شعار الموقع (Our Logo)

 

 

أربعة أعمال تسجيلية تتناول أزمتنا العربية الإسلامية المتشعبة التي أصبحت أزمة وجود: أن نكون أو لا نكون, تتكامل معاً في رباعية من الأحزان, تكشف بأسلوب فني رفيع عن جوانب هذه الأزمة بقدر كبير من الشجاعة والصدقية.

"امرأة من فلسطين"

عن جرحنا الكبير الدامي منذ أكثر من نصف قرن, قدمت تهاني راشد المخرجة المصرية الأصل المقيمة في كندا, رؤيتها في فيلم "سُريدا: امرأة من فلسطين" الذي لا نسمع طلقة رصاص واحدة فيها, ولا نرى مشاهد الدمار والقتلى والجرحى والصرخات وبكاء النساء, التي تلاحقنا في التلفزيون يومياً ونجدها في معظم الأفلام التي تتناول القضية الفلسطينية. أرادت تهاني أن تقدم شيئاً مختلفاً غير ما هو معروف أو المتاح معرفته.

سُريدا سيدة مثقفة في منتصف العمر, تعيش في رام الله وتعمل في مجال الدفاع عن حقوق المرأة, بيتها من الداخل وحديقته الصغيرة من الخارج ينمان عن حال ميسورة.

نعيش مع سريدا وجاراتها حال الحصار الدائم ومنع التجول الذي تفرضه إسرائيل, وخلال ما تحكيه سريدا وجاراتها عن معاناتهن, نرى الدبابات الإسرائيلية بين حين وآخر, تجوب الشوارع بأصوات جنازيرها الصاخبة تنشر الرعب. وتذكرنا بقبضة الاحتلال الثقيلة, وذلك إلى جانب السيارات التي نسمع ميكروفوناتها أحياناً داخل بيت سريدا من دون أن نراها وهي تعلن سريان منع التجول, أو تنتقل إلى بعض نقاط التفتيش, لتؤكد هذه المشاهد ما تحكيه سريدا وجاراتها عن معاناتهن اليومية.

وسريدا على خلاف الشخصية الفلسطينية النمطية المقهورة, لا تثير الشفقة, لكن تفرض الاحترام وتتمتع بالقبول, فهي بشوشة دائماً ضاحكة, أو مبتسمة غالباً, حتى وهي تحكي عن القناص الإسرائيلي الذي كان من الممكن أن يقتنصها, تضحك وهي تصفه بأنه "أهبل".

نرى سريدا مع جاراتها في جلسة لشرب الشاي يتبادلن الأحاديث عن الأوجاع. ونتعرف الى أفكارها ونحن نراها تمارس حياتها اليومية داخل البيت في المطبخ, أو أثناء القيام ببعض المهمات المنزلية, أو مع بعض أفراد اسرتها, كما نراها في السوق عندما يرفع حظر التجوال. تنتقل من بائع إلى آخر ويدور بينها وبينهم حوارات سريعة تكشف عن علاقتها الطيبة بالناس.

وإلى جانب ما تحكي عنه سريدا من اعتداءات إسرائيلية على حياة الإنسان الفلسطيني وحقوقه, تتطرق في أحاديثها إلى جوانب فكرية عن أهمية الاختلاف وقبول الآخر وجوهر الوطن والمواطنة والحفاظ على القيم الإنسانية. وخلال مناقشتها الحفاظ على التراث نراها في ثوب فلسطيني فضفاض موشّى بمشغولات ملونة تختال داخله وهي ممتلئة بالفخر والاعتزاز تستعرض قيمه الجمالية أمام الكاميرا.

غير أنها في نهاية الفيلم تناقش فكرة الاستشهاد وتخشى تغلغلها في فلسفة الدولة الفلسطينية الجديدة التي تحلم بها, حيث ترى في انتشار هذه الفكرة وسيادتها ما يهددها شخصياً بفقدان أولادها كما يهدد مستقبل الدولة, ويأتي طرح هذه الفكرة في نهاية الفيلم, ما يثير علامة استفهام.

وقد يدفع البعض إلى إعادة النظر في ما تضمنه الفيلم من مشاهد سابقة ودلالاتها على ضوء هذه النهاية, ولكن ألسنا في حاجة إلى تقديم هذا الوجه الفلسطيني على نحو ما قدمته تهاني راشد في هذا الفيلم؟

العدوان من الداخل

"غير خذوني" فيلم عن المغرب من إخراج تامر السعيد, وهو مخرج مصري شاب في أول أفلامه التسجيلية الطويلة من انتاج قناة "الجزيرة".

يصور الفيلم شهادات خمسة من رجال المغرب المثقفين, تعرضوا للاعتقال في منتصف السبعينات لمدة تسع سنوات, ولم يعرف أي منهم لماذا اعتُقل ولماذا أفرج عنه؟ ويأخذنا الفيلم معهم إلى بقايا المعتقل الذي ضمهم, وكل منهم يحكي عذاباته.

غير أن حكاية عبدالناصر كانت أكثر حكاياتهم ألماً, وعندما عاد من المعتقل كانت فتاته التي تعاهد معها على الزواج تزوجت, وحينما دق على باب بيت اسرته أنكرته أمه, ونفت أن يكون لها ابن باسم عبدالناصر. وعلنا أن نتخيل السبب في هذا الرعب الذي يملأ قلب الأم حتى تنكر ابنها (!!), والآن بعد أن عاد عبدالناصر إلى الحياة من جديد يسأل لماذا اعتقلوه ولماذا أفرجوا عنه, ويؤكد أنه لن يهدأ باله حتى يكشف الغطاء عن حقيقة غيره من المختطفين الذين اختفوا من الوجود. وينتهي الفيلم بتظاهرة لمجموعة كبيرة من أبناء المغرب ضد غزو أميركا للعراق, يمارسون حقاً كان غائباً وما زال في معظم أقطارنا العربية, الصورة النهائية للفيلم توحي بالأمل في الانفراج والحرية, ولكن هل يبقى المسؤول عن سرقة سني عمر الشباب وتعذيبهم من دون عقاب؟ وإذا كان الأمر كذلك كيف نضمن المستقبل؟

خطيئة من؟

"خطيئة مريم" من إخراج وسيناريو وانتاج باريا شاهندا (إيران). مريم طفلة في السابعة, ذبحها أبوها, قطع رأسها ثم فصله عن جسدها, بعد اتهامه لها بإقامة علاقة جنسية مع خالها(!!)

نرى جثة الطفلة مكومة داخل هلاهيلها, على أرض الغرفة الخاوية من أي أثاث, في مقدم الصورة على اليسار, وفي الخلفية تفترش الأم الأرض جالسة بثيابها السود في مواجهة الكاميرا وظهرها على الحائط, تحتضن رضيعاً, وإلى جانبها طفلة أخرى في حدود الخامسة.

عند موضع الرأس من الجثة تضع المخرجة (بالكومبيوتر) مربعاً أسود يخفي موضع الرأس المقطوع, رحمة بالمشاهد من فظاعة المنظر, لكن الطفلة الصغيرة في الخلفية إلى جانب أمها تحملق في اتجاه موضع الرأس المقطوع وتهم أكثر من مرة بالاقتراب منه, يدفعها فضولها الطفولي البريء, لكن الأم تمسك بها في كل مرة لتعيدها إلى جانبها, وهي تدلي بشهادتها. اللقطة العامة التي تسجل هذا المنظر أو حركة الطفلة الفضولية من هذه الرواية تكشف التناقض الصارخ بين براءة الطفولة وبشاعة الجريمة وتضاعف من تأثير إحساسنا بالمأساة.

يعرض الفيلم إلى جانب شهادات أخرى للمحيطين بالجريمة, شهادة الأب الذي يبرر جريمته بأنها إرادة الله, يقول: "لقد حان وقتها", وهو ما يمثل أقصى ما وصل إليه التفكير المتزمت/ المنحرف من تطرف لا إنساني.

وينتهي الفيلم بصرخة الطفلة الأخت, وتثبيت اللقطة على حركة يدها وهي تشير بأصابعها في وجه الكاميرا, وكأنها توجه الاتهام بالإدانة الى جمهور المشاهدين, ما يفجر في الذهن السؤال الذي لا يمكن الهروب منه: هل يمكن أن نعفي أنفسنا من الإدانة؟

الهروب إلى الشمال

"الموت في مضايق جبل طارق", من إخراج وسيناريو بواكيم ديمر (سويسرا), يتناول موضوع المهاجرين غير الشرعيين من العرب والمسلمين الأفارقة الذين يتسللون عبر مضيق جبل طارق من شاطئ أفريقيا (المغرب) في الجنوب إلى شاطئ أوروبا (اسبانيا) في الشمال, بحثاً عن حياة أفضل بعيداً من الفقر والقهر.

سبق أن تناولت السينما هذا الموضوع في أفلام تسجيلية وأخرى روائية من وجهة نظر أهل الجنوب. فيلم "السفراء" الروائي لمحمود بن محمود, مثلاً, ولعلها المرة الأولى التي تتم فيها معالجة الموضوع نفسه من وجهة نظر أهل الشمال. تركز معالجة أهل الجنوب على معاناة المهاجرين وصرامة أهل الشمال وقسوتهم في معاملتهم. هذا الفيلم الأوروبي لا ينفي معاناة هؤلاء الفارين, ويؤكد عمق المأساة ومرارتها, لكنه يكشف من ناحية أخرى عن شفقة الأوروبي ورقته في تعامله معهم, وإن كان هذا لا يعني تنازله عن قوانينه الصارمة وإدانتهم بعدم الشرعية التي تفرض إعادتهم إلى الجنوب "أحياء أو أمواتاً".

يقدم الفيلم شهادات بعض العاملين في مراقبة الشواطئ, أو المسؤولين عن مقاومة هذه الهجرة غير المشروعة, كل منهم يذكر بعض الأحداث التي عاصرها مع هؤلاء البؤساء. ولا يخلو حديثه من الشفقة على أولئك الفقراء الذين يقبلون بالليل داخل قوارب رقيقة الحال, كثيراً ما ترتطم بصخور جبلية تحت الماء تؤدي إلى تحطيمها, ويغرق جميع ركابها أو معظمهم لأنهم لا يُجيدون السباحة.

ولا بد من أن المخرج ومجموعة العمل معه, انتظروا طويلاً في مخابئهم حتى تمكنوا من تصوير أحد هذه القوارب المزدحمة بمجموعة من هؤلاء الفارين, وسجلت الكاميرا حركتهم بالليل حتى وصل قاربهم إلى قرب الشاطئ, ونزلوا في الماء يخوضون فيها بأقدامهم وأخذوا يتسللون في إعياء إلى قطع من الصخر يلتقطون عليها أنفاسهم.

لم نشاهد كيف تم القبض عليهم, ربما تجنباً لرؤية عمليات العنف المصاحبة في مثل هذه الحال, وتتناقض مع ما يدعو إليه الفيلم أو يدعيه, فننتقل في المشاهد التالية إلى مجموعة من المقبوض عليهم يجلسون على الأرض بثيابهم الرّثة وبشرتهم السمراء في طابور طويل مستندين بظهورهم الى الحائط في انتظار مصيرهم. ويقوم التعليق من خارج الكادر أو بعض المسؤولين من داخله بشرح كيفية التعامل معهم: كيف يتم تسجيلهم, وإعاشتهم, ومعالجة المصاب منهم, ومحاكمتهم حتى يتم ترحيلهم أو دفن الموتى منهم.

أما الموتى الذين يتم التعرف الى ذويهم فيتصلون بهم ليتسلموا جثثهم إذا أرادوا, ولذلك يتم الاتصال بمصطفى الذي يعيش في إيطاليا ليأتي ويتسلم جثة أخيه, ومن خلال قصة مصطفى مع جثة أخيه نمرُّ بما يجري من إجراءات حتى يتم ترحيل الجثة. ويعبر مصطفى عن مشاعره المتناقضة, فهو حزين على موت أخيه, لكنه سعيد لأن جثة أخيه ستصل إلى أمه, ولا ينسى مصطفى أن يبدي امتنانه للمسؤولين الذين عاملوه برقة وعاونوه على تحقيق رغبة أمه في الحصول على جثة أخيه حتى تدفنها في قبر تعرف الطريق إليه.

في تعليق لأحد المسؤولين يتساءل في مرارة: من الذي يستحق اللوم على ما يحدث؟ ويضيف: "لا بد من وجود من يستحق اللوم". ولعله بهذه العبارة يلخص مأساة هؤلاء البؤساء الذين يمثلون خيبة أمل في ضمير الإنسانية, لكنه من ناحية أخرى يطالب بالبحث عن المسؤول عن هذه المأساة. وهل يمكن أن نعفي أنفسنا من هذه المسؤولية؟

الحياة اللبنانية في 15 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

رباعية الأحزان في بعض أفلام مهرجان الإسماعيلية التسجيلية

هاشم النحاس