شعار الموقع (Our Logo)

 

 

* حاول وزير الخزانة التضييق علي ميزانية وزارة الثقافة فقلت له: الثقافة ليست سلعة بل خدمة

* اقترحت علي مجلس الوزراء الاهتمام بالأفلام الروائية ذات المضمون

* طلبت من «روسوليني» مشاركة عدد من الفنانين والفنيين المصريين في فيلم «قصة الحضارة» فكانت النتيجة شادي عبدالسلام و«المومياء»

* السينما اللبنانية ازدهرت بعد هجرة الفنانين المصريين فقدمت 43 فيلما في عام واحد

* قدمنا خدمات إنتاجية خلال عام 1968 للأفلام الإيطالية قيمتها 285 ألف دولار

* بعد أن يئست من استجابة مجلس الوزراء قدمت مذكرة إلي الرئيس عبدالناصر عرضت فيها كل مشاكل الوزارة

* دمجت شركتي الإنتاج والتوزيع في «مؤسسة السينما» وأسندت أمورها إلي «عبدالحميد جودة السحار» بترشيح من «نجيب محفوظ»

* طلبت توفير الاستثمارات لتجديد وإنشاء دور عرض جديدة بالأحياء والأقاليم لإنقاذ الفيلم المصري

* كما طالبت بتجديد رأس مال المؤسسة وتخليصها من أعباء الماضي.. واعتبار الخامات مواد ثقافية.. وإعفاها من الضرائب والجمارك 

كان من الواجب مع كل هذه المحاولات ألا يتوقف الإنتاج السينمائي، كما لم يكن ثمة مفر من استكمال الأفلام التي بُدئ فعلا في إنتاجها وصُرفت عليها مبالغ طائلة، برغم عدم اقتناعي الشخصي بجدوي هذا المسلك، فاستكملت الشركة 15 فيلما من هذا النوع. وإلي جانب استكمال أفلام الشركات السابقة المتراكمة وضعت الوزارة خطة إنتاج لسنة 67/1968 حاولت فيها أن تستغل أقوي الطاقات وأفضل العناصر علي أرض الواقع، فجري اختيار أفضل مجموعة من القصص والسيناريوهات من بين تلك التي سبق التعاقد عليها في السنوات السابقة وتكلف إعدادها مئات الألوف من الجنيهات، فما لا يدرك كله لا يترك كله. ووضعت الوزارة خطة احتياطية ـ إذا تعذر تنفيذ بعض أفلام الخطة الأصلية لسبب أو لآخر ـ وذلك من بين الأفلام التي تم التعاقد عليها في الفترة السابقة علي سنة 1967 حتي لا تضيع أموال الدولة هباء ولا تتجمد أموال المؤسسة في قصص وسيناريوهات لا تتحرك مع اختيار الأحسن بقدر الإمكان. غير أنني لم أتفق في الرأي مع ما جاءني من لجنة الخطة، فوجهت كتابا إلي رئيس المؤسسة انتقد فيه ما أقرته هذه اللجنة، ولم ألبث أن تلقيت رسالة شخصية مستفيضة من الأستاذ «عبدالرحمن الشرقاوي» في الرابع عشر من فبراير 1967 تعليقا علي كتابي الموجه إلي رئيس مجلس إدارة «مؤسسة السينما» جاء فيه:

«راعني أن تكون قرارات لجنة الخطة استمرارا للسياسة التي رسمتها العقلية التقليدية القديمة، وهي السياسة التي أدت بالسينما إلي الانهيار فنا وتجارة، وضربت أعز جهاز من أجهزة الثقافة الجماهيرية ووصلت به إلي الوضع المؤسف الذي تعانيه السينما المصرية اليوم. وإنني إذ أحيي مبادرتكم الثورية المبدعة إلي تحديد منطق ومسار للعاملين في السينما وإلي تحذيرهم من التورط في الخضوع لسلطان النظرة التي أخرت السينما فنا وقادتها إلي حافة الإفلاس صناعة وتجارة، أنا إذ أحيي مبادرتكم الثورية لوضع دستور ومبادئ تلزم العاملين في أخطر أجهزة الثقافة الشعبية، أود أن أتقدم إلي سيادتكم بهذه الملاحظات. هذا الكتاب الذي وزع علي بعض العاملين في السينما بصفة سرية هو في الحق ميثاق ودستور للسينما المصرية، له طاقة المواثيق وأصالة الدساتير. وإذن فيجب أن يناقش في المؤسسة علي مختلف المستويات وفي لجنة الاتحاد الاشتراكي بالمؤسسة.. ليكون من القاعدة الشعبية وممثليها في المؤسسة رقيبا وحسيبا علي أعمال لجنة الخطة لتي يتعين عليها أن تلتزم بما في كتابكم من مبادئ وقيم. بل إنني لأذهب إلي أبعد من هذا، فهذا الكتاب تعبير عن إرادة المثقفين والثوريين وعما يعلّقونه علي السينما من آمال. وهو تعبير عن أحلام شرفاء الناس في سينما مصرية تستصفي نفسها من السوقية والتلفيق والزيف وتحقق الفن والصدق والأصالة. ولهذا فيجب أن يوزع علي الأدباء والمنظمات الثقافية بالاتحاد الاشتراكي.. ونحن بهذه الرقابة الشعبية علي تصرفات لجنة الخطة نعصم هذه اللجنة من الميل أو الهوي، ومما عسي أن يجرّها إليه تصارع المصالح، ونحررها في الوقت نفسه من سلطان العقلية التقليدية القديمة التي هبطت بفن السينما إلي الابتذال ودفعت صناعة السينما إلي حافة الخراب، وأساءت إلي السمعة التي يجب أن يتمتع بها القطاع العام. وجماهير شعبنا تري «مؤسسة السينما» قد عجزت في مدي أربعة أعوام (63/1966) عن إنتاج فيلم واحد ضخم كفيلم «صلاح الدين» مثلا (تم تصويره خلال عام 1961). بل إن المؤسسة في هذه الأعوام الأخيرة قد سارت علي الازدراء بهذا اللون من الإنتاج المشرّف الضخم، وظلت تشهر به، وتقدم أفلاما تتنافس فيها الشركات علي شحنات الإثارة والافتعال وتعرية الأجساد».

وهذه شهادة أعتز بها من رجل عايش الوسط السينمائي معايشة كاملة ولم يبعد عنه قيد خطوة.

غير أن هذه الخطة لم يتم تنفيذها كاملة، إذ حالت دون ذلك ظروف الهزيمة التي لحقت بمصر في منتصف العام والتي تركت ظلالها الكثيفة علي كل نواحي الحياة ومن بينها السينما، ولأسباب أخري فنية، ثم.. لانعدام السيولة. وهكذا كان علي الوزارة أن تغير خططها من جديد، فطلبتُ من الأستاذ ««نجيب محفوظ»» في شهر يونية 1967 اتخاذ سياسة تناسب الموقف الجديد، وذلك بأن تشمل الخطة إلي جانب تعبئة الجماهير تعبئة واعية تعدّها لمرحلة نضال شاقة وطويلة من خلال عدد من الأفلام الإنسانية والتي تمجد القيم الروحية الخالدة في الشجاعة والصبر وتقديس الواجب وترقي بالروح المعنوية للناس بشكل عام، وأن تشمل الخطة أيضا جانبا من الأفلام الترفيهية والكوميدية ذات المستوي الرفيع والاتجاه النفسي السوي. وأضافت أيضا أنه حتي لا يتوقف الإنتاج في الاستوديوهات علينا وضع خطة عاجلة لثلاثة شهور تتسم بالمرونة وتساير الإمكانيات المتاحة حتي إذا ما بدأت عملية الإنتاج السينمائي فور اعتماد الخطة العاجلة تبدأ المؤسسة في وضع خطة التسعة شهور الباقية من السنة، وأوصيته بتشكيل لجنة لاختيار القصص ومراجعة السيناريوهات في المؤسسة تكون مسئولة مسئولية كاملة من الناحية الأدبية والفنية مع إتاحة كل الإمكانيات المادية والصناعية التي توفر للعمل الفني فرصة الإبداع والتحسين، وأشرت بأن توكل هذه المسئولية إلي الأستاذ «عبدالرحمن الشرقاوي».

وفي حقل الإنتاج المشترك كان طابع الحذر هو الواجب الأخذ به بعد التجربة المريرة لشركة «كوبرو»، فلم يتم إنتاج مشترك إلا فيلم «الناس والنيل» مع الاتحاد السوفييتي والذي لم يعرض إلا في أوائل سنة 1972 في مصر والاتحاد السوفييتي في وقت واحد. وعلي الرغم من أهمية الفيلم من الناحية السياسية ـ وعلاقتنا مع الاتحاد السوفييتي وقتذاك علي ما كانت عليه ـ فقد اتخذت كل الاحتياطات من الناحية الإنتاجية، فكان أول فيلم مصري يصوّر 70 ملليمترا، وكانت تكاليف الفيلم مناصفة بيننا وبين الاتحاد السوفييتي علي أن تتم المقاصة بين المصروفات التي تُنفق في مصر وبين تلك التي تُنفق في الاتحاد السوفييتي، أي دون استخدام أية عملة أجنبية. وقد وجدت الشركة نفسها مضطرة ـ إنقاذا لأموالها ـ إلي استخدام جزء من فيلم آخر كان قد بُدئ في تصويره سنة 1964 عن السد العالي وتكلف 14680 جنيها لم ينتفع به، فاحتسبت تكاليف هذا الجزء من بين مصروفات الفيلم لصالح الجانب المصري. كذلك كان أول فيلم مشترك يختار له نخبة من أساطين الفن والأدب المصريين يأتي في مقدمتهم المخرج «يوسف شاهين» والكاتب الأديب «عبدالرحمن الشرقاوي» للاشتراك مع مخرج سوفييتي وكاتب سيناريو سوفييتي، فضلا عن نجوم مصريين لامعين إلي جانب النجوم الأجانب. ومن ناحية التوزيع كان علي الاتحاد السوفييتي أن ينتفع بالتوزيع داخل بلاده فقط علي حين يحق لمصر أن تختص بإيرادات توزيعه في مصر والدول العربية وجميع الدول الاشتراكية في أنحاء العالم، علي أن تتم المحاسبة بأن تُخصم مصاريف التوزيع أولا، ويغطي الصافي أولا مصاريف الجانب المصري، ثم يغطي ثانيا الجانب الروسي، فإذا تحققت أرباح بعد ذلك توزيع بنسبة 60% لمصر و40% للاتحاد السوفييتي. وللقارئ أن يقارن بين هذا الأسلوب وبين أسلوب الإنتاج المشترك في عقود «كوبرو»، إن كان لعقودها أثر.

وفي شهر أبريل سنة 1968 استعرضت أمام مجلس الوزراء موقف كل أجهزة وزارة الثقافة ومن بينها السينما، فأوضحت مراحل عملها وأسلوبه محذرا من نتائج موقفها المالي المتدهور، وقلت إنه: «من المؤسف والطبيعي في آن واحد أن هذا الوضع لم يقابله تحقيق للهدف الأساسي من المؤسسة، بمعني أنها لم تستطع أن تنهض بالفيلم كما لم تستطع أن تعالج مشاكله لأسباب خارجة عن إرادتها وليست الإدارة الحالية هي المتسببة فيه، حتي أصبح هذا الوضع يهدد الفيلم المصري بأن يفقد أسواقه في الداخل والخارج معا. بل المحقق أن احتمالات المستقبل تشير إلي مزيد من الخسائر لا الإقلال منها، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلي زيادة في هبوط مستوي الفيلم المصري». وأعقبت عرضي السريع بأنه إزاء هذا الموقف وحرصا علي أن تلتزم وزارة الثقافة بمهامها الأساسية دون أن يضيع علي الدولة ما يمكن تحقيقه اقتصاديا من الوحدات التابعة لها وإنقاذا لها من البوار، فإنني أقترح أن يعاد توزيع العمل الموكل لمؤسسات الوزارة الثلاث إلي ثلاث هيئات ترعي السينما والمسرح والموسيقي والكتاب العربي تندمج كفروع لوزارة الثقافة تحت ميزانية الخدمات، علي أن تُخصص لها الاعتمادات المناسبة التي تمكنها من أداء رسالتها، ووضع برامج بعيدة المدي للوصول إلي أهدافها، مع تخصيص مؤسسة اقتصادية للمشروعات الثقافية تتولي أساسا توزيع الكتاب العربي في الداخل والخارج، مع نقل الزائد علي الحاجة من المطابع التابعة للوزارة بحالتها وجميع التزاماتها إلي خارج قطاع الثقافة. وفيما يتصل بـ«الهيئة العامة للسينما» اقترحت أن تتولي الإشراف والتوجيه ورفع مستوي الإنتاج السينمائي ورعاية المواهب الجديدة وتهيئة الجو الفني لإنتاج علي أعلي مستوي ممكن، علي أن يقتصر إنتاجها علي نوعين: الأول الأفلام الروائية الكبري ذات المضمون الإنساني والاجتماعي دون الهبوط بالمستوي إلي استدرار الرواج لتغطية النفقات بأي أسلوب، مع إفساح المجال للإنتاج الخاص وفقا لما تضعه الهيئة الجديدة من خطط سنوية. والثاني الأفلام التسجيلية والثقافية وأفلام الأطفال بكل أنواعها لتغطية حاجة المواطنين من الوقوف أولا بأول علي مدي التقدم الذي يتحقق في مجتمعهم والمساهمة في تربية النشء وتكوين أذواقهم تكوينا يساعدهم علي أن يشبوا عناصر صالحة تفيد الوطن. ومما يدعو إلي الرضا أن هذه السياسة هي التي نادت بها وزارة الثقافة فيما بعد خلال السبعينيات علي أنها الحل الأمثل. غير أن الظروف التي تلت الهزيمة فرضت علي الدولة ألا تستجيب إلي سياسة التقليل من عدد الأفلام المنتجة، بل كانت توجيهات الرئيس عبدالناصر لي صريحة كل الصراحة في أن تنتهج الوزارة سياسة الاستطراد في الإنتاج لتشغيل أكبر عدد من الأيدي العاملة والفنانين والفنيين.

البطالة السينمائية

علي أنني أعدت الكرة مرة أخري وعرضت الأمر علي مجلس الوزراء الذي قرر إحالة اقتراحي إلي اللجنة الاقتصادية، التي استقر الرأي فيها بعد جدل مستفيض علي ضرورة تشغيل «مؤسسة السينما» بطريقة اقتصادية بحيث ينتج القطاع العام سنويا ثلث عدد الأفلام المصرية أي بمعدل 27 فيلما والقطاع الخاص الثلثين، وذلك لتشغيل الاستوديوهات والعمالة تشغيلا اقتصاديا. ولم يكن أمامي مفر من انتهاج هذه السياسة مع الحرص الشديد حتي لا تؤدي إلي تبديد المال والطاقات فيما لا طائل وراءه، ومع الحرص أيضا علي اختيار الأفلام من بين تلك التي سبق التعاقد عليها في السنين السابقة وأنفقت عليها الأموال من قوت الشعب، مع انتقاء أفضلها بقدر الإمكان وبعد عرضها علي لجنتي القصة والسيناريو. ولنفس هذه الظروف ـ أعني ظروف الهزيمة ـ أصبح من العسير علي المؤسسة أن تتخلص من العمالة المتضخمة.

ويقتضي الإنصاف أن أعترف بأن سياسة المضي في الإنتاج التي أشار بها الرئيس في سنة 1968 كان لها ما يبررها لعدة أسباب، أولها: تشغيل الأيدي العاملة من الفنانين والفنيين والعاملين والحرفيين الذين لحقتهم البطالة فانقطعت أرزاقهم، خاصة صغارهم الذين لا يحسنون أية حرفة أخري والذين بلغ عددهم بضعة آلاف، توافقا مع سياسة الدولة في أن تيسر لمواطنيها أبواب العمل الشريف وتفتح لهم مجال الرزق. وثانيها: تشغيل الاستوديوهات التي أصبحت تعج بقوي عاملة زائدة علي الحاجة، وذلك لتغطية بعض من نفقاتها اليومية في محاولة لرفع بعض العبء عن خزانة الدولة. وثالثها: استعادة الفنانين والفنيين الذين تعطلوا عن العمل وهاجروا إلي لبنان وأتاحوا له أن ينتج ما يقرب من 43 فيلما لأول مرة في تاريخ السينما اللبنانية. ورابعها: ضرورة المحافظة علي الوجود المصري للفيلم في سوقه التقليدية والتي بدأت تنكمش تحت ضغط الإنتاج المنافس من الهند والبلاد العربية الأخري، بالإضافة إلي العوامل السياسية. وخامسها: وليس آخرها ظروف الهزيمة وما خلفته في أعماق الناس من حزن وخيبة أمل وما تركته من كساد في الحقل السينمائي بالقطاع الخاص، والتأثير المباشر والخطير علي سوق الفيلم المصري في الخارج، خاصة إذا علمنا أن الفيلم المصري كان لايزال يغطي 60% من إيراده من الخارج و40% فقط من الداخل.

وقد نشأ عن المضي في هذه السياسة إمكانية استغلال قدر متزايد من الطاقة الإنتاجية للاستوديوهات، كما بلغ عدد الأمتار التي تم تشغيلها بالمعامل 9 ملايين متر مقابل 6 ملايين في العام السابق، وبلغ عدد أيام التوقف في البلاتوهات في الستة شهور الأولي من عام 1967 ما مقداره 166 «يوم عمل» مقابل 433 «يوم عمل» في المدة المقابلة من العام السابق، وتم تشغيل عمال مؤقتين بلغ عددهم حوالي 1200 عامل، كما تم استيعاب كل خريجي المعهد العالي للسينما.

أثقال الماضي

وهكذا ظلت السينما في خطواتها نحو المستقبل المشنود تعاني من أثقال الماضي التي ترهق خطواتها بكل ما خلفه ذلك الماضي من تقاليد في العمل والفكر. ولم يكن أمام الدولة مع ذلك كله إلا محاولة التوسع في الإنتاج، ولم تعد فلسفة الإنتاج في جوهرها إزاء تلك الظروف فلسفة ثقافية خالصة بقدر ما هي سياسة اقتصادية سياسية اجتماعية، فتجاوزت الوزارة قليلا ـ وفي «جزء» من الإنتاج السينمائي المموَّل ـ عن تكامل المستوي في سبيل الوقوف إلي جانب الدولة ككل متماسك تدفع عنه مشاكل البطالة في صناعة مهمة ومثمرة، وتعيد إلي رحاب الوطن من نزح من فنانيها وفنييها، وتعيد تأكيد الوجود المصري في السوق التي كانت مجالا حيويا لها، وتفتح آفاقا للشباب المصري المتخصص الذي تخرج في معاهدها الفنية. ورغم هذه السياسة التوسعية نسبيا والتي فرضتها ظروف الوطن وقتذاك فإن الوزارة لم تغفل وضع الشروط الصارمة التي تكفل تحقيق الفيلم المموّل للحد الأدني من أهدافه الثقافية والاقتصادية.

لقد كان الأولي من وجهة نظر الثقافة البحتة أن نوجه جهودنا إلي أفلام قليلة العدد من مستوي رفيع تكون نموذجا يحتذي للإنتاج المصري، غير أن انشغالنا بحل المشاكل السابقة وما ترتب عليها من ضياع المال ومشاكل البطالة وإتاحة فرص العمل قد أثرت علي مستوي الجودة التامة في أفلام القطاع الخاص المموّل. والأصل في السياسة الثقافية السليمة هو تجويد العمل الثقافي في كل المجالات، لأن ذلك يشكل القدوة الطيبة للإنتاج الذي يقدمه الغير، غير أننا لو كنا قد قصرنا جهودنا في ميدان السينما علي ذلك الهدف المثالي ـ كما كنا نرجو ـ لترتبت علي ذلك مضاعفات اقتصادية لا قبل لأحد بمواجهتها، وأقل هذه المضاعفات بطالة المشتغلين بالسينما وتعطل الاستوديوهات وتحديد سوق التوزيع الخارجي أمام الفيلم المصري، وفتح مجال منافسته وهو غائب عن الأسواق العربية.

ومع هذا حرصت الوزارة علي الحفاظ علي المستوي الفني والسياسي والاجتماعي للفيلم المصري في القطاع العام، إذ أنتجت من خلال المؤسسة عددا من الأفلام تناقش قضايا سياسية واجتماعية علي جانب كبير من الأهمية، ووفرت لها كل الإمكانات، فاختارت قصص أعظم الكتاب، وأسندتها إلي أقدر المخرجين، ولم تبخل عليها بكبار الممثلين والفنيين. وهكذا هيأت الجو المناسب للإنتاج، ودفعت عجلة العمل، وأتاحت الفرصة للكتاب والفنانين للإبداع، وإن وجدت نفسي مع القائمين علي تنفيذ سياسة الوزارة مضطرين إلي الإرجاء الجزئي لفلسفة الإنتاج السوي التي تقطع دابر كل ما عانته السينما مع تطبيق الحلول الجذرية لها. وقد اجتهدنا ما وسعنا الجهد أن نحيط هذا الأسلوب الجديد الذي فرضته الظروف القاهرة بسياج من الحرص خلال الأعوام التالية، من خلال بذل المزيد من العناية والإتقان وتنظيم قواعد السحب من البنوك علي الاعتمادات المخصصة لشركة الإنتاج، ووجوب مراعاة المستوي الفني والإنساني والاجتماعي للأفلام التي نسمح بإنتاجها في القطاع العام والخاص، وإيقاف التعاقد علي أفلام جديدة إلي ما بعد الانتهاء من الأفلام التي مازالت في مرحلة التنفيذ، ووضع خطة مالية وزمنية لكل فيلم، وصياغة لائحة تحكم إنتاج الأفلام في القطاعين العام والخاص المموّل وتسيطر علي القروض التي تعطي للمنتجين بضمان إيرادات الأفلام، إلي أن انتهينا بتحديد سلفة التوزيع بحيث لا تتجاوز عشرة آلاف جنيه متضمنة خدمات الاستوديوهات مع ضمان استرداد تلك الديون، كما سعيت لدي وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية لتذليل العقبات التي تعترض تسويق الفيلم المصري في الخارج. ونتيجة هذه السياسة التي أنتجتها الوزارة خلال تلك المرحلة القلقة في حياة الأمة أكملت المؤسسة علي مدي 18 شهرا 36 فيلما كلها من الخطط السابقة، واستكملت تمويل 43 فيلما من القطاع الخاص. وقد ترتب علي هذه الموجة من النشاط أن عاد إلي مصر من هجرها من الفنانين والفنيين، وبهذا أربي إنتاجنا عما كان عليه أضعافا مضاعفة.

خدمات إنتاجية

أما فيما يتعلق بالخدمات المقدمة للأفلام الأجنبية فقد عانت المؤسسة عند اتصالها بالمنتجين في الخارج من نتائج تصرفات إدارة شركة كوبرو، ومن منافس جديد قفز إلي الأسواق العالمية هو إسرائيل. هذا فضلا عن ظهور أنشطة سينمائية في الكثير من دول البحر المتوسط ـ منها علي سبيل المثال لا الحصر تونس والجزائر والمغرب وإسبانيا ويوغوسلافيا ـ تجتذب العملاء في مجال تقديم الخدمات بعد أن كان هذا الميدان مقصورا علي مصر وحدها. ورغم ذلك فقد تعاقدت المؤسسة خلال عام 68/1969 مع عدد من الشركات الإيطالية لتقديم خدمات إنتاجية نُفذ منها ما قيمته 285000 ألف دولار.

ومع كل هذه الجهود التي بذلتها الوزارة في الإشراف والتوجيه وتنحية العناصر التي ضلعت في تعويق محاولات الإصلاح في قطاع الإنتاج بشكل عام والتوزيع بشكل خاص ممن وردت أسماؤهم بتقارير الرقابة الإدارية، إلا أنه تعذر إقالة المؤسسة من الهوّة التي سبق وتردت فيها إلا بقدر، وكان ذلك بسبب الظروف التي صاحبت ولادتها والتي أشرت إليها. ومن ثم كان لا مفر أمام الوزارة من أن تعيد النظر في أوضاع المؤسسة والشركتين مرة أخري. وبعد دراسةدقيقة للموقف، ومع استمرار سياسة الإنتاج التي أملتها الظروف كان لابد من إدماج الشركتين في بناء المؤسسة ذاته لمزيد من المركزية وإحكام للعمل وتخفيف للأعباء المالية، تمشيا مع طبيعة الإنتاج السينمائي وتوزيعه. وكان ذلك أيضا ما ارتأه وزير الخزانة في مقترحاته عن الإصلاح الاقتصادي والإداري لقطاع الثقافة في 4 فبراير 1969.

الميراث الصعب

وفي إحدي جلسات مجلس الوزراء خلال شهر أبريل عام 1968 حاول وزير الخزانة تضييق الخناق علي مصروفات وزارة الثقافة، وكان من الطبيعي أن أتصدي مدافعا عن دور الوزارة لأبين أنه بات أشد وضوحا بعد بيان 30 مارس لأن الثقافة لا يمكن ولا يجوز أن تمضي منعزلة عن قيم المجتمع وأهدافه. وأردفت أن المجتمعات الساعية إلي النمو أكثر حاجة من غيرها إلي الثقافة أولا لتطوير الناس كي تصبح في مستوي المسئولية، وثانيا:  لتعويض الناس عن سنوات الحرمان. كذلك المجتمعات العاملة أكثر حاجة إلي الثقافة من المجتمعات الخاملة، فالعامل محتاج إلي تعويض عما يعمل بالثقافة، والفلاح محتاج إلي عزاء عما يبذل بالثقافة، وكل أفراد المجتمع بدورهم محتاجون إلي الثقافة. إلي أن تساءلت ملتفتا إلي السيد وزير الخزانة: «هل يمكن أن نعتبر الثقافة سلعة تجارية تسري عليها القواعد التجارية ومقاييس الربح والخسارة؟.. وهل يمكن أن نحسب تكلفة الإنجازات الفنية كما نحسب تكلفة إنتاج أية سلعة؟.. واستطردت قائلا: في تصوري أن هذا مستحيل لسببين: أولهما أن هذا يخرج الفنان المبدع عن المناخ الطبيعي لإنتاجه، وثانيهما: أن قيمة الإبداع الفني التي يحتويها العمل الفني لا يمكن حسابها بسهولة. ولا جدال في أن الدولة عندما أنشأت للثقافة جهازا إداريا ضخما في شكل وزارة لم تقصد من ورائه أن يكون كمجتمع الحديد والصلب مثلا ينتج إنتاجا تجاريا، أو كمصنع للسيارات مفروض أن يتزايد إنتاجه كميا. بل كان المقصود بلا شك هو أن يقوم برعاية العنصر الإنساني من ناحية فكره ووجدانه ليصب كل ذلك في إرادته. ومعني هذا أن نهيئ الناس لاستقبال مجمع الحديد والصلب والسد العالي باستثمارهما من خلال الثقافة إلي غير ذلك مما لا يغيب عن الأذهان. وكم طالبتُ باسم الوزارة منذ نشأتها في الفترة من عام 1958 إلي 1962 بأن تقدم هي الأخري «خدمة ثقافية» شأنها شأن خدمات التعليم والصحة والإذاعة سواء بسواء. وكانت المؤسسات الثلاث التي أنشأتها هي مؤسسات خدمات مهمتها التوجيه والإشراف وتقديم النماذج الطليعية في كل مجال وتنسيق العمل مع العاملين في كل قطاع. ولكن مع بداية عام 1963 تغيرت الفلسفة، فأصبح للسينما ست شركات واشترت الوزارة استوديوهات شبه خربة وسبعة وستين دار عرض أغلبها في حالة سيئة. وفي مجال النشر جمّعت أكبر طاقة طباعة في البلاد بغير أن تكون لديها طاقة فنية رشيدة لتشغيلها، وكبّلها بأعداد لا حصر لها من غير المؤهلين. وفي ميدان المسرح أنشأت الوزارة تسع فرق مسرحية، وكانت النتيجة خسارة في حقل السينما قدرها 54000.1 جنيه وقروضا قدرها 862،681.2 جنيه. هذا إلي خسائر وتراكم ديون وتأخر في أداء الالتزامات حتي لقد تجاوزت خسائر «مؤسسة السينما» رؤوس الأموال المخصصة لها، كما غدت مدينة بالتزامات أخري وقفت عاجزة عن الوفاء بها. كما بلغت خسارتها في حقل النشر أكثر من مليوني جنيه، بالإضافة إلي تكدس المخازن والدهاليز بما يزيد علي تسعة ملايين نسخة من كتب غير قابلة للبيع. ناهيك عن الاضطراب في مؤسسة المسرح حتي أصبحت الدولة تعينها بقرابة 85% من ميزانيتها. هذا هو الميراث الذي تسلمته في أواخر عام 1966.

الإصلاح

وكان لا مفر من مراجعة الموقف. ففي حقل السينما بدأت بإدماج الشركات الست في شركتين، وفي المسرح أدمجت المسارح التسعة في خمسة، وفي مجال النشر أدمجت كل الشركات في شركتين.كانت هذه هي الخطوة الأولي الضرورية كي تستطيع الوزارة أن تتنفس حتي تصل إلي الإصلاح الجذري. واقتضي ذلك تجارب ومعاناة دامت سبعة عشر شهرا حتي تتغير الفلسفة التي قامت عليها هذه المؤسسات ويتغير المناخ العام، ولم يكن ذلك ليتم إلا بفصل العمل الفني عن الاقتصادي مع الإبقاء عليهما معا. وتفصيل ذلك أن نستخلص من السينما فنونها، وهي ممثلة في المؤسسة وشركة الإنتاج ونطورها إلي هيئة عامة، وأن نستخلص من مؤسسة النشر الجانب الفكري، وهو ممثل في المؤسسة ودار الكاتب العربي ونطورها إلي هيئة عامة، ونطوّر مؤسسة المسرح إلي الوضع الطبيعي الذي ينبغي أن تكون عليه، وهو أن تصبح هي الأخري هيئة عامة وكل مايتبقي بعد ذلك نحوّله إلي جهاز اقتصادي علي شكل مؤسسة تعمل بنفسها أو تضم شركات اقتصادية تعمل بالعقلية التجارية، مثل شركة لتوزيع الأفلام وإدارة دور العرض، وشركة لتوزيع الكتاب والمجلات، وشركة للاستوديوهات وهكذا. بهذا وحده يمكن فيما أري أن نجنب العمل الثقافي والفني طغيان الإلحاح الاقتصادي أو تأثيره، وتضمن الوزارة أن يمضي إنتاجها علي أسس فكرية وفنية لا تدفعها دفعا إلي محاولة كسب السوق بأي ثمن، فمن غير الطبيعي أن تخدم المؤسسات الفنية سيدين في وقت واحد بنفس الولاء: المستوي الفني وشباك التذاكر، ومادام المتفرج يختار بنفسه الدار التي تعرض ما يروقه، فلا مفر في رأيي من الفصل بين الأمرين».

وقد عرضت هذه الإطلالة السريعة علي زملائه الوزراء لكي يروا رأيهم هل الثقافة سلعة أم خدمة؟.. غير أني لم أظهر لا من الأخ وزير الخزانة ولا من السادة الزملاء بحل يحسم الأمر، فسارعت بتقديم مذكرة مستفيضة إلي رئيس الجمهورية عرضت فيها كل مشاكل الوزارة مطالبا إشراك مجلس الوزراء معي في وضع الحلول، فأحال مذكرتي إلي اللجنة الاقتصادية لدراستها نظرا لارتباط مشاكل السينما بالعديد من الوزارات والقطاعات الأخري، وكنت قد ختمت هذه المذكرة بأسئلة واضحة محددة طالبا إجابة صريحة عليها.

جريدة القاهرة في 19 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

د. ثروت عكاشة يروي قصة القطاع العام في السينما

تعليمات من عبدالناصر باستعادة نجوم السينما المصرية من لبنان