شعار الموقع (Our Logo)

 

 

منذ زمن بعيد والسينما الأميركية, الأكثر شعبية, تعرف كيف توازن بين ما هو عام وما هو خاص, موازنة دقيقة كان فيها دائماً قطب جذب للجمهور العريض, الذي عوّدته تلك السينما على ان تقدم له, من خلال الأحداث الكبرى - وأحداث "الأمة" وتاريخها بخاصة-, كما من خلال الأحداث الصغرى, مرآة ينظر عبرها, في آخر الأمر الى ذاته. ومن هنا, انطلاقاً من هذه الكيمياء الدقيقة حققت سينما هوليوود بعض اكبر نجاحاتها. في الوقت نفسه الذي كشفت للأميركيين صوراً لتاريخهم صوّرتها غالباً, على هواها, ولكن في احيان كثيرة بصدق وأمانة. ونعرف في هذا الإطار ان ما من احد عرف كيف يصوّر مثلاً, الكوارث التي عاشتها الأمة الأميركية على مدى تاريخها, بمقدار ما فعل المخرجون السينمائيون الأميركيون انفسهم. ونتوقف هنا عند الكوارث, لأن الكارثة, حين تستعاد فنياً, بعد حين من وقوعها, تكون الحيز الأفضل لتبيان ردود الفعل المتنوعة تجاهها, ما يعني, ان المرآة هنا تكون اكثر نقاء لتصوير عمق اعماق الشخصيات, على خطى الدور الذي يلعبه الحلم في عالم التحليل النفسي لدى فرويد.

وهوليوود عرفت دائماً كيف تصور الكوارث وانعكاس هذه الكوارث على الأفراد. وإذا كان في الإمكان هنا التوقف طويلاً عند آخر نجاح ضخم لسينما الكوارث, اي عند "تيتانيك", فإن تيتانيك لم تكن باخرة اميركية مع ان هذا امر لا يتذكره كثر, كما ان عدداً كبيراً من ركاب تيتانيك لم يكونوا اميركيين. أما اذا احتجنا الى التوقف عند شرائط اميركية حقيقية, كاشفة لسمات المجتمع الأميركي الحقيقي في هذا المجال, فإن علينا ان نبحث في سينما اكثر تواضعاً, تعود جذورها الى بدايات السينما. غير ان مرحلة الثلاثينات من القرن العشرين, شهدت, لأسباب اجتماعية لا لبس فيها تتعلق بتقبلية الذهنية العادية الأميركية لهذا النوع من السينما على ضوء الكارثة الاقتصادية التي حلت بالأمة وبددت الحلم الأميركي, شهدت ازدهار النوع. وإذا كان الفيلم الضخم الذي أنتجته "متروغولدوين ماير" عن زلزال لوس انجليس المدمر الذي حدث في العام 1906, كان النموذج الذي يحتذى في هذا السياق, فمما لا شك فيه ان الأفضل بين كل افلام الكوارث, والأكثر كشفاً عن دور الكارثة ككاشف للذهنيات, ومن ثم كمدافع نحو تكاتف الأيدي, يظل فيلم "في شيكاغو العتيقة" الذي حققه هنري كينغ في العام 1938, عن رواية لنيفن باش.

* يعود هذا الفيلم في احداثه الى العام 1854- مع انه في حقيقته يروي احداثاً طرأت على مدينة شيكاغو فعلاً, في العام 1870, على شكل حريق هائل قضى على جزء اساسي من وسطها العتيق - وإذا كان الفيلم في جزء اساس منه يركز على مشاهد الحريق الضخم, في انتمائه الواضح الى سينما الكوارث, فإن مخرجه شاء له ايضاً, ان يركز على ما هو خاص, في مقابل ذلك العام: على حياة اسرة اميركية, سنشاهد الحريق وما يترتب عنه, من خلالها ومن خلال العلاقات بين ابنائها. وفي اعتقادنا ان قوة هذا الفيلم الأساسية تكمن هنا, او على الأقل في التوازن الذي اقامه الفيلم بين الحادث الكبير, وبين الأحداث الصغيرة التي تدور من حوله... ما بدا في نهاية الأمر اشبه بدراسة سوسيوسيكولوجية للشعب في مواجهة الخطر المحيط بالأمة.

* إذاً, تدور احداث هذا الفيلم في اميركا العام 1854. ومنذ البداية لدينا افراد عائلة اولبري المتوجهين الى شيكاغو, املاً في ان يتمكنوا هناك من الحصول على عيش مريح طالما ان هذه المدينة كانت تعيش اوج ازدهارها في ذلك الحين. في البداية تكون الأسرة مكونة من الأب والأم وثلاثة فتيان. غير ان الأب سرعان ما يموت خلال الطريق, تاركاً الأم مع ابنائها الثلاثة, الذين ما ان يصلوا الى شيكاغو حتى ينصرفوا الى حياتهم: الكبير بوب يخوض حياة عادية وادعة وقد اختار لنفسه عالم التجارة المحلية. والثاني جاك ينخرط في الدراسة حتى يصبح محامياً, وحلمه ان يخوض معترك السياسة والقضاء حتى ينظف المدينة من موبقاتها ومن مكامن الشر فيها, بعد ان كان لاحظ طوال سنوات دراسته فساداً يسود المدينة ما بعده من فساد. اما الثالث ديون, فإنه ينهمك في المضاربات العقارية التي تجمع له ثروة تمكنه ايضاً, من امتلاك كاباريه تصبح صديقته بيل فاوست, نجمته الأولى. وذات زمن تقترب الانتخابات في المدينة, ويقرر كل من الأخوين الصغيرين جاك وديون, خوضها, كل بحسب اخلاقياته, وتبعاً لمبادئه واختياراته السياسية. ويكون من الطبيعي هنا ان يقوم قدر كبير من التعارض بل من التناحر بين جاك النزيه والعازم على محاربة الفساد, وبين ديون الذي صار هو رمزاً من رموز الفساد في المدينة العتيقة. وهكذا يتمثل الصراع بين الخير والشر في المدينة, في هذا التناحر بين الأخوين. ولكن عندما يكاد التناحر يصل الى ذروته, يندلع ذلك الحريق المريع في شيكاغو العتيقة... وإذ يكون جاك منهمكاً في المساعدة على إخماد ذلك الحريق, يموت ميتة الأبطال. فماذا يكون من شأن ديون؟ ان موت اخيه على ذلك النحو, يدفعه كلياً الى تبني مبادئه الأخلاقية ونزعاته الخيّرة الاجتماعية. وهكذا, ما ان ينتهي كل شيء وتنجلي الأمور, حتى نراه قد آلى على نفسه ان يصبح قطب الخير في المدينة, ويقرر مع حبيبته بيل, إعادة بناء ما تهدم على شكل مدينة جديدة طُهرت تماماً من كل شرورها وأقذارها.

* طبعاً, بالنسبة الى العدد الأكبر من مشاهدي هذا الفيلم في ذلك الحين, كان الجانب الأساسي من هذا العمل هو الجانب التقني الذي صوّر حريق المدينة تصويراً أخّاذاً أرعب المتفرجين وجعلهم يخيل إليهم في بعض الأحيان, ان اللهيب يخرج من الشاشة ليصل الى الصالة. غير ان هذا الجانب لم يكن هو ما هم هنري كينغ مخرج الفيلم... بل انه لم يشرف شخصياً على تلك المشاهد, بل كلف بها مساعداً له هو بروس هامبرستون الذي سيكون له شأن في مثل هذا النوع من السينما لاحقاً. اما هنري كينغ فإنه اهتم اكثر, بفكرة سيقول لاحقاً ان همه الأساس كان التعبير عنها, وصورها بقوة في الفيلم: فكرة ان بناء العالم الجديد لم يكن فقط محصوراً بـ"غزو الغرب"... فالريادة في بناء الأمة الأميركية كانت ايضاً على شكل ولادة صاخبة للمدن الكبرى. ومن هنا ركز كينغ اهتمامه على حسن تصوير تلك المجموعة البسيطة من الرواد متمثلة في ابناء اسرة اولبري, بكل ما لديهم من تطلعات وقيم اخلاقية عتيقة وحماسة للبناء, وتفان في تعزيز الحياة اليومية... ودائماً ضمن فكرة شديدة الأميركية فحواها ان الخير لا بد من ان ينتصر على الشر في نهاية الأمر.

* وهنري كينغ (1888 - 1982) كان واحداً من كبار المخرجين الشعبيين الأميركيين الذين عرفوا كيف يصورون انتصار الخير, عبر تشابك العلاقات الأسرية, وإن كان خلال مساره السينمائي الطويل قد خاض في العديد من الأنواع السينمائية, مثل افلام الغرب ("اللص المحبوب") والميلودراما ("تل الوداع") وأفلام الحرب ("رجل من حديد").

الحياة اللبنانية في 13 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"انظر الى الوراء بغضب" لاوزبورن: ضد الماضي وقيمه

"في شيكاغو العتيقة" لهنري كينغ: رواد بناء مدن الأمة

إبراهيم العريس

 

 

 

 

 

 

هناك انطباع عام بأن ثورات الأجيال وصراعاتها, في سنوات الستين من القرن العشرين, والتي وصلت الى ذروتها مع أحداث أيار (مايو) الطلابية في فرنسا, ولدت في شكل مباغت ومن رحم حداثة فكرية أتت كنتيجة لانهيار انماط معينة من الايديولوجيات, وبداية هيمنة التكنولوجيا على الحياة الغربية, ما محى الثورة الصناعية وآثارها. ومن المعروف ان هذه الثورة الصناعية التي ولدت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر, كانت هي محرك الوعي الطبقي الذي كان بدوره واحداً من أسس ايديولوجيات التقدم وعلى رأسها الماركسية الاشتراكية في ذلك الحين. كل ما سبق كان انطباعاً عاماً لا يخلو من الصحة, لكنه في الوقت نفسه لم يكن دقيقاً كل الدقة. ذلك اننا إذا ما تفحصنا الأمور عن قرب أكثر, يمكننا أن نرى أن تمرد الشبيبة, انما يجد جذوره المباشرة في النتائج التي تمخضت عنها الحرب العالمية الثانية, وما تلاها من حرب باردة قسمت العالم معسكرات, لتضعه من جديد أمام احتمالات دمارات مقبلة. وكان من الواضح ان الشبيبة التي اكتوت بنار الحرب العالمية الثانية, موجهة أصابع الاتهام الى أجيال الآباء بأنهم بسياساتهم الخرقاء وتواطئهم الصامت أحياناً, المشارك في أحيان أخرى, كانوا هم الذين أوصلوا البشرية الى المذابح والى الآفاق المسدودة التي ألغت كل حماسة وعطلت كل بوصلة. محط الغضب في خمسينات وستينات القرن العشرين كان إذاً, الماضي نفسه بكل من وما يمثله. ولما كان الآباء والعائلة وقيم البورجوازية هم, معاً, من يمثل هذا الماضي, لم يكن غريباً أن يكون واحد من أهم شعارات ثورات الطلاب: "اهرب يا رفيقي... ان الماضي يطاردك".

والحال ان هذا الشعار انما كان يجد جذوره في العنوان/ الرمز, لمسرحية انكليزية, كانت هي التي أعلنت منذ أواسط سنوات الخمسين, مجيء تلك الثورة الشبابية المندفعة ضد الماضي أكثر من اندفاعها ضد أية سلطة أو ضد أية ايديولوجية. وهذه المسرحية هي "انظر الى الوراء بغضب" للكاتب الانكليزي جون اوزبورن.

* ظهرت "انظر الى الوراء بغضب" للمرة الأولى في العام 1956, وقدمت على خشبة "رويال كورت" اللندنية, قبل أن تتحول بسرعة الى رمز وشعار. بل قبل أن تصبح الخطوة الأولى في انبناء تيار مسرحي انكليزي سرعان ما عمت أعماله العالم وصار علماً على ثورة أجيال مرتبطة جذرياً وواقعياً بما كان يحدث في قلب المجتمعات المتطورة, في العالمين, الرأسمالي والاشتراكي في آن معاً. ومن هنا يرى مؤرخو المسرح في القرن العشرين أن ليلة 8 أيار (مايو) 1956, التي قدم فيها العرض الأول لـ"انظر الى الوراء بغضب" تسجل البداية الحقيقية للحداثة المسرحية خلال النصف الثاني من القرن العشرين, وخصوصاً في مجال المسرح الواقعي الفعال, إذا ما اعتبرنا تقديم "في انتظار غودو" للايرلندي صمويل بيكيت, بداية الحداثة المسرحية الرمزية والعبثية, علماً بأن التيارين سرعان ما ترعرعا بتواكب غريب خلال الحقب التالية. ولكن في الوقت الذي دنا فيه مسرح الغضب الواقعي من القضايا الاجتماعية, ظل هم المسرح الرمزي العبثي محصوراً في الهموم الفلسفية والميتافيزيقية.

* قبل أن تقدم مسرحيته الأولى هذه على خشبة "رويال كورت", كان كاتبها جون اوزبورن ممثلاً في فرقة "رويال كورت" نفسها, منذ العام 1948... ولم يكن في ماضيه كممثل ما يشير الى انه سوف يصبح عما قريب زعيماً لما سمي لاحقاً "مسرح الغضب" بالاستناد الى عنوان مسرحيته الأولى. لكن الرجل, الذي عند ذاك بالكاد تجاوز العشرين من عمره, كان حالة خاصة في تحدره من الطبقة العاملة وفي توجهه نحو النشاط السياسي على يسار حزب العمال. ومن هنا لم يكن غريباً, أن يتسم تأليفه المسرحي منذ البداية بطابع سياسي واضح, يلوح من خلال الموضوع الاجتماعي الذي قاربه.

* الشخصية المحورية في "انظر الى الوراء بغضب" هي شخصية جيمي بورتر, الشاب الغاضب الذي كان تخرج من جامعة في ميدلاندز تعيش على معونات تأتيها من الدولة, ما يعني انها جامعة لأبناء الطبقات البائسة في المجتمع. ومنذ بداية المسرحية يطالعنا جيمي بورتر شخصاً غاضباً لا يتوقف عن اعلان ضجره وكراهيته لمجتمع "لم تعد لديه أية قضايا جادة وحقيقية يدافع عنها". وإذ لا يجد جيمي بورتر مكاناً يعبر فيه عن غضبه, نجده يفرغ كل كراهيته للمجتمع الذي يعيش فيه على زوجته الطيبة اليسون. صحيح أن هذا كله يجعل حياة اليسون مع جيمي حياة مستحيلة لا تحتمل, لكن اليسون تجابه ذلك كله بأسلوب لا تحيد عنه أبداً: أسلوب يقوم في رفضها الدائم لابداء أي رد فعل ازاء ما تتعرض له من زوجها. وتتفاقم الأمور حين تجد اليسون نفسها, ذات يوم, حاملاً ما يثير حنق جيمي الذي لا يريد أن يمد المجتمع بذرية لا يعطيها هذا المجتمع شيئاً. واذ يزداد غضب جيمي وشراسته تأتي صديقة لأليسون وتقنعها بالرحيل. وإذ يلتقي جيمي بهذه الصديقة على ضوء هذا الموقف الجديد, يقيم معها علاقة يفرغ فيها كل موقفه السلبي من المجتمع وقيمه. أما اليسون فإنها سرعان ما تجهض الطفل الذي حملت به. وهي بهذا الاجهاض تستكمل الألم الذي يبرح بها والذي يراه جيمي ضرورياً لانسانيتها! وأمام هذا الألم الذي تعيش اليسون فيه, قبل أن ينضم جيمي اليها فيه بدوره, تحدث مصالحة بين الاثنين وسط عالم غرائبي صنعاه معاً, من خيالهما... عالم يعيشان فيه بعد أن "يطردا" خارجه صديقه اليسون, كما يستبعدان منه كليف, الجار الطيب الذي لا يتوقف عن حماية اليسون من هجمات جيمي عليها, وكذلك رد فرن, والد اليسون, ذو الأخلاق الادواردية المهذبة, والذي يقدم الينا هنا على أنه آخر الممثلين المهذبين لعالم لم يعد يبدو فيه أية فسحة لأمل.

* لقد تفجرت هذه المسرحية, حين عرضت للمرة الأولى, مثل مرآة وضعها جون اوزبورن أمام أعين المجتمع البريطاني كاشفاً له حقائقه في ذلك الحين. بيد ان ما يجدر التوقف عنده هو ان "انظر الى الوراء بغضب" التي أطلقت حركة شبان المسرح الغاضبين, لم تأت لتجدد في الشكل الفني للمسرح, حيث ان أسلوبه المسرحي يبدو كلاسيكياً وينتمي الى المسرح الاجتماعي كما ساد في القرن التاسع عشر. كان اوزبورن مجدداً في المضمون بالأحرى, كذلك كان حال أعمال زملائه "الغاضبين" من الذين, مثله, عرفوا كيف يستخدمون الشكل التقليدي للتعبير من خلاله عن تفتت المجتمع وخيبة الأمل في أي عمل جماعي والاستلاب والغضب لدى جيل شبان ما بعد الحرب. واللافت هنا هو أن ظهور ذلك المسرح كان في زمن يحكم فيه حزب العمال في بريطانيا, من دون أن يبدل في واقع الحياة الاجتماعية شيئاً, في ظل اختفاء غامض لكل ايمان ادواردي بالتقدم.

* ولد جون اوزبورن في العام 1929. وهو من بعد النجاح الكبير الذي حققته "انظر الى الوراء في غضب" (والتي حولت الى فيلم سينمائي كان من أبرز انتاجات تيار "السينما الحرة" البريطانية لاحقاً), كتب مسرحيات كثيرة, جعلته علماً من معالم المسرح الحديث. ومن أبرز تلك المسرحيات "شاهدة لقبر جورج ديلون" (1958), و"عالم بول شيكي" (1959), و"لوتر" (1961) و"دم آل بامبرغز" وغيرها...

الحياة اللبنانية في 14 أكتوبر 2004