شعار الموقع (Our Logo)

 

 

نادرا ما اقتربت الحياة من صورتها على الشاشة كما هي عليه الحال في الفيلم التسجيلي، «أولاد أرنا»، للمخرج الفلسطيني - الإسرائيلي جوليانو مير خميس الذي عرض أخيرا على شاشة قناة «أرتي» الفرنسية - الألمانية. فهذا العمل الفريد والرائع يقدم على مدى 15 عاما، هي مدة التصوير، وقائع عيش والدة المخرج أرنا مير خميس المناضلة الإسرائيلية المعادية للصهيونية، من خلال عملها التثقيفي والتدريسي مع أطفال مخيم جنين بدءا من الانتفاضة الأولى مرورا بوفاتها بمرض السرطان في العام 1995 وصولا إلى انتفاضة الأقصى والمصير المأسوي لأولاد أرنا الذين استشهدوا في معركة المخيم أو قضوا في عملية فدائية داخل إسرائيل أو اغتيلوا على يد الجيش الإسرائيلي.

ولدت أرنا مير في فلسطين خلال فترة الانتداب البريطاني لعائلة يهودية تسكن مستوطنة روشبينا في الجليل، وانضمت في بداية شبابها إلى قوات البالماخ الصهيونية، لكنها في أعقاب إنشاء دولة إسرائيل انتسبت إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي وتزوجت من رفيقها في الحزب، المثقف والصحافي الفلسطيني ابن مدينة الناصرة صليبا خميس، وأنجبت له ولدان هما جوليانو وسبارتاكوس. مع تفجر الانتفاضة الأولى وتوقف الجهاز التعليمي الفلسطيني عن العمل في مخيم جنين بسبب الاجتياح الإسرائيلي، أتت أرنا إلى المخيم في العام 1989 وأنشأت جهازاً تعليمياً بديلاً سمّته «بيت الطفل» وشرعت تعلم أولاد المخيم الرسم والتمثيل والمسرح وغيرها من الفنون. وحصلت أرنا على جائزة نوبل البديلة من البرلمان الأسوجي تقديراً لعملها في المخيم، وعلى الفور استثمرت أرنا الخمسين ألف دولار قيمة الجائزة لبناء مسرح داخل المخيم. وبمساعدة ابنها جوليانو الذي يمتهن التمثيل تم تشكيل فرقة مسرحية من أطفال المخيم، أخذت تتدرب على تقديم مسرحية «القنديل الصغير» لغسان كنفاني. ومن محاسن الصدف أو من فطنة جوليانو فإن الكاميرا كانت رفيقته خلال مراحل التدريب على المسرحية وأثناء تقديم العرض النهائي على خشبة المسرح، كما أن عدسته سجلت لحظات حارة من علاقة أرنا بالأطفال. في أوائل التسعينات أصيبت أرنا بمرض السرطان وأصبح موتها محققا، الأمر الذي دفع بابنها إلى مواكبتها بكاميراته في فترة حياتها الأخيرة وخلال عملها في جنين، وذلك بغرض تحقيق فيلم تسجيلي عن والدته وأطفال جنين.

توفيت أرنا في العام 1995 وأغلق المسرح وتوقفت معظم نشاطات «بيت الطفل» بعد فترة وجيزة من غيابها، وعاد جوليانو إلى نشاطه كممثل وابتعد عن المخيم وركن أرشيفه المصور واستجاب وصية والدته التي لم ترغب في أن تصور كبطلة في أي فيلم. هذا على الرغم من أن الكاميرا ظلت ترافقه حتى اللحظة الأخيرة داخل براد المستشفى حين يستعيد المخرج جثمان والدته.

في نيسان من العام 2002 عاد جوليانو إلى المخيم بعد أيام قليلة من المعركة التي أدت الى تدمير جزء كبير من البيوت وانتهت بدخول الدبابات والجرافات الإسرائيلية إلى قلب المخيم الذي صمد 12 يوما. عاد جوليانو إلى جنين ليكتشف أن معظم أعضاء الفرقة المسرحية التي دربها وصورها بكاميراته، إما قتلوا وإما أصبحوا على قائمة المطلوب تصفيتهم على يد الجيش الإسرائيلي. فجأة وفي ظل الاحتلال والقتل تحولت خشبة المسرح خشبة حياة، وتحول معها الممثلون من أطفال يعلبون أدوار الملك والوزير والحاجب في المسرحية، إلى مقاتلين تتقاسم حيواتهم أدوار الشهيد والبطل والملاحق في الحياة الدنيا. ومن جديد حمل جوليانو سلاحه الوحيد، الكاميرا، وعاد إلى فيلمه ليصور أبطال مسرحه القدامى وهم يلعبون هذه المرة على مسرح الواقع لعبة الحياة والموت في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

أولاد أرنا

زكريا، علاء وأشرف، يوسف ونضال، هؤلاء هم أولاد أرنا الذين تتبعهم الكاميرا منذ نعومة أظافرهم حتى ريعان الشباب والموت. من بينهم جميعا لم يبق حيا اليوم إلا زكريا، القائد الحالي لكتائب شهداء الأقصى في الضفة والمطلوب الأول على قائمة الموت الإسرائيلية. الفيلم لا يستدر العواطف ولا يوظف انفعاليا الشحنة التعبيرية الهائلة للصور المأخوذة على مسافات زمنية متباعدة. إنه منذ البداية يكشف للمشاهد عن هذا الأرشيف المرئي ويستخدمه في سرد صيرورة هؤلاء الأطفال - الشباب وسيرورتهم في رحلتهم بين الحياة والموت. ففي الفسحة بين صورة الطفل علاء الجالس يتأمل بحزن أنقاض منزله الذي هدمه الاحتلال خلال الانتفاضة الأولى، وصورة الشاب علاء يحمل رشاشه متفاخرا وممازحا في عز انتفاضة الأقصى، وصورة الشهيد علاء جثة هامدة ومتفحمة في المستشفى يحيط بها أهله ورفاقه المنتحبون، في الفسحة بين هذه الصور المتشعبة ينسج الفيلم قصته عن معنى الحياة على الشاشة، وعن الحياة التي تترك بصماتها المدماة على شريط الفيلم.

مشاهد الفيلم تنتمي في المجمل، على تداخلها السردي، إلى ثلاثة أزمنة: زمن الانتفاضة الأولى وأطفال أرنا في مقتبل العمر بين السابعة والتاسعة، وأرنا لا تزال في صحة جيدة. من ثم يأتي زمن بداية أوسلو وأرنا فقدت شعرها بعد إصابتها بالسرطان وأطفالها أصبحوا مراهقين في حدود الثانية عشرة من العمر يحلمون بالحياة والحرية والمسرح. أخيرا زمن إنتفاضة الأقصى، بعد رحيل أرنا بسنوات حيث أصبح أطفالها مقاتلين أو شهداء يحيط بهم الدمار من كل جانب، وابنها جوليانو عائد إلى المخيم بعد اجتياحه، لتقصي مصير أولاد الفرقة المسرحية وتصوير من تبقى منهم في حياتهم الجديدة.   

أولاد أرنا نراهم في البداية أطفالا بين السابعة والتاسعة من العمر يحيطون بها ويتعلمون منها كيفية التعبيرعن غضبهم وعدم إبقائه حبيس النفوس. علاء الذي دُمِّر منزله ومعه منزل جاره وصديقه أشرف جزئياً. نراه خجولاً لا يجرؤ على الكلام. أرنا تسأل علاء وأشرف عن شعورهما بعد هدم منزلهما وتقول لأشرف: لو طلع بيدك أن تفعل شيئا ماذا كنت تفعل؟ يجيب أشرف بدون تردد: سأقتلهم. وتبادله أرنا الجواب بسرعة: «يلا أنا الجيش تعال وفش خلقك». يهاجمها أشرف ممازحا وتطلب أرنا من الأطفال أن يمزقوا الأوراق التي بين أيديهم وتقول لهم: «لما نحنا زعلانين لازم نعبر عن زعلنا ونطلعه. عملتوا هيك لأنو زعلكم عميق». ولا تلبث أرنا أن تطلب من الأطفال التعبير عن مشاعرهم من خلال الرسم والألوان. نرى مجددا الطفل علاء يرسم حطام منزله يرفرف فوق انقاضه العلم الفلسطيني. وإذا كان علاء فضّل دروس الرسم ولم يختر المسرح، فإن صديقه اشرف سينخرط في الفرقة المسرحية وسنراه يتابع البروفات مع صديقه يوسف، وسيتقاسمان معاً دور البطولة. وفي مشهد من الفيلم، مأخوذ عن التلفزيون الإسرائيلي، والذي هو عبارة عن حديث مع أعضاء الفرقة بعدما حققت مسرحيتهم نجاحا ملحوظاً، يقول أشرف للصحافي الإسرائيلي الذي سأله عن دور المسرح في حياته: أشعر وأنا أمثل كأني أضرب حجراً ومولوتوفاً وأشعر بقوة وفخر وعز.

مصير الأولاد

عندما يعود جوليانو إلى مخيم جنين في نيسان من العام 2002 سيكون في إنتظاره علاء الذي أصبح قائداً لكتائب الأقصى في المخيم. وسيخبر علاء المخرج العائد أن أشرف رفيقه وجاره استشهد في معركة المخيم، وأن يوسف ونضال، طفلي المسرحية الآخرين، نفذا عملية فدائية في العالم 2001 وفتحا النار على المارة في مدينة الخضيرة قبل أن يقتلا على يد الشرطة الإسرائيلية. ويستعين المخرج بمادة تلفزيونية من الأرشيف تندرج في منطق الصور المستعادة والمسافرة بين أزمنة الفيلم المختلفة. فنرى كفناً أبيض كتب عليه اسم الشهيد أشرف أبو الهيجا وهو يوضع في شاحنة مع بقية جثث معركة جنين ليدفن في مقبرة جماعية، ونشاهد شريطا مصورا ليوسف ونضال الملتحيين وهما يتلوان وصيتهما ويواسيان أهلهما ويزفان روحيهما إلى الجنة ومن خلفهما بدا شعار منظمة الجهاد الإسلامي. ويعرض المخرج لصور العملية الفدائية في مدينة الخضيرة ولجثة نضال خلف مقود السيارة وجثة يوسف ممددة على الأرض.        

أما زكريا وعلاء اللذان كانا على رأس كتائب الأقصى خلال معركة جنين، فانهما نجوَا بأعجوبة من موت محقق، حيث بقي زكريا مدفونا بين الأنقاض في آخر خمسة أيام من المعركة، في حين اعتقل علاء وأطلق سراحه لعدم معرفة الإسرائيليين بهويته الحقيقية. وفي فترة ما بعد المعركة داخل المخيم المحاصر والمهدم، ترافق كاميرا جوليانو مجموعة زكريا وعلاء في لعبة الكر والفر مع الجيش الإسرائيلي، وتصورهم وهم يزرعون القنابل ويفتحون النار على الجنود، كما ترافقهم في الليل إلى مخبأهم حيث ينامون وتسجل حواراتهم ومزاحهم فنسمع زكريا يمازح علاء ويعيب عليه خروجه من بين الأنقاض شبه عار. بين الجد والهزل يسأل جوليانو علاء هل يرضى بأن يسلّم نفسه من جديد وقد أصبح على رأس قائمة المطلوبين وبيته مهدد بالهدم فيجيبه: «البيت ليس أغلى من دم الشهيد، لن يمسكوا بي. على القبر يا بلاش». وإلى القبر نشاهد علاء محمولا على سواعد رفاقه، في حين اختلط نحيب أمه بصيحات التكبير. وينتهي الفيلم بمشهد مجموعة من الأطفال الصغار تنشد الأغاني الفلسطينية وتحتشد فوق ركام منازل المخيم في مواجهة الكاميرا ويأتي صوت جوليانو ليخبرنا أن علاء رزق قبل أسبوعين من وفاته بابن سماه زياد.

الصورة المغايرة

يشكل فيلم جوليانو خميس حالة نادرة في فئة الأفلام التسجيلية من حيث علاقة الصورة بالواقع وأسلوب المعالجة البصرية. فبفضل مثابرة المخرج وقربه من شخصياته، وبفضل حرصه على ديمومة زمن التصوير وعلى تواضع الكاميرا وابتعادها عن جمالية الصورة المجانية واستعراضية المشهد الزائفة، يقدم لنا جوليانو خميس فيلما في غاية الأهمية والعمق عن الانتفاضة والعنف والموت. إنه فيلم الانتفاضة الأهم الذي يخرج المشاهد من روتين نشرات الأخبار التلفزيونية وصور القتلى والجرحى وتعداد الضحايا الذي لا يتوقف ازديادا، ويدفع به إلى آفاق أوسع يستطيع فيها أن يعطي أسماء الشهداء والملاحقين بعدها الإنساني وأحلامها المدمرة وسيرتها الفردية، وأن يفهمنا كيف يتحول الأطفال الأبرياء مقاتلين أشداء. وللمفارقة فأسماء علاء وزكريا وأشرف ويوسف تتردد تباعا في الفيلم من دون الإشارة إلى أسمائهم الكاملة، ومع ذلك يشعر المشاهد كأنه يعرف هؤلاء الفتية في العمق. أما عندما توضع أسماؤهم الأولى في محرك البحث على الأنترنت مقرونة بإسم مخيم جنين تظهر لك بسرعة أسماءهم الكاملة: أشرف أبو الهيجا، نضال ويوسف سويطي، علاء الصباغ، زكريا الزبيدي، وتكتشف سريعاً أنك قرأت أسماءهم وسمعتها عشرات المرات في الصحف ومن خلال نشرات الأخبار من دون أن تعيرها انتباها كبيراً. فهي حلقات من سلسلة لا تنتهي لأسماء المعتقلين والشهداء والملاحقين التي تسمعها تتردد، صباح مساء، في الإعلام الرتيب منذ بداية انتفاضة الأقصى. أما مع فيلم «أولاد أرنا» فإن هذه الأسماء تأخذ حقها الكامل في الخروج من دائرة الاسم والصورة إلى دائرة الحياة.

فالشريط المصور الذي بثته العديد من الأقنية الفضائية في أعقاب عملية الخضيرة وظهر فيه يوسف ونضال يتلوان وصيتهما ومن خلفهما بدا شعار «سرايا القدس» التابعة للجهاد الإسلامي وصورة فتاة قتيلة مسجاة بدمائها، يبدو كغيره من أشرطة الاستشهاديين. لكننا مع فيلم «أولاد أرنا» نكتشف، من خلال أصدقاء يوسف الذي شاهدناه طفلا مليئا بالحياة وشابا مرحا، أنه قد انقلب رأسا على عقب وبات كثير الشرود والحزن بعدما حاول إسعاف الطفلة رهام أبو الورد، ذات العشر سنين، التي أصابتها قذيفة دبابة وهي جالسة في صفها الدارسي، وماتت بين يدي يوسف وهو يحاول عبثا إنقاذها. بعدها بأشهر نفذ يوسف عمليته الإستشهادية وكانت صورة الطفلة رهام وراءه وهو يقرأ وصيته المسجلة. وفي الإطار نفسه يشرح محمود للمخرج حال صديقه يوسف قبل العملية فيقول: «بقي سنتين من زمن الإنتفاضة وهو حاسس حاله في سجن فزهق وفش خلقه. منظر البنت ميته بين يديه أثر فيه ولم يستحمله. أخوه مات في الدار من دون أن يفعل شيئا. فقال لنفسه إذا أردت أن تقتلني فدعني أموت كما أشاء».

الفيلم هنا يكسر الصورة النمطية للإستشهادي، لكنه لا يبرر العمليات الانتحارية ولا يدينها على المستوى السياسي العام، بل هو يحاول أن يبين على المستوى الفردي كيف يتحول يوسف، الطفل الوديع الذي يحلم بالمسرح والحرية، إلى مقاتل لم يعد لديه شيء ليفقده بعد كل الذي عاناه وعاشه من عسف الاحتلال وجرائمه.

التباس الهوية

من القضايا المهمة والجريئة التي يطرحها هذا الفيلم بالنسبة الى طبيعة الصراع العربي - الإسرائيلي، تأتي في المقدمة قضية الهوية والتباسها. فالمخرج جوليانو مير خميس هو مواطن إسرائيلي مزدوج الهوية كونه يعتبر من فلسطينيي الـ 48 لجهة والده، لكنه في الآن نفسه يهودي إسرائيلي في نظر قوانين الدولة العبرية كون والدته يهودية إسرائيلية. يضاف إلى هذا أن والديه يجتمعان على معاداة الصهيونية والانتماء العلماني إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي. أما بالنسبة الى آراء جوليانو نفسه فإنه سبق له أن صرح لإحدى الصحف بالآتي: «كان هدفي من الفيلم التفتيش عن أمل ومحاولة دحر سيطرة الصهيونية. لم أبحث عن التعايش العربي اليهودي البائس. يجب أن نعيش أولا قبل التعايش... أنا أؤمن، كما آمنت أرنا، بأن السلام لن يأتي إلا بزوال الاحتلال ودحر الصهيونية من أساسها وإقامة دولة مستقلة وعلمانية يسكنها الشعبان من دون حواجز أو جدران».  

لكن إذا كان هذا رأي جوليانو فكيف ينظر أبناء مخيم جنين إلى جوليانو وأمه اليهودية؟

قد يستغرب القارئ الذي لم يتمكن من مشاهدة الفيلم، إن قلنا له إن أهالي مخيم جنين، بأطفالهم ونسائهم ورجالهم، وبرغم كل معاناتهم مع الاحتلال، ظلوا قادرين على التفرقة بين اليهودي، بل والإسرائيلي، المتعاطف معهم والمؤيد لحقوقهم، وبين الاحتلال وجنوده. وإذا كان جوليانو ظل يهوديا وابن يهودية في نظر أبناء المخيم، فإن هذا لم يمنع أهالي المخيم من اعتباره واحدا منهم ومن فتح ابواب بيوتهم على مصراعيها له. ومن المشاهد العميقة الدلالة في الفيلم ذلك المشهد حين يعود جوليانو إلى المخيم بعد اجتياحه ويتحلق من حوله الجيل الجديد من الأطفال وأمهاتهم ونرى أماً محجبة تقول لطفلها المستغرب: «إنه يهودي، هذا عمو يهودي». في حين تقول سيدة أخرى لجوليانو: «أرنا صاحبتي كتير، الله يرحمها، إنجنينا عليها كتير».

في مكان آخر من الفيلم نسمع حواراً بين جوليانو وأطفال المسرح الذين يسرون له كيف ظنوه في البداية جاسوسا للاحتلال يريد جمع معلومات عن المخيم. ونسمع يوسف الصغير يقول لجوليانو: «أنا فكرت أنو العرب ما في حدا منهم حاول يعمل معنا هذه الشغلات، فكيف اليهود أعداء العرب! أنا استغربت في البداية ولكن بعدما اختلطت معكم وجربتكم وعرفت من أنتم، بدون مبالغة أنا كنت أعز أرنا زي أمي وأكثر شوي كمان، وأنت زي أخ أو أب لي».

يوسف هذا، وبعدما كبر وعاش ما عاشه، قرر أن يضحي بنفسه ويفتح النار على الإسرائيليين في مدينة الخضيرة. لم ينس جوليانو وأرنا ولم يغير رأيه فيهما. بل أنه ودع أصدقاءه في المخيم من دون أن يخبرهم بما هو مقدم عليه، واتصل ايضا بجوليانو لوداعه وسؤاله عن أخباره.    

أما أرنا فلم تمنع هويتها الأصلية الفلسطينيين من اعتبارها واحدة منهم. ويكفي قراءة رسائلهم على الموقع المخصص لأرنا والفيلم على الأنترنت، لإدراك مدى التماهي الذي يجمعهم بها. فنستطيع أن نقرأ مثلا عبارة «إلى جنات الخلد أيتها الراحلة أرنا» أو «القديسة أرنا ألف بسم الله عليك والفاتحة على روحك». وإذا كان جوليانو رفض، كما يقول، أن تدفن أمه في المخيم خوفا من بقاء الجيش الإسرائيلي نهائيا في المكان بحجة وجود رفات إمرأة يهودية فيه، فإن أرنا أبت وهي على سرير الموت، ألا أن تأتي إلى المخيم لوداع أولادها. ومن يرى الاستقبال الذي خص به أهل المخيم أرنا، وكيف غطت رأسها بكوفية فلسطينية وخانتها دموعها وهي تنتقل من حضن فلسطيني إلى آخر، يدرك أن الهوية الفلسطينية لا تورث بالدم ولكن تكتسب بمقاسمة لقمة العيش وإرادة الحياة .

النهار اللبنانية في 17 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

“أولاد أرنا” فيلم للإسرائيلي جوليانو مير خميس

الهوية الفلسطينية تكتسب أيضا بتقاسم إرادة الحياة

محمد علي الأتاسي