لم يكن ظهور السينما الجديدة أمرا اعتباطيا بقدر ما هو امتداد منطقي لتطور الفنون كافة والسينما بوجه خاص ، تلك التي تمتاز بخاصية إسفنجية تمتص خلالها خبرات معظم الفنون السائدة اليوم ، لذلك حملت أغلب أفلام الموجة الجديدة في السينما ، إحالات موضوعية للواقع الذي تشكّلت فيه ، بصرف النظر عما تضمنته من أفكار ومعالجات أو وجهات نظر يطرحها الفيلم المزمع تحقيقه . مع ذلك يمكن لمتابعي السينما هذه ، التعرف على الكثير من الخصائص الفنية تحديدا من خلال أفلام كبار مخرجي هذا الاتجاه ، وهم في معظمهم من المخرجين المهاجرين للعمل في أمريكا أو بعض الدول الأوربية . من تلك الخصائص الوسائل التعبيرية الجديدة المُستخلَصة عبر الإمكانات اللامحدودة للأسلوب الفني في اكتشاف المفردات الفيلمية التي تُغني اللغة السينمائية وتبلور عملية الخلق الفني المدروس ، رغم أن حالات الاختلاف موجودة من مخرج لآخر بحسب اختلاف المشارب الثقافية وتباين الرؤيا إلى العالم عند كل مخرج أو كاتب . ولأننا بصدد أحد أبرز ممثلي هذا الاتجاه ، فلا مفرَ من الصعوبة التي سنواجهها في فيلم ( الجدار ) الذي استأثر باهتمام معظم النقاد والمُشاهدين ، فكان في مقدمة الأفلام الأكثر تعبيرية وعمقا تفرّد بها حتى من بين أفلام المخرج نفسه . * بناء الفيلم : ( الجدار ) درس في السينما الجديدة : إن بناء فيلم ( الجدار ) قائم على عملية إبدال بين عناصر الفيلم السينمائي بشكل يُظهِرُ تفوقَ عنصر بنائي هام ( كالمونتاج ) على العناصر الأخرى بطريقة جعلته من المهام الأساسية الواجب مراعاتها بحرص شديد يُطوّر عملية التوليف المتصلة بالتفكير المسبق للتركيب المونتاجي العام للمشهد ، كذلك الروابط بين كل لقطة وأخرى وسلامة الانتقالات والحركات المتتالية . في هذا الفيلم نجد أن الوسائل التعبيرية البصرية (التشكيل ، الكاميرا،الإضاءة ) ليست دائما وفي كل لقطة متساوية الأهمية في تحديد التكوين العام . فالتكوين الفني المطلوب والملائم لمجرى الأحداث قد يُحتّم هيمنة أو بروز هذه الوسيلة أو تلك ، وهي بدورها مشروطة بما يمكن أن تحققه من إثارة نفسية / ذهنية لدى المُشاهد وتجعله منذ اللقطات الأولى مُحصلة للإرباك والتوتر ومن ثم التأويل . الأمر الأكثر أهمية والذي يراهن عليه المخرج ( الآن باركر ) وما تميز به فيلم ( الجدار ) بوجه خاص ، هو قابلية الخطاب الصوري على تخطي محدودية ونمطية التلقي والتأويل خلال بناء صوري متحرك يخلق بجدارة حقل فاعليته ومدياته . وبواسطة الإيقاع المتصاعد والسريع لّلقطات والحركة داخل الصورة (الباك – راوند) يفتح ( الآن باركر ) للمُشاهد إمكانيات واسعة لإثارة الاهتمام بالمُعطى الفكري ، والتركيز من ثم على الأشياء المُصوَّرة مُستَغلة بشكل خلاق وباهر للتوّصل إلى حلول تكوينية – تعبيرية تحقق فروقا واضحة ومقصودة في طبيعة كل لقطة على حدة. لاشك أن الإيقاع السريع لحركة الفيلم يعكس إلى حد ما طابع الحياة المعاصرة وما تُخفيه من إنعطافات تُخاطر بمصير الإنسان ، بشكـل يُحدث حالة مزاجية متوترة عند المُشاهد بواسطة ( الصورة ) كحافز ومثير فعال. إن البناء الرمزي – الدلالي للفيلم ككل يهدف إلى تشفير الخطاب السينمائي استنادا إلى إشارات مَقيسة ، تطرح نفسها منذ الوهلة الأولى بعيدا عن المباشرة والتقليد ، فتحاول دفع المُشاهد إلى فهم طرائق التعبير بشكل متواصل ومستمر ليُصبح بإمكانه إدخال تحليل ذي طبيعة بنيويّة على السياق الفيلمي على نحو محدد ، بُغية اكتشاف الخزين الدلالي للطرائق الأسلوبية المُستخدمة ، والتي عن قصد شُوِّهت ماهيتها وأُبدلت أو أنظمت للبناء التشكيلي العام للصورة ، وهذا بدوره ربما يجيب عن سؤال ( رولان بارت ) " فيما إذا كان بالإمكان تحويل إجراءات الفن السينمائي ، وبانتظام إلى وحدة دالة ؟ " يهدم (باركر ) في ( الجدار ) الطرائـق التـقليـدية لنسق الفيـلم ( الميزانسين – التتابع ) ليبحث عن وحدة فنية تأثيرية جديدة تقوم على تسريب الجو الانفـعالي للفيلم إلى المُشـاهد في ضـوء ( منظور الإشراك الفكري للمُشاهد مع الصورة ) بدلالاتها وبمعيار من الشد الحسي الذي يتم عبر إدخال الغرابة والاحتراف المقصودين لتحريك سواكن المتفرج التي هي نتيجة لتراكمات سلبية شوّهت منظومة الوعي لديه ، فتوازي بذلك أعمق التصورات في الفيلم ، لا سيما التي تمس مشاكل كونية . وقد أبتعد الخطاب عن القول : أن مأساة الإنسان ليست في الأزمات والمشاكل العابرة وليدة الظروف التاريخية الطارئة ، أصبحت المشكلة في (الجدار ) بمثابة مواجهة عنيفة لمسألة الوجود والمصير البشري وسط عالم مليء بالدمار ومؤسسات الإرهاب الفتاكة 000 فهي إذن مسألة شرعية الوجود . الممثل الرئيس في الفيلم في شبه انقطاع مع ما يسود العالم ، والصورة تتسيّد كل شئ ، وهي عند ( باركر) المُنقذ لرؤيته في العمل الفني ، وقد يُخفي ذلـك مؤثرات مسرحية واضحة تتبادل التأثير في طبيعة التكوين السينمائي . فأغلب مَشاهد (الجدار) يمكن اعتبارها صوراً تشكيلية فائقة الصنعة اعتمدت مبدأ ( تشتيت البؤرة المركزية ) خلال مكوناتها العديدة مثلما هي مفرداتها. (الممثل أداة لتشكيل الصورة) إن هذه العملية عند ( باركر ) تهدف إلى استثارة المتلقي ذهنيا وانتزاعه من حالته الساكنة ( السايكو – فيزيائية ) ومن البلادة والإسترخائية في ضرورات الاتصال مع الصورة الناطقة كما عند المخرج الألماني ( فاسبندر ) الذي يذهب في القول عن هذه الأفلام : ( أنها خالية من مكان للأمل ، ولكنها مع هذا تبدأ بعمليات فكرية في عقل الجمهور بحيث تقوده نحو الأمل 00 ) على هذا النحو يمكن للمُشاهد أن يقوم بتجميع أجزاء البنية الصورية للفيلم بطريقته الخاصة كمتلقٍ تجريبي يمتلك الاستعداد الواعي لفهم العملية السينمائية ، ناهيك عن كونه مُشاهدا افتراضيا أثناء التحضير للعمل ، والآن يملك الحضور الحقيقي الذي يُجسّد إمكانية التعبير التفجيري للصورة في الإيصال . على ذلك الافتراض صنع ( باركر ) "الجدار" أرضا مسكونة بالاحتمالات وخطابا فكريا منفتحا يقرُّ بتعددية القراءة وفاعليتها ، فالسينما تُسهم في خلق القيم التي نعيش بها . * المونتاج : المونتاج في هذا الفيلم طريقة استخدام تقنية لتوظيف المسائل الفكرية على أساس سايكولوجي يُثري الاتصال بالمؤثرات الحسية ويمنحنا في تكوين المَشهد إحساسا قد لا ينبع من الممثل ذاته . وفي ذلك لغة سينمائية هي ليست انعكاساً للواقع إنما افتراض البحث في هذا الواقع وفقا لرؤية تحليلية لا تُتيح في ( الجدار ) إمكانية القبض على موضوعة محددة يُوسم بها الفيلم كونه مُتحركا على نحوٍ متزامن بدقة وجمالية سمعية مع الموسيقى بطريقة تشكّل سلسلة من الدلالات تتناغم في فكرتها وتقنيتها مع ما يجري في الرسوم المتحركة فائقــة الصنعة . لذا اختار المخرج عن قصد أشكالا خاصة تناسب أفكاره ورؤيته خلال الرسوم المتحركة الخطية التي لا يُوجد لها نظير في الواقع ، ففضل أن يطورَ أشكالا تجريدية وتعبيرية كلية أو جزئية لمصلحة المحتوى ، والبعض منها يدل دلالة ضعيفة على الواقع لغرض التشويه أو موازنة الفكرة الفلسفية . إن بناء الفيلم يُقرّب الإحساس بالتشويش والفوضى والانتهاك الذي يعانيه الفرد في ضوء العلاقات غير الواضحة ، لما تتركه المؤسسات من رعب وإضطراب ومشاعر دفينة ، بوسائلها التربوية المعروفة التي تدشّنت عبر اتجاهات الأنظمة الفاشية التي أرادت أن تصنع الفرد المناسب لطموحها . إن هذه العلاقة المركَبة بين الفرد والسلطة كما يُصورها ( باركر ) وهو الضليع بعلم النفس ، تخلق إسقاطات وإرتكاسات تندفع بآليات متعددة في اتجاهات سادية كرّستها مظاهر العزلة والتوّحد وجو الفساد السياسي في المدينة ومصير الفرد القلق والمجهول فيها . حقا إن حياتنا الحاضرة تبدو عصيّة على التناول المفهومي . المخرج يواجه مهمة عسيرة قوامها إيصال رؤياه الفلسفية والأخلاقية إلى الجمهور وعكس إنفعاليته وشاعريته بما يتسم بدرجة رفيعة من الصناعة المَشهدية التي تضع الصراع في غنىٍ يُوحّد الجوانب الفنية في الاندماج العضوي بين أشد الأنواع تباينا . مدى أتساع الحياة وتغيرها المستمر إنما هو بالنسبة لمخرج الفيلم ، الأمر الرئيس الذي يجب أن تتعلمه السينما ويتعين علينا تفهمه ، وعبره فقط يمر الطريق إلى تحليل العالم تحليلا فنيا دقيقا وعميقا . هذا العمق الفكري مع كمال التجسيد الفني اشترط التداخل في زمن الفيلم فتضمن الكثير من ( المونولوج ) بشكل لا يوفر للمتلقي وحدة زمنية واضحة ظاهرة على السطح . فالارتـداد بالوعي إلـى حـالة اللاوعي عنـد ( باركر) هو نوع من إحياء الذاكرة التي نخرتها الحرب كمفهوم فلسفي للخراب الـذي لحق الإنسان وشوهه . يبــدو المعنى واضحا في التكوينات المتحركة والمَشاهد العاصفة التي تحلّ محلَ السرد البطيء أو التقليدي . أعتمد ( باركر ) ( المونتاج الفلسفي ) طريقة للفيلم وفقا لمبررات تناسب رؤيته السينمائية بشكل بعيد تماما عن إيقاعية التتابع الهرمي ، قريب من الرؤيا الفنية البحتة. وهذا النوع من المونتاج أشد خطورة من بين أنواع المونتاج الأخرى لأنه لا يخضع إلى قواعد ومواصفات محددة قدر اتساقه مع الرؤى الإبداعية للمخرجين . * إشارات : حاول الفيلم أن يعكس الكثير من مفردات ثقافة العصر والاتجاهات السائدة فيه ، حيث أن مقاربات قائمة أحالت الفيلم إلى قصة لـ ( جان بول سارتر) في مجموعته ( الجدار ) عنوانها ( طفولة زعيم ) والتي صوّرت طبيعة العقل البشري والنفس الإنسانية خلال طرح فكرة التطابق مع الذات لاجتياز شعور الفرد بأنه فائض عن الوجود ، والتي تدفعه ليكون ( فاشستيا ) بمعاداته أغلب الشرائح والطبقات ولأن هذا العداء يكسبه احترام مريديه . أشارت القصة أيضا لموضوعات أخرى لا تقل أهمية، منها استحالة التواصل مع الآخر سواء في الحب أو الجنس . وما وجوه البشر في الحقيقة إلا أقنعة تتستّر خلفها تشوّهات عنيفة تُحيل الكائن إلى مسخ حقيقي مغترب . ينتقد ( الآن باركر ) المجتمع الغربي ويُحذّر من الحصار التقني للإنسان في ضوء الحضارة التكنولوجية التي تبشره على الدوام بمستقبل مرعب يتعاظم مع ضياع الأمل المسيحي ومع التشويه الأخلاقي الذي لحق به . وبعمق نظري يكشف الفيلم عن كيفيات التعامل والاتصال والاستلاب الذي تتركه الآلة على الفرد . يتم ذلك في الفيلم عبر أجزاء موّسعة ومنظمة من الإشـارات والأفكار المتلاحقة في العمل السينمائي . لا بد من التنويه إلى أن المادة الأساسية للفيلم هي أسطوانة(THE WALL ) للفريق الغنائي الإنكليزي الشهير ( PINK FLOYD ) والتي سجلت في الأساس قبل الفيلم . فجاء الفيلم ليكون معالجة مرئية للمادة الغنائية ، لا سيما أن العنوان الصحيح في تايتل الفيلم كان( PINK FLOYD THE WALL ). * ناقد عراقي موقع "كيكا" في 22 أكتوبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
الصورة السينمائية: طرق المعاينة وإمكانية التأويل أحمد ثامر جهاد * |