انتظرناه محملاً بالشؤون الخارجية للولايات المتحدة الأميركية, فإذ به يأتينا من مدينة الجنوب الفرنسي مرسيليا بقصة عن الحب والعواطف. انتظرناه في فيلم لبناني يضع فيه من جديد خبرته التقنية بالعمل مصوراً مع كوانتين تارينتينو, فإذ به يأتينا بفيلم فرنسي يلخص فيه مجموع القضايا التي تتناولها نوعية مماثلة من أفلام فرنسية. هو زياد دويري, الشاب الذي لمع كالشهاب قبل سنوات في فضاء سينما لبنانية كانت, بعد ان ترهلت أفلامها الحربية واستهلكت صور مدينتها بيروت, أضحت مملة, فإذ به يبعثها حية من جديد في فيلمه الاول "بيروت الغربية" الذي كان ولا يزال انجح فيلم لبناني عرض في العالم كله حتى الآن, والفيلم العربي الذي كتب عنه, ولا سيما في عالم الأنغلوساكسون, اكبر قدر من المقالات, المادحة في غالبيتها العظمى. بعد "بيروت الغربية" أراد دويري, البيروتي الذي عاش وترعرع ردحا من الزمن في أميركا, أن يحقق فيلماً عن "السياسة الخارجية الأميركية". راح يحلم بكشف ما يحدث بين رؤساء الدول تحت الطاولة وفي الكواليس في لقاءات القمة, حلم أيضاً بتعرية المفاوضات السرية, وليقترب أكثر من هدفه قصد وزارة الخارجية الأميركية, دخل مكتب كولن باول, استقبله نائب الرئيس, وأخذ المعلومات التي يريدها. ورويداً رويداً اكتمل الملف وولدت فكرة السيناريو الذي اشتغل عليه مع جويل توما. الموضوع: رجل خمسيني سيكون بطل دويري الجديد في "رجل في الوسط". المهنة: مبعوث في الوزارة الخارجية الأميركية يعمل في مكتب يختص بقضايا الشرق الأوسط. الهدف: تنفيذ السلام في المنطقة. المهمة: قصد الشرق الأوسط لإيجاد الحلول اللازمة. وبذلك يقترح بطلنا على جورج بوش الأب خطته للوصول الى السلام. في البداية يبدو طلبه مستحيلاً اذا ما عرفنا صعوبة التطرق الى المسألة الاسرائيلية - الفلسطينية, ثم لا تلبث الادارة الأميركية ان ترضخ لطلب هنري (المبعوث الأميركي) نظراً لحججه المقنعة, بشرط الذهاب سراً من دون أن يتجاوز الخطوط الحمر. لكن هل سيتقيد هنري بالمسموحات أم انه سيتجاوزها بأشواط؟ هذا ما يكشفه لنا السيناريو, ذلك ان شخصية هنري القوية, وهوسه بايجاد الحلول لمشكلات الشرق الأوسط يحتمان عليه خرق المحظورات, وبهذا الخرق ينجح في التوصل الى حل جزئي, هو بداية المشوار نحو السلام, إذ يجمع العرب والاسرائيليين على الطاولة نفسها. وعلى رغم هذا النجاح الملموس يخسر هنري في النهاية لانه لم يطاوع ادارته. ضحية 11 أيلول انها باختصار فكرة الفيلم الذي باشر دويري العمل عليه مباشرة بعد "بيروت الغربية" وأخذ من وقته سنوات عدة. حلم ببيل موراي للعب الشخصية الرئيسية, فكر ببين كينغسلي في دور الملك حسين, وف. مرعي أبراهام لدور عرفات من دون أن ينسى كارمن لبس في دور حنان عشراوي. أحلام سرعان ما تكسرت مع أحداث 11 أيلول (سبتمبر) إذ لم يعد بالامكان تنفيذ عمل من هذا النوع في ظل الظروف المستجدة, التي قلبت كل الموازين. "أعجب السيناريو هوليوود كثيراً, يقول دويري, ووصل المشروع الى اكبر الشركات العالمية من "وورنر" الى "دريم واركس" و"يونيفرسال", كلهم كان عندهم التعليق نفسه: سيناريو مشوق لكن كيف سنعالج هذا الموضوع بعد 11 أيلول؟" من هنا كان أمام دويري واحد من خيارين: إما الانتظار الى ما لا نهاية ريثما يجد التمويل اللازم, وإما فتح ملف جديد بعيد كل البعد عن الشرق الأوسط وملفاته المعقدة, فكان أن اتجه صوب الخيار الثاني. لكن هل نجح كلياً في الابتعاد عن شؤون المنطقة في فيلمه الجديد الذي جال حتى الساعة على عدد من الدول الغربية وهو يحط رحاله حالياً في بيروت قبل أن يشارك الأسبوع المقبل في مهرجان لندن؟ للوهلة الأولى يظن المرء في فيلم دويري الجديد "هذا ما قالته ليلا" المقتبس عن رواية "تشيمو" أنه أمام فيلم عن أحداث 11 أيلول, ومشكلات المهاجرين العرب في فرنسا. تسع دقائق تقريباً تعطينا صورة وافية عما يواجهه العرب اليوم من مشقات وتجعلنا ندخل في قلب ما يسمى "صراع الحضارات", لندخل في صميم عيش هؤلاء من دون ان نغوص في تفاصيل حياتهم اليومية, مشكّلة الاطار الزمني والبيئي للموضوع قبل الانتقال الى الحبكة الاساسية التي سيكون عنوانها الوحيد: لغة الحب. يأخذنا دويري الى حيّ شعبي ذي تراث عربي في مرسيليا (جنوب فرنسا) - نظن نفسنا لوهلة في زقاق من ازقة بيروت, أو في مشهد سابق من مشاهد "بيروت الغربية", نظراً الى التشابه في بعض الديكورات - يصور عينة من العرب الموجودين فيه, نسمع هواجسهم ونشعر قلقهم, يتحدثون عن 11 أيلول وعن المهاجرين العرب في مشاهد قليلة, لكن الاهم أننا نتعرف الى تشيمو (عربي مولود في فرنسا), والدته (كارمن لبس التي برعت في دورها كالعادة), وأصدقائه (كلهم من العرب)... نغوص أكثر في حياة هذا الشاب, نكتشف انه صاحب موهبة في الكتابة وأن فرصة العمر لم تعد بعيدة جداً عنه, إن قرر هو السفر لكي ينضم الى مدرسة الكتّاب. حياة بسيطة وهانئة هي التي يعيشها هذا الشاب. حياة طبيعية خالية من التعقيدات... لكن ماذا عن المفاجآت؟ ماذا ان اطلت احداهن فجأة وقلبت حياته رأساً على عقب؟ ماذا عن الحب من النظرة الأولى؟ ماذا عن... ليلا؟ الحب السري هي فتاة غربية تصل الى الحي الشرقي فتبدل حاله. بسروالها القصير وشعرها الأشقر, بوجهها الملائكي ونظراتها الثاقبة تسرق القلوب وتجعل شبان الحيّ يحلمون... تختال أمامهم على دراجتها, تروح وتجيء, تزرع الشك في نفوسهم, غير عابئة بهم. وحده تشيمو يحصل منها على نظرة حب ورغبة, ومنذ تلك اللحظة يحصل ما لم يكن في الحسبان: علاقة "مخيفة" تجمع الشاب العربي الرومنطيقي بالفتاة الأجنبية المتحررة والجريئة, التي سرعان ما نكتشفها ابعد ما يكون عن الرومنطيقية الا بملامحها. علاقة قد يكون لها شأن في تضييع "فرصة العمر" على تشيمو إذ تسبب عدم التحاقه بمدرسة الكتّاب, لكن هل يهم ذلك حقاً بعد ان وجد حب حياته؟ علاقة سرعان ما تتطور "بسرية" تامة. الكل يتحدث عنها وهو صامت, أصدقاؤه يرغبون بها وهو صامت, هي تتكلم عن الجنس والحب بلغة جريئة وهو متعجب صامت الا من بعض الكلمات. صمت لن يدوم طويلاً مع وصول "مولود" صديق الطفولة, الى درجة التحرش بحبيبته, وكيف لا يفجر ذلك سخط الشاب؟ وهنا تبدأ علامات الاستفهام حول العلاقة التي تجمع الاثنين, شكوك تزداد مع رؤيتهما معاً في المركز الطبي وانفجار تشيمو غضباً في وجه اصدقائه ليتركوها بسلام. فهل يفعلون خصوصاً اذا ما عرفنا الرغبة التي أججتها ليلا في نفس مولود؟ بالطبع لا! يبدأ مولود بالتجسس على الاثنين ليكتشفهما معاً وهي تحكي له كيف ظهر لها الشيطان ومارس معها الجنس. حكاية غريبة يأخذها مولود ضد صديقه لتفرقته عن حبيبته من دون أن يفلح في ذلك... تشيمو يعرف جيداً أنها تلفق الحكاية لتتخلص من عمتها, وهو في سره يأمل أيضاً بأن تكون كل الحكايات الأخرى عن الجنس وممارستها له مجرد قصص من محض الخيال لاثارته, لكن من يدري, لم لا تكون الحقيقة هي التي تحكيها؟ كل تلك الشكوك سرعان ما نسمع الاجابة عنها في سياق الفيلم. نسمع ليلا بنفسها تؤكد ان كل ما ذكرته عن الشيطان مجرد تلفيق قصص, من دون أن تذكر الحكايات الأخرى التي تأتي مع نهاية الفيلم الدراماتيكية لتعيد الاعتبار الى تلك الفتاة من دون ان تخرج منها سليمة. نهاية ستكون حافز تشيمو للكتابة... كتابة قصة حبه وليلا... كل ما قالته ليلا... والفيلم ان خرج بالفرنسية فهو لم يبتعد اذاً كثيراً عن الطابع العربي, أكان لناحية استخدام بعض الكلمات بالعربية, او طابع الحي الشرقي, أو حتى الموسيقى العربية... "مهما بعدت حتماً سأرجع الى البيئة التي ولدت منها", يقول دويري, "إذ حتى حينما قررت أن أصنع فيلماً عن الجنس لم أبتعد كثيراً عن قضايا الشرق الأوسط, وحينما قررت صنع فيلم عن المكسيك وظهورات العذراء (وهو مشروعه الجديد) بقي الشرق الأوسط حاضراً. ففي ظل صراع الحضارات الذي يتكلمون عنه, لا تزال المسألة حامية وعندما يكون الحديد حامياً لا بد من أن تضربه وهو ساخن". الحياة اللبنانية في 15 أكتوبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
زياد دويري "ما قالته ليلا" حول الحب وصراع الحضارات بيروت/ فيكي حبيب |