لا تبدأ معالم شخصيات الفيلم الإنكليزي <<ضحية>> Victim (1961)، إخراج <<باسيل بردن>> ، بالاتضاح قبل نصف ساعة على بداية الفيلم، ويبقى المشاهد في حالة ارتباك وحيرة مما يحاك أمامه، من دون تفاعله حقيقة مع المجريات الغامضة ومن دون أن تنتابه الإثارة والحشرية من تسارع الأحداث التي لا يفقه منها شيئاً. خاصة أن المشاهد المطلع يدرك مسبقاً خلفية المعمعة الغامضة نظرا لشهرة الفيلم القديم وموقعه الهام في تاريخ السينما كواحد من أول الأفلام التي عالجت المثلية الجنسية بانفتاح وجرأة كبيرين حينها أولاً، والتعاطف مع المثليين وتمثيلهم على نحو غير كاريكاتوري ثانياً، والأثر الذي خلفه على الرأي العام الإنكليزي وبالتالي مساهمته الجذرية بتمهيد الطريق أمام تشريع المثلية الجنسية في إنكلترا أخيراً وبمجرد أن تستوعب تكدس التلميحات والإشارات، تغرقك صناعة الفيلم الكلاسيكية الطابع في اللاإكتراث بالرغم من اهتمامنا بموضوع الفيلم القليل الحضور في اتجاهات السينما السائدة. إلا أن أداء الإنكليزي الفذ <<ديرك بوغارت>> بدور المحامي <<ملفيل فار>>، متعة خالصة بذاتها، تنقذ المشاهد من رتابة الفيلم من جهة. وتضامن الفيلم المطلق مع المثليين ونقله معاملة المجتمع الجائرة معهم، وإن كان ضمن إطار معالجة بدائية وحوارات أشبه بالجمل المقتبسة وأداء مفرط الدراماتيكية، يحيل مشاهدة الفيلم ضرورة من جهة ثانية، حتى لو كانت نابعة من ضرورة تثقيفية إطلاعية لا لمحض متعة المشاهدة السينمائية. تأتي رسالة بريدية مجهولة المصدر، فيمزق المرء الظرف متسائلاً عن مضمونه ومصدره، فيجد بين يديه رسالة موجزة وواضحة خلاصتها صورة فوتوغرافية وحسب. إثر تحديق المرء في الصورة غير مصدق، ينهار كامل توازن حياته، وبغتة، تفلت منه دفة التحكم بالحياة ليصبح مصيره في أيدي غريبة تدفعه إما باتجاه الإفلاس، وإما تشويه السمعة وبالتالي البطالة وإما السجن وإما الانتحار. وفي حال عجز المثلي عن دفع المزيد من المال مقابل الصمت عن هويته، يرغمه المبتز على فضح هوية غيره. هذا هو محور فيلم <<ضحية>> وفيه نشهد تخبط عدد من المثليين الذين ينهار كامل عالمهم بين يوم وآخر تحت ضغط الابتزاز. وبحسب الفيلم، 90 بالمئة من عمليات الابتزاز في إنكلترا الستينات راح ضحيتها مثليون جنسيون، خاصة أن قانوناً يجرم المثلية الجنسية، يحيل كلا من المثلي الجنسي وميوله، الخارجة عن إرادته ومن غير خياره، خارجين عن القانون، يبيح فرصاً لا متناهية أمام الابتزاز. ويلعب الفيلم على المفارقة في أن <<ملفيل فار>>، الشخصية الرئيسية، محام لامع وطموح ومبدئي، يسعى إلى الارتقاء إلى مرتبة قاض، بينما يقاوم الانجذاب الجنسي إلى الرجال ويقمعه بسبب عهد كان قد أخذه على نفسه بالاتفاق مع زوجته <<لورا>> (أداء <<سيلفيا سيمس>>) التي لم يخبئ عنها ميوله قبل الزواج. سبق أن التقى <<ملفيل>> بالشاب <<باريت>> وانجذب إليه جنسياً لكنه امتنع عن الرضوخ إلى رغبته وأنهى أي تواصل كان معه. نتيجة الابتزاز، يلقى <<باريت>> واحدا من المصائر المشؤومة المذكورة أعلاه، مما يؤجج الانتفاضة في <<ملفيل>> ويقرر ضرب كامل تناغم حياته عرض الحائط، من ضمنها المخاطرة بحرفته، بهدف النيل من مافيا الابتزاز المنظمة بشدة، قائلاً: <<إن دفع الفدية لن يغير القانون، بل يشجع الابتزاز>>. ونشهد بالتفصيل كيف تتداعى حياته على نحو دراماتيكي سريع. تبقى هوية <<ملفيل>> الجنسية مبهمة طوال الفيلم، ولا نحزم أمرنا إن كان مثليا جنسيا وحسب، أم أنه ثنائي الجنس Bisexual، ومع أنها مسألة غير جوهرية، بما معناه، أن القانون يجرم الحالتين، لكن ذلك يبقى حاجزاً أمام استيعاب كامل دواخل الشخصية. فنحن متأكدون من أن <<ملفيل>> يحب زوجته من خلال تصريحه لها بذلك أكثر من مرة، وعندما نشاهدهما معاً، واحدة من نقاط ضعف الفيلم، يشكلان نموذجا مثاليا لكليشيه العائلة السعيدة. وتبقى علاقتهما الجنسية طي الكتمان عن المشاهد، ويفضي واقع عدم إنجابهما الأولاد إلى شك المشاهد بحضور الجنس بينهما نسبياً. ويلوح أن <<لورا>>، التي تعمل معلمة للأولاد، تعوض عن غياب الولد في المنزل من خلال وظيفتها. وبعد أن تفتضح قصة <<ملفيل>>، على صعيد ضيق وضمن حدود أطراف العائلة المتكتمة، يسأل <<سكوت>> شقيقته <<لورا>> إن كانت حياتها الزوجية على ما يرام، ملمحاً إلى الجنس على نحو خفي، فتستطرد <<لورا>> مؤكدة أن زواجهما ناجح، لكن ترتسم على وجهها ملامح الإنكار لهنيهة، من دون أن نعرف هل نلحي ارتباكها على الإحراج الذي ينتابنا إزاء تدخل أفراد العائلة بحميمية علاقتنا، أو أنه يعود إلى رفض الإذعان والاعتراف بواقع الأمر. يحاول الفيلم إظهار واقع المثليين من خلال حوار مباشر على النحو الآتي: <<مارست الطبيعة دعابة سمجة معي (...) قل لهم إنه ما من علاج سحري لما نحن عليه، وبالتأكيد، لا يكمن العلاج خلف قضبان السجن، أصبح ينتابني الشعور الدائم بأنني مجرم وخارج عن القانون>>. ويتردد في الفيلم لمرتين الخوف من أنه لو شرع <<الشذوذ الجنسي>> ستكر السبحة أمام تشريع أنحرافات أخرى. ويعلل الفيلم الأهداف الكامنة خلف المبتزين بأسلوب ساذج لكن دقيق، فنرى واحد منهم قد علق صورة لتمثال <<دافيد>> العاري، وهو أحد الأيقونات المثلية، كتلميح إلى أن رهابه من المثليين ينبع من ميوله المثلية الكامنة. وفي مشهد ثان، يشير أحد المبتزين إلى ان دافعه هو اشمئزازه من المثليين، وطالما أن الشرطة لا تعاقب المثلي كما يجب (؟؟؟) يتولى بنفسه محاكمتهم عن سبيل إرغامهم بدفع ضريبة مالية عالية. ويكمن عنصر التشويق في الفيلم في تساؤل المشاهد التالي: أمام مأزق <<ملفيل>> وضيق الخيارات، أي واحد منها سيعتمد في نهاية الفيلم، هل يلجأ إلى الشرطة ويفضح المبتزين وبالتالي يقضي على مركزه المرموق ويسجن وينتشر الخبر على صفحات الجرائد؟ أم يرضخ للابتزاز وبالتالي يشتري أمانا زائفا مرهونا بمزاجية المبتز؟ أم يختصر كامل المواجهة بالانتحار؟ كالعادة، يساهم الأبيض والأسود في نفح الفيلم بالجاذبية البصرية، وفي حالة <<ضحية>> يؤكد التباين المتطرف بين الأبيض والأسود مناخ الفيلم القلق، ويتمتع التصوير الخارجي لمدينة لندن الستينيات بسحره الخاص الذي لا نجده بقدر التوازي إثر انتقال الكاميرا إلى الديكور الداخلي. بحسب الناقدة الأميركية بولين كييل، والتي اعتبرت فيلم <<ضحية>> بديعاً، <<يشكل الفيلم نقطة تحول أساسية في مسيرة بوغارت الفنية، فبعد عشرين عاماً على احتراف التمثيل، ضاق خلق بوغارت من لعب أدوار الرجل الصبياني المرح والجذاب، وللمرة الأولى يؤدي دوراً بنفس سنه الحقيقي، وهو دور شديد الجرأة حينها>>. يؤدي <<بوغارت>> دوره بشفافيته المعتادة وتعال أرستقراطي، ويخفي تحكمه المدروس بكامل إيماءات شخصية الفيلم، هذا من دون ذكر اللذة النابعة من تأمل وجه <<بوغارت>> الخلاب وحسب. غالباً ما يتردد نجوم السينما في لعب دور <<الشرير>> متخوفين من استجابة المشاهد السلبية وخسارته، فكيف إن كان دور <<وحش>> إنساني، أي مثلي جنسي، بحسب الاعتبار السائد. ولا يتمكن المرء سوى أن يكون شاكراً لهذا الممثل لرهانه على دور من هذا النوع، رهان رابح ترأس لائحة أدواره اللافتة. السفير اللبنانية في 15 أكتوبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
فيلم "ضحية" يساهم في تشريع المثلية الجنسية في بريطانيا منير عبدالله |