عرف »زافاتيني« الواقعية الجديدة بأنها فن المصادفة مصادفة اللقاء بين الناس أو بين الأشياء متحدثاً عن مصادفات مجزأة عابرة، مهشمة، خائبة، وتلك المصادفات اشار إليها في افلام روسلليني ودوسيكا مثل سارق الدراجة وغيرها في الافلام الايطالية لهذه الموجة المسماة بالواقعية الجديدة. في مجموع الصور - الحركة، صورة - أحساس، صورة - فعل، صورة - عاطفة، التي تتسبب في انقلاب بسبب ظهور عنصر مفاجئ يمنع الاحساس في الامتداد وفي الفعل كي يجعله في علاقة مع الفكرة لتخضع الصورة بالتدريج إلى مقتضيات دلالات جديدة تحمل الصورة إلى ما هو أبعد من الحركة، وقد نحا »بازين« بتمسك بوجود معايير شكلية جمالية حيث الواقعية الجديدة تطرح شكلا جديدا للواقع يفترض انه واقع مشتت اضماري، مبهم أو مرتج تسوده علاقات واهية عن عمد، واحداث عائمة رجراجة لم يعد الواقعي مصورا كما هو او منسوخا انما مستهدفا، فبدلا من تصوير واقع مقروء بيسر وكاشف عن خباياه سعت الواقعية الجديدة نحو واقع لكشفه وحل رموزه نحو واقع غامض على الدوام، ومن هنا أسست ما يطلق عليه في العرف السينمائي (اللقطة المرحلة) لتحل محل مونتاج الصور، وهذا الابتكار ما اطلق عليه »بازين« (الصورة - الواقعة) واللقطة المرحلة هي اللقطة التي تصور مرحلة من الفيلم وتروي جزءا متصلا او متشابكا من احداث القصة السينمائية بحيث يعادل المشهد الواحد المصور دون توقف قفزة أو فصلا من النص الفني. وقد استشهد بازين كمثال باللقطة المرحلة من خلال افلام »دوسيكا« لقطة طويلة مشهورة. تدخل الخادمة الشابة المطبخ صباحا، وتقوم بسلسلة من الحركات الآلية المرهقة، تنظيف المطبخ، طرح النمال عن سيل الماء، مطحنة القهوة، غلق الباب بطرف اصابع القدم، وخلال هذه الأعمال اليومية تلتقي انظارها ببطنها المنتفخ بطن امرأة حامل، هنا تبدأ وكأنها اكتشفت بؤس العالم ويظهر هذا من خلال موقف عادي ويومي وخلال سلسلة في الحركات عديمة المعنى لكنها خاضعة الى تخطيطات أولية حسية حركية بالغة البساطة يبرز امامنا موقف بصري صرف، لم يكن لدى الخادمة أي اجابة أو رد فعل، فالعيون والبطن تصادفا، انها مجرد مصادفة، ونرى في افلام روسيلليني خصوصا الرباعية والتي أوصل الواقعية الجديدة من خلالها الى الكمال، تلك الوفرة المتزايدة للمواقف البصرية، الصرف والصوتية من خلال التوسع في غزو فضاء بصري صرف كما في ميدان الرسم لدى المدرسة الانطباعية، وقد يجري الاعتراض كما يطرح دولوز على ان المتفرج هنا يجد نفسه دوما امام وصف، امام صور بصرية وصوتية ولا شيء آخر، لكن ليست المسألة كذلك كما اوضح »جيل دولوز«. المهم كما يقول: ان الشخصيات ذاتها تقوم بردود افعال على المواقف التي تواجهها حتى حين تكون أحدها في حالة عجز مطلق، فإن ما يلتقطه المتفرج هو صور حسية - محركة شارك هو ذاته فيها أكثر أو اقل عبر تماهيه بالشخصيات. فالواقعية القديمة أو وفقا للصورة - الفعل كان للاشياء والاوساط واقع خاص ولكنه واقع وظيفي محدد بدقة من خلال مقتضيات الموقف حتى لو كانت شاعرية بقدر ما هي درامية القيمة الانفعالية للاشياء. كان الموقف يتمدد بنحو مباشر في الفعل أو الانفعال. ومنذ فيلم »فيسكونتي« صارت الامور بالعكس من ذلك، فقد ظهر اتجاه لن يكف عن التطور حيث اخذت الاشياء والاوساط واقعا ماديا مستقلا، حتى اصبح على المتفرج وحده بل وعلى ابطال الفيلم ان يستثمروا الاوساط والاشياء استثمارا بصريا، أي ان يعاينوها بابصارهم هم وان يروا ويسمعوا الاشياء والاشخاص حتى يتولد فعلهم او انفعالهم وان يظهروا بنحو مباغت في وسط حياة يومية موجودة مسبقا فهي سينما استبصارية. وقد جمعت السينما الايطالية في داخلها عباقرة امثال دوسيكا، فيسكونتي وفيليلني، وانطونيوني، سيكوسيا سندوبلازيتي، للويجي زامبا، جسيبي دوسانتس، ريناتوستيلاني، البرتولاتوادا، بيتروجيرمي، فرانشيسكو، وزي، دامانو دامياني، البوبتري، جيلو بونتكورفو، ليليا كفاني وغيرهم، لكل منهم زوايا خاصة للرؤية والاختلاف. فاذا كان الفعل يعوم داخل الموقف أكثر مما ينجزه او يعززه كما هو لدى فيسكونتي في رؤيته المعمقة للانسان والطبيعة لتوحدهما المحسوس والجسدي أكثر مما يتعلق بالصراع ضد الطبيعة أو فيما بين البشر انفسهم في نبع جمالي فني. بينما كان فن انطونيوني يسير في منحنيين، استثمار مدهش للازمنة الميتة التي تستغرقها اليوميات المبتذلة والتعامل مع المواقف الحدية حيث تدفع هذه المواقف لتمثيل مشاهد فاقدة للملامح الانسانية وفضاءات خاوية تمتص الشخصيات وافعالها فلا تحتفظ فيها سوى بوصف جيو فيزيائي أو بجرد احصائي لدى فيليلن لا ينزع المشهد وحده على الطغيان على الواقعي بل ان اليومي المبتذل لا يتوقف عن ان ينتظم في مشهد جوال، والروابط الحسية المحركة تخلي المكان لتعاقب تشكيلات خاضعة لقوانينها الخاصة في الاشتغال، وقد استخلص بارتيلمي اما نغويل صيغة لوصف لاعمال فيليليني الواقعي يصبح مشهدا أو مشهديا ويفتن اللب حقا، اليومي يتماهى مع المشهدي، فقد حقق فيليليني الالتباس المرغوب بين الواقعي والمشهد من خلال نفيه للتباين بين عالمين والغائه ليس للمسافة فقط بل للتمييز بين المشاهد والمشهد، ولان الموقف البصري والصوتي لا يعود ناجما عن فعل ولا يتمرد في فعل، من هنا يتم الحديث عن اشارات جديدة، كالاشارة الدالة على موقف بصري والاشارة الدالة على موقف صوتي، وهذا يحيل الى صور غاية في الاختلاف تشير الى يوميات مبتذلة وحيناً الى حالات استثنائية أوحدية وحينا ثالثا الى صور ذاتية (ذكريات طفولة، احلام، استيهامات تصورات تخيلية حلمية أو هلوسية صوتية أو بصرية) على طريقة فيليلني وحينا رابعا تكون الصور كما لدى انطونيوني صورا موضوعية على غرار معاينة فحص وتحليل الموقف اشبه بمعاينة حادث في حوادث الطريق يحددها كادر هندسي لا يبقي عناصره من الاشخاص والاشياء سوى علاقات قياس ومساحة محولة الفعل هذه المرة الى حركة اشكال داخل الفضاء المكاني. والتمييز بين اليومي وبين المتطرف وبين الذاتي والموضوعي يكتسبان قيمة نسبية فالعالم الذهني لدى شخصية من الشخصيات لدى فافيليني يكتظ بشخصيات متزايدة بحيث يغدو بين ذهني ويفضي عبر تسطح المنظورات إلى رؤية حيادية، وعلى نقيض ذلك نرى لدى انطونيوني الصور الأكثر موضوعية لا تتركب دون ان تغدو ذهنية وتدخل في ذاتية غريبة غير مرئية، فقصة المشاعر تعبر من الموضوعي الى الذاتي منتقلة الى داخل الفرد ومن هنا يرى دولوز ان انطونيوني اقرب الى نيتشه منه الى ماركس فهو المخرج المؤلف الوحيد الذي استعاد المشروع النيشوي في نقد حقيقي للاخلاق بفضل منهجه (السيمبتوماتولوجي) الباحث في الاعراض المرضية. هذه السينما الايطالية الرائعة بأقلامها التي اصبحت علامات مميزة للسينما في القرن العشرين اصابها الضرر وتوقفت عن انتاج روائعها الانسانية فترة طويلة من الزمن نتيجة سيطرة النتاج الهوليودي على اسواق العرض المحلية التي تغطي أكثر من ٠٩٪ من مساحة العرض السينمائية. وقد عانت السينما الايطالية مشاكل عديدة كما عبر عنها رئيس مهرجان البندقية »البيرتوباربيرا« قائلا: انه يجب على السينما الايطالية ان تدرك بانه يلزمها دخول المنافسات على المستوى العالمي لتنهض بنفسها من جديد« وحسب رأيه فان المنتجين يهتمون فقط بالتمويل ولا يلتفتون الى الجودة كما شنت وزيرة الكنوز الثقافية »جوخانا ملاندرى حملة عنيفة على العاملين في القطاع السينمائي مطالبة بخطط جديدة لاخراج صناعة السينما في بلادها من وهدتها كما انها لمحت إلى ضرورة تحرير السينما الايطالية من براثن السينما الامريكية حتى جاء جيل جديد في التسعينات الايطالية من الشباب ذو مواهب ذكية ومغامرون لهم ممارسة متميزة أكثر من الجيل القديم ونتاجاتهم تفتح على افق غني ومتنوع في البداية تحددوا في ثلاثين مخرجا لكنهم بدأوا في تزايد مستمر ينطلقون من تصوير ايطاليا من وراء وصفات اكلات السباغتي التقليدية المعروفة محاولين ازالة الفحولة الايطالية ليكشفوا عن الاعماق بكل حساسيتها وهوسها وارتباكاتها محاولين رد الاعتبار لهذه السينما والتعويض على ما اصابها من ضرر نتيجة سيطرة النتاج الهوليوودي على اسواق العرض، محاولين تجاوز الازمة التي عانت منها السينما الايطالية حيال السينما الاوروبية في كل من فرنسا وانكلترا بسبب شيوع النزعة الاستهلاكية التي اكتسحت كل شيء بسبب ما جاء به الفيلم الامريكي في قيم سطحية مهمشة إلا ان سينما جيل التسعينات الايطالية والتي حملت تواقيع مجموعة المخرجين الشباب امثال المخرج »بابي كور سيكانو« باعتباره الشخص القادر على التعرض لاقدس مقدسات ايطاليا، ولهذا فقد سماه البعض باسم المخرج الاسباني »بيدرو المودوفار« وقد قدم مجموعة مهمة من الافلام مثل »الثقوب السوداء« والمخرج »ريكي تونياتس« مقدما فيلمه الرائع »أرض الكفار«. والمخرجة »جوفانا ادامسى« اكدت ان الازمة السينمائية في ايطاليا ليست مالية انما هي ثقافية في الاساس انطلاقا من ميل الامريكي بشكل خاص والغربي بشكل عام نحو الاقبال على الافلام الايطالية غير المرهقة للأعصاب - فالناس يتوقعون في السينما الايطالية ان تكون على الدوام مليئة بالقرى الجميلة الصغيرة والحياة الوديعة ذات الالفة الاجتماعية الأسرية المتماسكة التي اشتهرت بها هذه البلاد وهذا مستحيل حسب وجهة نظرها لأن ايطاليا لم تعد كذلك. فالسينما تحاول العودة الى تخوم جديدة تتوسم التجريب وملامسة ما هو عصي في حياة شعبها. وهناك المخرج »روبيرتا توري« وفيلمها »تانوحتى الموت« والمخرج باولو فيريزي في فيلمه »عناق وقبل« والمخرج »فرانشيسكو ارجيبوجي«» في فيلمه »اطلاق النار على القمر« وبدأ يدخل على خط المخرجين الكبار امثال »روبيرتوبينيني« صانع فيلم »الحياة جميلة والمخرج الكبير »ايتوره سكولا« الذي قدم تحفة سينمائية »العشاء«. والممثل القدير الذي تحول الى اخراج »ميكيلة بلا جيرو« مقدما فيلمه الرائع »يومورو« »الطماطم« ومخرج افلام الكارتون »لوكا بوفولي« وبفضل هؤلاء المخرجين الذين سوف نقف مع افلامهم على انفراد في المرات القادمة لانهم اعادوا السينما الايطالية لسابق عهدها في تعدد مدارسها ورؤاها وقدرتها على تطعيم خطابها بمواقف سياسية واجتماعية فمازلنا نذكر عبور الدبابة الامريكية على جسد الرجل الايطالي الذي ركض ليحيى الفاتح والمنقذ ومازلنا نذكر قول »ممنوع التصوير« في فيلم »الجلد«. الأيام البحرينية في 19 أكتوبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
الواقعية برؤى التسعينيات عبدالله السعداوي |