شعار الموقع (Our Logo)

 

 

قد يكون مفيداً أن يعود المشاهد الى بعض الأفلام القديمة ليكتشف أنها لا تزال جديدة وحية فينا. في هذا المقال، يعود زميلنا البغدادي الى غزل البنات ، أيام زمان، مع الوحش نجيب الريحاني و أسطورة فن التقمص الممثل زكي رستم، وسيدة الطرب ليلى مراد.

بغداد...

ربما كان فيلم غزل البنات واحداً من أفضل الأفلام العربية. وربما كان الوحش نجيب الريحاني واحداً من أعظم الممثلين العرب، الى جانب أسطورة فن التقمّص الممثل زكي رستم. وإذا كان الأخير قد ذاب في تقمّصه تماماً إلى حد الاحتراق، فإن الوعي الذي يبديه أو يشيعه الريحاني في كل لحظة أو مشهد من فيلم غزل البنات ، يتسبب للمشاهد - حتى في هذا الوقت - بصدمة معرفية ممتعة وطازجة. إذ من الصعوبة الفصل بين شخصية الأستاذ حمام والممثل نجيب الريحاني؛ الفنان الذي يناضل ويجاهد في فنه ليصل إلى اقصى درجات التعبير عن الحصار الذي يواجهه الإنسان المصري العادي في سبيل حياة فضلى.

في الفيلم، نشاهد حمام محاصراً بالفقر والقبح والتقاليد الصارمة لطبقة وسطى ناهضة. انه كالثور المقيدّ. يريد ان يحطم قيوده في كل لحظة، ينقل الينا إحساساً مستمراً بالطاقة الكامنة في داخله. واذا كان يعمل في اشرف مهنة - بحسب اعتقاده - فإنه عرضة للسخرية والفشل المستمرين مع الصغار والكبار. وهو يكشف عبر مشاهد الفيلم عن المجتمع الرازح تماماً تحت أغلال من الطبقية والفقر، التي لا فكاك منها، كما لو كنا في تراجيديا اغريقية. وهذا مفتاح لنا، فنجيب الريحاني ممثل تراجيدي بمعنى الكلمة، وتخدمه قسمات وجهه القاسية وصوته الأجش، والسخرية السوداء من الأقدار والأوضاع الاجتماعية التي يكون هو أول ضحاياها. انه فيلم عن المفارقات، - وأي مفارقات - مفارقات حياتنا القاسية الصعبة، والفشل الذي يلازم الناس في حياتهم العملية.

الفيلم في وجه عام، يخيّم عليه ظل الطبقات الأريستوقراطية وتحكّمها بكل شيء، حتى بالاسم الشخصي للإنسان. فمهما يحاول الباشا ان يكون لطيفاً أو ظريفاً، ومهما تحاول ابنة الباشا التقرب من حمام، فإن المشاهد لن ينخدع أبداً. حمام قابل للطرد في كل لحظة من عمله الى الشارع الذي جاء منه. لكن الأستاذ حمام يعتقد - مثل معظم  أبناء الطبقة الوسطى - ان الصعود الاجتماعي يكون بالعلم والعمل والأخلاق الفاضلة والصرامة في المظهر والسلوك. لكن محمود المليجي يكشف لنا عن طرق أسهل و أسرع للوصول الى الأعلى، معتمداً على سحر شيطاني، وعلى معرفة اكثر عمقاً بالطبيعة شبه الإجرامية لمعظم المجتمعات الطبقية.

ان التجهّم والقسوة اللذين يبديهما حمام قد يطغيان على الفيلم لولا وجود الساحرة الصغيرة ليلى مراد، التي تجعل من الجميع مطيّة ومركباً لتحقيق أحلامها العاطفية. فهي تتلاعب بأستاذنا في صراع مثالي للأضداد، وتجعله يغادر طبيعته الصارمة لأول مرة في حياته. وعلى عكس حمام تماماً، فان ليلى مراد؛ جميلة وشابة وغنية جداً ولا يهمها إلاّ اللّهو والبحث عن الحب. ان الاستعراضات الغنائية الرائعة تكشف لنا جمال الحياة الأريستوقراطية، ربما بما يصدم المشاهدين في كل مكان وزمان، وليس الأستاذ حمام وحده. النتيجة، ان كل شيء يدعو حمام لأن يفكر في الحب، فهو أهمّ من باقي الأشياء، إذا كانت حياتنا أو أقدارنا غير قابلة للتغيير.

ان الدعوة إلى الحب في السينما المصرية - بالرغم من كل سلبيات التعبير عنها وسطحياتها - تظل نشاطاً والتزاماً دؤوبين لهذه السينما بما يخفف من شروط الحياة القاسية التي يعيش فيها الفقراء وبسطاء الناس. في الحقيقة ان هذا هو الشيء الوحيد المسموح لأن تبشر به هذه السينما. وضمن هذه الثيمة التقليدية والمكررة استطاع الفنان أنور وجدي، مخرج الفيلم، صنع عمل تمتزج فيه الرومنسية والكوميديا والنقد الاجتماعي الأخلاقي بطريقة سلسة، لذيذة، بعيدة عن الميلودراما، قريبة من نفوس المشاهدين الى أبعد الحدود. عمل خالد سيبقى في الذاكرة السينمائية العربية الى عقود طويلة.

في مغامرة ليلى العاطفية القصيرة هذه، يتعلم الأستاذ حمام أو يكتشف جزءاً مهماً من حقيقة المجتمع الطبقي؛ حياة الليل وفرسانها ودسائسها، وكذلك أبطال الصدفة المحضة الذين تُناط بهم مهمة إنقاذ ليلى؛ ونقصد الضابط أنور وجدي الذي قد يرمز إلى القوة السياسية الصاعدة للجيش المصري في نهاية العهد الملكي الطويل. وبالفعل ينجح أنور وجدي في إنقاذ ليلى، لكننا لن ننسى أبدا ما فعله حمام من أجل ان يستنهض همّته ويدفعه إلى القتال من أجلها، كما لن ننسى الضرب والإهانات والسخرية التي تعرض لها حمام من أتباع المليجي. لن ننسى قلقه غير المعلن من احتمال تعلّق ليلى بأنور، وهو محق تماما في ذلك لانه - وكذلك المشاهدين - لن يعلموا أبداً حقيقة أنور، اقصد السينمائية طبعاً.

يبدو الأستاذ حمام منفعلاً وغير راضٍ عن أي شيء، بعكس الانسجام الذي بدأ يسود بين ليلى وأنور. لربما يحتاج حمام إلى درس آخر، مختلف بعض الشيء، في منـزل يوسف وهبي، الفنان الأريستوقراطي، حيث يسجل محمد عبد الوهاب أحدث أغنياته. وقد يبدو هذا المشهد بالنسبة الى بعض الدارسين، مقحماً في الفيلم، أو ما يشبه مغامرة حلمية مضافة اليه، إلاّ ان المشهد جميل جداً، والأغنية تحفة فنية رومنسية خالدة. ورغم الجو الطقوسي والرهبة في منـزل يوسف وهبي، فان الانفعال والهياج اللذين يبديهما الريحاني ينجحان تماماً قي إلقاء الضوء على الطبيعة الأريستوقراطية والنخبوية لهذا الجو الفني الخالص. واخيراً، يستسلم حمام تماماً للصوت الآسر وللجَوق الملائكي الصادح في شبه طقوسية روحانية، ولكلمات الحب الخالد.  وأخيراً يبكي بحرقة على كل شيء في حياته، إذ يبدو انه قد أدرك في النهاية حقيقة القدر الأبدي المهيمن على حياة الفقراء!

سيظل الفقراء يزدادون فقراً والأغنياء يزدادون غنى، وسيظل للحب دوماً قصة أخرى.

النهار اللبنانية في 17 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

فــي

“غــــــزل الــبــــنـــات”

يوخنا دانيال