالأسحلة أو بوصفهم بمقاتلي الحرية، وهناك اتهام للمقاتلين الأفغان والعرب بأن نيرانهم طالت الأبرياء من الشعب الأفغاني. نرى جلال (عابد فهد) مترددا عندما تم تكليفه بتفجير مدرعة روسية ويسأل عن ذنب، ونسمعه يتحدث عن الخطأ الذي إرتكبه والده بجعل أخته تسافر وحيدة إلى بلاد الكفر (بريطانيا) وتختلط بالرجال وهذا (من وجهة نظره) مناقض للشريعة الإسلامية، ونرى تلك العائلة الأفعانية التي تتطلع إلى السلم وترفض أن يخوض أحد الحرب باسمها وباسم الدفاع عن الإسلام حتى لو كان ابنها. فيما زينب (فرح بسيسو) ترى أن أفغانستان ضحية قوى دولية متصارعة على السيادة والنفوذ، ونسمعها تعلن أكثر من مرة أن ما يحدث مؤامرة دولية يذهب ضحيتها الشعب الأفغاني. يحسب للمسلسل أيضا أننا لم نتشكك لحظة في أن الأحداث تجري في بيشاور وبيت الأنصار، والجامعة الحقانية، والحلقات التي رأيناها جعلتنا نعيش لحظات القصف الروسي ونسمع أزيز الرصاص ونرى قنابل ومدافع الروس تفتك بالأفغان، ونقتنع بأن من نراهم هم المقاتلون الأفغان فعلا، نعيش شعورهم ومشاعرهم، لدرجة جعلتنا نعتقد أحيانا أننا نعيش أحداث القتال الفعلي. إنها الأحداث التي تم تصويرها في الطفيلة (جنوب الأردن) وفي قريتي السلع وضانا وعلى سفوح جبال البترا. قصة البيان رقم 7 العمل مهم جداً ولا نبالغ لو قلنا أنه أكثر الأعمال جرأة، وأكثرها حساسية، حتي فوجئنا بقصة البيان الذي قيل إن موقع الأنصار على الإنترنت نشره ويهدد باستهداف جميع العاملين فيه إذا تضمن إساءة إلى حركة طالبان. البيان الذي حمل اسم "البيان رقم 7 من كتائب المجاهدين في العراق وسوريا"، جاء فيه: "تحذيرنا الشديد لكل من ساهم بإنتاج هذا المسلسل من ممثل أو مخرج أو مصور" في حال تضمن المسلسل "غير حقيقة طالبان المشرفة، وما طبقوه من الشرع الحنيف ومن دولة الخلافة". وأضاف البيان: "سوف نضرب إن قدر الله لنا ذلك مراكز القنوات الفضائية ومراسليها ومراكزها في العراق وسوريا العارضة لذلك المسلسل"، متوعدا بأنه "لن يفلت من أيدينا أي واحد منهم إن لم يكن اليوم فبالغد، وإن لم يكن بالغد فبعد شهر أو بعد سنة". هل اتفقوا جميعا علي المنع؟ قلنا إن صدور مثل هذا البيان قد يكون أمرا طبيعيا، لكن من غير الطبيعي ألا تعرضه كل القنوات التي تعاقدت عليه بما في ذلك القناة التي مولت إنتاجه!! فتليفزيون قطر (الذي مول الإنتاج) أعلن أنه لن يعرض المسلسل، والتلفزيون الأردني أعلن بشكل مفاجئ أنه لن يعرضه بعد أسبوع من الدعاية له، كما تراجعت القناة المغربية الثانية "دوزيم" عن بث المسلسل بعدما أعلنت عنه بضعة أيام قبل بداية شهر رمضان، وحددت موعد عرضه في الحادية عشرة والنصف مساء. فقط قناة إم بي سي mbcهي التي عرضت المسلسل وعلى شاشتها شاهدنا ثمان حلقات، قبل ان يتوقف العرض. الامتناع عن العرض - بكل تأكيد - لا علاقة له بتلك التهديدات فقد تم اتخاذه قبل ظهور تلك التهديدات بيومين على الأقل، لكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نصدق المبررات التي ساقها من اتخذوا القرار، فمرة يرجعه مسئولون في التليفزيون القطري إلى عدم توافر كل حلقات المسلسل كاملة. ويؤكدون أنهم لم يتسلموا سوى ثماني حلقات فقط من ثلاثين حلقة تم الاتفاق عليها، مشيرين إلى أن عقدهم مع الشركة المنتجة ينص على تسليم العمل كاملا قبل فترة كافية من بداية شهر رمضان. ومرة أخرى يأتي تصريح على لسان محمد عبد الرحمن الكواري مدير إدارة التلفزيون القطري يعلن فيه أنه لن يعرض المسلسل لأسباب فنية، لأن المسلسل من وجهة نظره لم يكتمل فنيا ويحتاج لمراجعة فنية ومعلوماتية قبل عرضه!!. وخرج بعد ذلك عبد الحليم عربيات مدير التلفزيون الأردني ليعلن أنه قرر عدم عرض الحلقات الثمانية التي وصلته من المسلسل بطلب من تلفزيون قطر. رؤية العمل حدث ذلك رغم تأكيد المؤلف على أن جوهر العمل هو الدفاع عن الإسلام، وأنه يهدف إلى رسم صورة موضوعية متوازنة ومستندة إلى وثائق وشهادات مجاهدين عرب في أفغانستان ومراجع عديدة. وبشكل قاطع قال حمدان أن المسلسل ينطلق من فكرة أساسية, هي أن أفغانستان ضحيّة مؤامرة دوليّة أطرافها معروفة، مع توجيه أصابع الاتهام إلى مشاريع الهيمنة على المنطقة. وكانت المفاجأة التي كشفت زيف كل التبريرات أن عدنان العواملة مدير "المركز العربي للخدمات العربية والسمعية، أكد أنه أنتج لتليفزيون قطر عدة أعمال منها زمان الوصل وامرؤ القيس والحجاج وأنه في كل مرة كان يقوم بتسليم الحلقات تباعا، ولم يحدث مطلقا أن سلم الحلقات كاملة قبل بداية شهر رمضان، وأوضح العواملة أن الطريق إلى كابل عمل متوازن درامياً وسياسياً، يدافع عن صورة الإسلام، وعن الوسطيّة والاعتدال. قد يكون هذا الكلام صحيحا وقد لا يكون. فالحكم في النهاية للمشاهدين غير أنهم لن يستطيعوا إصدار الحكم لأنهم لم يشاهدوا غير ثمان حلقات. لكن، كيف حدث ذلك؟!! وقائع ما جرى مصادر من mbc أكدت أن المسئولين في التلفزيون القطري طلبوا بإلحاح من المحطة عدم عرض المسلسل قبل يوم واحد من العرض وهددوا بأنهم لن يرسلوا بقية الحلقات لو قاموا بعرضه، مع وعد برد ما دفعته إم بي سي. هذا الطلب وضع mbc في مأزق، إذ كانت قد قامت بحملة إعلانية مكثفة للمسلسل، ووقعت عشرات العقود الإعلانية بملايين الدولارات، وبهذا الشكل لم يكن أمامها غير عرض ما لديها من حلقات. وهكذا لم يكن أمام mbc غير عرض الحلقات التي وصلتها والتهديد باللجوء للقضاء، على أمل أن يتراجع تليفزيون قطر ويرسل بقية الحلقات، أما إذا لم يحدث ذلك فستكون قد أبرأت ذمتها أمام مشاهديها وأمام من التزمت معهم بعقود إعلانية وفي الوقت نفسه فإن عرض ثماني حلقات من المسلسل قد تكون كافية ليصدر المشاهدون حكمهم على المسلسل ويخرجون باستنتاجات تكشف بعض الجوانب التي أجبرت التليفزيون القطري على اتخاذ هذا القرار شديد الغرابة. وانتهى الأمر بأن توقف عرض المسلسل بعد الحلقة الثامنة، وأعلن تلفزيون الشرق الأوسط "إم بي سي" السبت(24 أكتوبر) أنه "مضطر لوقف العرض وأصدرت بيانا جاء فيه: "على رغم الجهود الحثيثة التي بذلها مركز تلفزيون "الشرق الأوسط"(mbc) لمواصلة عرض مسلسل "الطريق إلى كابل" وفاء والتزاماً لمشاهديه، فإنه يؤسف إدارة "mbc" أن تعلن أن المحطة مضطرة لعدم بث باقي حلقاته بسبب رفض الشركة المنتجة له والشركة التي تتولى تنفيذه وتوزيعه تزويدنا بها من دون أن تعطيا سبباً مقنعاً لهذا التصرف الغريب. وأضاف البيان: "لقد أخلت الجهة المنتجة للمسلسل وهي تلفزيون دولة قطر والجهة المنفذة التي تملك حق التوزيع وهي المركز العربي للانتاج المرئي والسمعي بالالتزامات المبدئية والبديهية التي قدمتاها وهي تسليم حلقات المسلسل قبل الموعد المحدد لعرضها في شهر رمضان المبارك. فقبيل بدء شهر رمضان لم تسلمنا الحلقات الثماني الأولى من المسلسل على أن يتم تسليم الحلقات الباقية في الأيام الأولى من الشهر الكريم، حينها قامت "mbc" بحملة إعلانية كبيرة للمسلسل الذي سيعرض على شاشتها، لكن بعد ذلك فوجئنا بطلب غريب من تلفزيون دولة قطر بوقف بث المسلسل وذلك دون تقديم مبرر منطقي، وعندما أصر مركز تلفزيون الشرق الأوسط على تسليمه بقية الحلقات تطبيقاً للعقد، أو على الأقل معرفة سبب هذا الإجراء غير القانوني، كان الجواب أن العمل في بقية الحلقات توقف لأسباب أمنية، وهي حجة غير حقيقية على الإطلاق، وقد نفاها مخرج المسلسل على الملأ في مقابلة أذيعت على شاشات التلفزيون كما نفاها منفذ المسلسل. وأكد البيان على أن مركز تلفزيون الشرق الأوسط الذي عمل ما في وسعه لعرض كل حلقات المسلسل كما وعد مشاهديه يؤسفه أنه مضطر لعدم بث بقية الحلقات بسبب التصرف الغريب الذي قامت به الجهتان، وهو تصرف يفتقر الى أبسط القواعد المهنية والقانونية. وانتهى البيان باعتذار من mbc للمشاهدين، ومعلنا أنه يحمل تلفزيون دولة قطر والمركز العربي المسؤولية الكاملة عن هذا الموقف. وهكذا، أصبح مصير جلال الدين حكمتي مجهولا، ومعه مصير "الطريق إلى كابل"، ولا يبقى أمامنا غير انتظار قرار الإفراج عن المسلسل بعد أن يتعامل معه مقص الرقيب!! * نقلا عن صحيفة الأسبوع المصرية بتصرف يسير. ** صحفي وناقد سينمائي. موقع "إسلام أنلاين" في 25 أكتوبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |