شعار الموقع (Our Logo)

 

 

في اختصار شديد يمكن القول ان استضافة العالم العربي في معرض فرانكفورت للكتاب, كانت ناجحة, ولكن في شكل يختلف عما كان متوقعاً: نجحت في جمع العرب بالعرب, من دون ان تحقق النجاح نفسه في مجال كان هو المنشود: جمع المثقفين العرب بالمثقفين الألمان. كان هناك بعض الألمان طبعاً, لا سيما من غلاة المهتمين بالقضايا العربية, ومن افراد قلة يستثير فضولها هذا الشيء الغريب الذي اسمه ثقافة عربية. ولكن نسبة هؤلاء جميعاً, الى عدد الضيوف والمشاركين العرب كانت مضحكة. وكان طريفاً مشهد هؤلاء وهم يحاولون, بابتسامات صفر غالباً, ان يخفوا خيبة املهم, هم الذين كان الواحد منهم اتى وكله اعتقاد بأن الغرب سيهرع لسماعه او التعرف إليه. وكان محزناً في الوقت نفسه مشهد الصالات الخاوية التي اقيمت فيها ندوات وصل عدد حضور بعضها الى شخصين او ثلاثة!

ومع هذا... لا بأس! قال كثر. إنها تجربة اولى. وقال آخرون: لعله كان من الأجدى إقامة مثل هذه التظاهرات في المدن العربية نفسها. وإنفاق ما صرف عليها هنا في نشر اعمال عربية وتوزيعها مجاناً على اناس... لعلهم يقرأون, فيحضرون في مرات مقبلة.

زحام غير متوقع

غير ان ما نقوله هنا عن حظوظ الأدب والفنون التشكيلية ونشر الكتب والمحاضرات, لا ينطبق على ميدان آخر, شهد حضوراً كثيفاً ومدهشاً: الفن الاستعراضي في شكل عام. مع ملاحظة اساسية وهي ان النماذج التي بدت اكثر نجاحاً وجذباً, قدمت كلها خارج مباني المعرض الفرانكفورتي! ولعل النماذج الأكثر دلالة الى هذا, تكمن في الحفلات الفنية التي قدمت, في اكثر من قاعة اوبرا, والتظاهرات السينمائية, ناهيك بندوة عن ابداعات المرأة العربية, قدمت في متحف ثقافات العالم من دون ان ننسى العرض الافتتاحي للعروض السينمائية, على رغم غياب يوسف شاهين الذي افتتحت العروض (التي ستدوم ستة اشهر) بفيلمه الأخير "اسكندرية - نيويورك" وحلول الفنان محمود حميدة, بطل الفيلم, مكانه.

هذا الافتتاح, وكذلك العروض السينمائية المقبلة, ثم في متحف السينما في فرانكفورت نفسها, وسبقه افتتاح معرض لملصقات وصور السينمات في اربع دول عربية هي لبنان وسورية ومصر وتونس. صور رائعة بعضها نادر, وملصقات استثارت حنيناً ودهشة لدى جمهور غصت به القاعة وبدا فضولياً ومتفهماً الى اقصى الحدود. طبعاً معظم هذا الجمهور لم يتنبه الى الأخطاء الفظيعة التي ارتكبت في لوحات المعرض وجعلت جان شمعون "سينمائية" لبنانية, وحولت اسم برهان (علوية) الى برهانة, وجعلت لبنان ملتقى للحضارة الإسرائيلية (!), وأنزلت صورة الممثلة المصرية الطفلة فيروز مع نص على مطربة لبنان الكبيرة, وأعطت فريد الأطرش وشقيقته اسمهان جنسية لبنانية تعز على خلق الله جميعاً عادة. معظم الجمهور لم يتنبه الى هذا, لكنه في الوقت نفسه ابدى دهشته اذ فضل امين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى ان يخطب بالإنكليزية, بدلاً من العربية, مع ان التظاهرة ألمانية - عربية, وكان ثمة مترجمون من اللغتين, فجيء بمترجمة من الإنكليزية الى الألمانية, وظل الحضور العرب جاهلين فحوى ما قاله امين عام جامعتهم! الحضور الألماني كانوا اكثر حظاً, إذ على رغم ان المسؤول الألماني الحاضر والخطيب يتقن الإنكليزية, اصر على ان يخطب بالألمانية معبّراً طبعاً عن اعتزازه بلغته.

الجنوب في الميدان

المهم... فيلم شاهين الذي عرض بعد افتتاح المعرض استقطب جمهوراً ملأ القاعة الواسعة, واضطر بعضه الى الوقوف. اما المناقشة التي تلت العرض, فاستمرت نحو ساعة ونصفاً وحضرها وشارك فيها المئات, ما اثار دهشة اشخاص كانوا حضروا في اليوم نفسه ندوة فكرية عربية, كان عدد المتحدثين فيها ضعفي عدد الجمهور.

ثلاث غرف من متحف ثقافات العالم, غصت كذلك بالحضور, حينما اعتلت المنصة ثلاث نساء عربيات هن د. هدى وصيفي ود. رتيبة الحفني والكاتبة حنان الشيخ اضافة الى الناقدين اسعد عرابي وابراهيم العريس, للحديث عن إبداعات المرأة العربية في الموسيقى والأدب والفن التشكيلي والفنون السينمائية. وهنا ايضاً, زيد زمن النقاش نحو ساعة اضافية وتوالت الأسئلة والسجالات حتى صرخ الضيوف من ابناء الجالية المصرية, وعلى رأسهم قنصل مصر في المدينة, الذي شارك بدوره في النقاش, بأن الطعام سيبرد!

في مقابل الزمن الذي كرس للنقاش, وكان استثنائياً في الحالين, كان حظ استعراضين - على الأقل - من الاستعراضات التي اقيمت على هامش التظاهرة لافتاً: استعراض "شهرزاد" الذي قدم باسم مصر, وتحت اشراف اللبناني وليد عوني, واستعراض فرقة كركلا... كل من الاستعراضين قدم في قاعة للأوبرا, امام جمهور ملأ القاعات على آخرها, وصفق طويلاً, لتلك الأجواء الغرائبية التي هيمنت على عرضين, من الغريب انهما جاءا متماثلين موضوعاً وأجواء, وإن كان استعراض وليد عوني تميز بموضوعه وجدية تناوله له, فيما تميز استعراض كركلا, بإبداع في فن الرقص عرف كيف يستغل مساحة الخشبة كلها فملأها حركة مبهرة وملابس رائعة, تواكبت مع استخدام امثل لموسيقى شهرزاد لرمسكي كورساكوف, كانت هي الموسيقى نفسها التي بنى عليها وليد عوني بدوره استعراضه. كان واضحاً ان وليد عوني, كمدرب للرقص ومبدع للعمل, لا يزال في حاجة الى حسن استخدام افضل للمكان, اذ ان معظم مشاهد "شهرزاد" جاء مستخدماً لزاوية او رقصة معينة, غير قادر على استيعاب مساحة المكان ككل. ومع هذا قوبل هذا العمل بتصفيق حاد, بخاصة ان الجمهور ادرك كم ان وليد عوني بدا متمكناً من توزيع الرقص على كل راقصيه, في حركات متقابلة ومتقاطعة, تركز على فردية كل راقص, فيما كان كركلا اكثر إجادة في الرقص الجماعي, منه في التركيز على ما هو فردي. غير ان المشكلة مع استعراض كركلا كانت, على اي حال, في مجال آخر تماماً: إذ بعد ساعة ونيف, وبعد ان وصل العرض الى ذروة رائعة في رقصة جماعية, ندر ان شهدت الخشبات العربية مثيلاً لها, رقصت على ايقاع توزيع مدهش وشرقي السمات لـ"بوليرو" رافيل - استخدمت فيه كل امكانات الآلات العربية والشرقية, فوجئ المتفرجون بالعرض ينتقل, من دون مقدمات, الى جنوب لبنان, والى صراخ القرّادي والدبكة وما شابه. صحيح ان هذا, ما كان له إلا ان يستثير حماسة وطنية وتعاطفاً, لكنه اتى ناسفاً لكل اثر تركه العرض الأصلي لدى المتفرجين. كان واضحاً هنا اننا امام صلَطة وطنية تستجدي التصفيق, من الصعب على متذوق الفن ان ينظر إليها بأي جدية.

مهما يكن من امر, في مقابل ضحالة الاهتمام "الألماني" بالآداب وأصحابها, بدا الأداء الفني السينمائي والاستعراضي في احسن حالاته. ومن المؤكد ان الجمهور الكثيف الألماني بخاصة - الذي تابع هذا النوع من النشاطات, وصلته الرسالة الحضارية العربية خمسة على خمسة. وأثار ما قدم من الفضول لديه, في شكل دفعه الى طرح اسئلة مدهوشة حول هذا العالم العربي الذي يبدو له هنا جديداً, عصرياً, فاتناً, على عكس صورته في نشرات الأخبار وإعلام الصحافة اليومية.

وفي يقيننا ان هذا نجاح يجب ألا يستهان به. ودرس للذين يرون عادة ان الكلمات الكبيرة والخطب الرنانة هي خير ما يقدمنا الى الآخرين.

الحياة اللبنانية في 15 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

من كركلا الى شهرزاد وليد عوني والسينما العربية: المعركة واحدة

فرانكفورت/ ابراهيم العريس