شكّل <<بيروت الغربية>>، الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج اللبناني زياد دويري، حالة سينمائية مختلفة لما فيه من حرفية تقنية وفنية واضحة، أعلنت بداية مسار إبداعي لشاب عاد إلى بلده إثر أعوام طويلة من الاغتراب أمضاها بين فرنسا والولايات المتحدّة الأميركية طالبا مُتخصّصا بالدراسات السينمائية ومُتدرّبا في مشاريع متنوّعة. استعاد دويري في فيلمه هذا مقتطفات من تجربته الشخصية في بداية الحرب اللبنانية، كي يبني فضاء سينمائيا احتوى على تفاصيل إنسانية ومعاناة بشرية عاشها أفراد في لحظات الجنون والدم والعنف والخراب. أنجز دويري <<بيروت الغربية>> في العام 1999. وبعد خمسة أعوام، كاد في خلالها يُنفّذ مشروعا ثانيا له بعنوان <<رجل في الوسط>> لولا حادثة <<الثلاثاء الأسود>> في الحادي عشر من أيلول 2001 التي غيّرت العالم كلّه، عاد المخرج الشاب إلى مدينته الأولى حاملا معه فيلما روائيا طويلا ثانيا بعنوان <<هكذا تقول لِيلاَ>> المقتبس عن قصّة لشيمو بالعنوان نفسه صادرة في العام 1996 عن منشورات <<بلون>>. يُعرض الفيلم عند الثامنة من مساء يومي الخميس والجمعة المقبلين في 14 و15 تشرين الأول الجاري في إحدى صالات سينما <<كونكورد>> في فردان، في عرضه العالمي الثاني بعد تورنتو. إنتاج فرنسي إنكليزي إيطالي مشترك، تمثيل فاهينا جيوكانتي ومحمد خوّاس وكارمن لبّس وكريم بن هادّو ولطفي شكري: قصّة حب جميلة بين شاب وصبيّة في مجتمع عربي في جنوب فرنسا، وحكاية انفعالات وهواجس جسدية وروحية واجتماعية تزنّر يومياتهما وتدفعهما إلى اكتشاف الذات والآخر. بهذه المناسبة، التقت <<السفير>> زياد دويري الذي كتب سيناريو الفيلم وجويل توما. · هل أنجزت فيلمك هذا بناء على طلب أم أنه مشروع خاص بك منذ البداية؟ إنه مشروعي وجويل توما منذ البداية. غير أن الإيطالية مارينا غيفتر مُنتجة الجزء الثالث من <<العرّاب>> لفرنسيس فورد كوبولا، سألت عنّي لرغبتها في التعامل مع سينمائي يعرف الشرق الأوسط ولديه حساسيته ومناخه، بهدف تحقيق مشروع سينمائي ما. حصل اللقاء بيننا بناء على رغبتها في التعرّف إليّ. · قلتَ إنه مشروعك وجويل توما منذ البداية. هذه ليست المرّة الأولى التي تتعاون فيها مع جويل. هذا صحيح. تعاونت معها في مشاريعي السينمائية الثلاثة، إذ لديّ مشروع ثان لم يُنفّذ بسبب تبدّل أحوال الدنيا إثر حادثة الحادي عشر من أيلول، عنوانه <<رجل في الوسط>> كاد يُنفّذ بعد اطّلاع منتجين أميركيين عليه، وحماس بعضهم لإنتاجه. لكن موضوعه المتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط دفعهم إلى التردّد بعد الحادثة المعروفة. أيا يكن، فإن جويل توما موجودة دائما في مشاريعي. هنا، في <<هكذا تقول لِيلاَ>>، شاركتني في كتابة السيناريو، لكن لأسباب مُتعلّقة بطبيعة الإنتاج الفرنسي اضطررت لوضع جملة في الجينيريك مفادها: <<مع التعاون اللطيف لجويل توما>>. علاقة إيروتيكية · إذاً، الفيلم مشروعك الخاص. ما الذي أثار انتباهك في كتاب شيمو؟ أحببت العلاقة القائمة بين الشابين شيمو (محمد خوّاس) ولِيلاَ (فاهينا جيوكانتي)، وهي علاقة إيروتيكية غير مُتصنّعة أو بورنوغرافية. منذ وقت بعيد أرغب في صنع فيلم كهذا. أخذت العلاقة الجنسية إلى أبعد حدّ ممكن من دون أن أُسقطها في الابتذال. يُعالج الكتاب هذا الموضوع من دون فظاظة أو سوقية، وتدور أحداثه في ضاحية باريسية. بما أني لست خبيرا بمناخ هذه الضواحي ولا بنفسيتها أو واقعها الاجتماعي والإنساني والثقافي الشعبي، وبما أن أفلاما فرنسية عدّة تناولت هذا <<العالم>>، ارتأينا، جويل وأنا، أن ننقل جغرافية الأحداث إلى الجنوب الفرنسي، على ضفّة البحر الأبيض المتوسط لقربها، إنسانيا واجتماعيا، من المكان الذي جئنا منه والذي نعرفه جيّدا. بدّلنا الديكور، وسعيت إلى ما يشبه ديكور <<بيروت الغربية>> تماما، كالغسيل المُعلّق على الحبال والشوارع الضيّقة والناس السائرين فيها. هناك أشياء كثيرة تتغيّر دائما في عملية الاقتباس السينمائي عن كتاب. ما تغيّر هنا كامن في البنية الدرامية والشخصيات والنهاية. أستطيع القول إن نصف الكتاب تغيّر. هناك شخصيات أُدخلت في الفيلم ليست موجودة في الكتاب: أصدقاء شيمو وأمه (كارمن لبّس) وكل ما له علاقة بالضاحية الباريسية، وبإشكاليات هذه البيئة الجغرافية والإنسانية. لا تنسى أن الكتاب صدر في العام 1996، أي قبل أن تتحوّل الأصولية الإسلامية إلى خبر. بعد الحادي عشر من أيلول كان لا بُدّ من التوقّف قليلا عندها. هذه إضافة أخرى إلى الفيلم. · يُمكن الدخول إلى الفيلم من زوايا عدّة: قصّة حبّ بين شابين بكل ما فيها من حسّ إنسانيّ وانفعال وهواجس وتهويمات. قراءة ما لنماذج إنسانية منتقاة من المجتمع العربي في الجنوب الفرنسي. حالات إنسانية وجنسية مختلفة. إلخ. لكن، بالنسبة إليّ، أراه قصة حب جميلة بعوالمها المختلفة. هذا محور الفيلم وجوهره. هذه هي الحبكة. ما حاولت قوله في الفيلم هو: كيف يُمكن لإنسان مثل هذه الفتاة المليئة بالغموض والحساسية في وقت واحد أن تصنع تغيّراً في ذات إنسان آخر. أقول هذا انطلاقا من تجربة شخصية، وأعتقد أن كثيرين مثلي عرفوا هذا الشعور أو تلك التجربة: مررت شخصيا في مرحلة من عمري مليئة بالفرص والمناسبات التي لم أنتبه إليها ولم أغتنمها، ومنها ما انتبهتُ إليه لكن بعد فوات الأوان. لِيلاَ تروي قصصا لشيمو لا يفهمها. تمرّر له رسائل مخبّأة في طيات كلمات أو تعابير معينة. تُعلن له الحب لكن على طريقتها كصبيّة غامضة وحسّاسة. طبعا الطريقة التي تروي فيها هذه الحكايات وتُعلن فيها هذه المشاعر مثيرة فعليا، لكن شيمو لا يفهمها لأسباب عدّة منها، بالإضافة إلى الغموض، أنه لا يثق بنفسه، فهو خجول ومنعزل بعض الشيء ووحيد حتى بين أصدقائه، والبيئة التي يعيش فيها ضاغطة لا تساعده على التفكير إلى الأبعد. تروي له الفتاة قصصا فتدفعه إلى إعادة الكتابة. والمُدرّسة التي تزوره في منزله تخبره أنها عثرت في كتاباته على نواة لغة احترافية. مع هذا، فهو لا يؤمن بامتلاكه طاقة إبداعية تسمح له بالكتابة. إنه يعاني ضغطا اجتماعيا متمثّلا بالمجتمع الإنساني الضيّق الذي يعيش فيه، كما أن أصدقاءه يمارسون ضغوطا أخرى عليه وإن بشكل غير مباشر. إن كلمات الفتاة تدفعه إلى صوغ نصوص يومية أقرب إلى المذكّرات. صوت الراوي · ألهذا السبب استخدمت أسلوب <<السرد بصوت راو>>؟ شخصياً، لا أحبّذ كثيرا هذا النمط من العمل السينمائي، مع أنه ضروري على المستوى الدرامي، أحياناً. أصعب مسألة واجهتنا، جويل وأنا، في خلال كتابة السيناريو كامنة في هذه النقطة. أمضينا نحو ثلاثة أشهر ونحن نتناقش حولها: هل نستخدمها أم لا. أخيرا، قرّرنا استخدامها لسببين: أولا، لأن القصّة تُروى من وجهة نظر شيمو. لِيلاَ هي بطلة الفيلم وليس شيمو، لكن الحدث يرويه هو وليس هي. ثانيا، لأن شيمو وحدانيّ، ليس له صديق حميم يبوح له بمكنونات نفسه وبأسراره، على الرغم من أن لديه ثلاثة أصدقاء لا يشعر إزاء أي منهم بأنه قريب منه، كما أنه يستحيل عليه أن <<يفضفض>> عن ذاته لأمه. إذاً، كيف نجعل وحيداً يُعبّر عن نفسه؟ <<السرد بصوت راو>> بدا لنا الحل الوحيد. تردّدنا كثيرا، جويل وأنا، قبل أن نقرّر ما فعلناه. هناك محرّض آخر ساهم في قرارنا هذا: تساءلنا عن الأفلام التي استعانت بهذا النمط، أي <<السرد بصوت راو>>، فاكتشفنا أن عددا كبيرا من المخرجين أنجز أفلاما (باتت في ما بعد من الروائع) هكذا: مارتن سكورسيزي، فرنسيس فورد كوبولا، وودي آلن وآخرين. شاهدنا، جويل وأنا، أفلاما كثيرة، ك<<البرتقالة الآلية>> و<<الرؤيا الآن>> و<<كازينو>> وغيرها. أعتبر أن <<السرد بصوت راو>> فخّ: يكون أحيانا تغطية لعجز إبداعي أو لغياب مخيّلة، وأحيانا أخرى يكون حاجة درامية ملحّة. إن خيارنا ناتج من كونه حاجة للسببين المذكورين أعلاه. · في فيلميك الروائيين الطويلين <<بيروت الغربية>> و<<هكذا تقول لِيلاَ>>، تعاونت مع الممثلة اللبنانية كارمن لبّس. ما الذي دفعك إلى ذلك؟ بالنسبة إليّ كارمن لبّس <<ديفا>>. يصعب عليّ التعبير عن حقيقة ما أشعر به تجاهها، أو عن سبب رغبتي الدائمة في العمل معها. أحبّها كثيرا. إنها ممثّلة عظيمة. أعرف تماما أنها لو عاشت في بلد ذي صناعة سينمائية حقيقية لتقدّمت كارمن لبّس إلى الأمام أكثر بكثير مما هي عليه الآن. إن ظروف البلد تحتّم على الممثل اللبناني أن يعمل في مشاريع متنوّعة، لا يحبّ بعضها أحيانا، كي يعيش. أردت التعاون معها في مشروعي السينمائي الثاني <<رجل في الوسط>> أيضا، لو تسنّى لي تنفيذه. أردتها في دور أساسي إلى جانب بل موراي. أردتها في شخصية حنان عشراوي. إنها قادرة على أن تؤدّي أدوارا صعبة. على كل حال، انزعجت كارمن مني لأني أعطيتها شخصيتين متشابهتين، فهي تطمح إلى التجديد دائما. شعرتُ بأنها، في المشاهد القليلة التي تظهر فيها، تترك أثرا كبيرا. ذلك أن لحضورها المتواضع وقعا كبيرا جدا. أحببت شخصيتها هنا في <<هكذا تقول لِيلاَ>>. صدف أن دورها في الفيلم الثاني هو أيضا دور أم. أردتُ تغييب الأب، وغيابه سبّب مشكلة للأم والابن. شعرت بأن كارمن تليق بهذا الدور. إنها تشتغل على الغريزة وليس على العقل. · كيف كانت علاقتها بالممثلين الآخرين، أو أقلّه بمحمد خوّاس وفاهينا جيوكانتي؟ علاقتها بفاهينا متوترة للغاية على نقيض علاقتها بمحمد. أحبّته كثيرا في العمل وفي خارج أوقات التصوير على حدّ سواء، لكنها لم تستطع أن تتناغم مع فاهينا منذ البداية. هناك لقطة اضطررت إلى إعادة تصويرها نحو ست مرات لأن كارمن كانت متشنّجة إزاء فاهينا. استغربت الأمر لأن كارمن تعطيني ما أريد في مرّتين أو ثلاث. أخبرتني حقيقة ما تشعر به إزاء الممثلة، فطلبت منها أن تضع هذا كلّه جانبا لأن لديّ وقت محدّد لإنهاء العمل. هذا التوتر نفسه كان موجودا بين محمد وفاهينا، ولعلّه كان أشدّ وأعنف. طلبت منهما ألاّ يُظهراه على الشاشة، وهذا ما حدث. لم يتطايقا معا لكنهما في الفيلم نجحا للغاية في تقديم دوريهما. <<قنبلة موقوتة>> · هل تعتقد أن التوتر القائم بين ممثلين قادر على منح دوريهما وعلاقتهما في داخل الفيلم قوة درامية أكبر وفعالية أدائية أفضل؟ هذا فخّ، وعليك كمخرج أن تنتبه لخطواتك كي لا تقع فيه. شعرتُ بالتوتر بين محمد وفاهينا منذ البداية، أي قبل أن أبدأ التصوير. تساءلت في نفسي عما إذا يُمكنني استخدامه (التوتر) لصالح الفيلم. حاولت ألا يقتربا من بعضهما البعض كي لا تزداد حدّة التوتر بينهما فنصل جميعنا إلى الانفجار. حافظت على مستوي معيّن من التوتر بينهما، وجهدت كي لا يصل الأمر إلى الاصطدام فالانفجار. إن التوتر أقلّ من الاصطدام/الانفجار بدرجة واحدة، وهو لا يدوم طويلا إذ لا بُدّ له أن يصل إلى نتيجة من اثنتين: إما الاصطدام فالانفجار، وإما التوافق. لذا، تساءلتُ كثيرا عما إذا كان عليّ أن أتركه كما هو منذ البداية، أم أسعى إلى حلّه. فضّلت ألاّ أحلّ المشكلة بينهما مع أني متأكّد من أن هذا الأمر هو بمثابة <<قنبلة موقوتة>> توقّعت أن تنفجر في وقت ما. هذا ما حدث: ففي منتصف التصوير انفجرت الأمور ولم يعد محمد يطيق البقاء مع فاهينا أبدا. اضطررت أن أقف مكانه أثناء التقاط مشاهد لفاهينا معه، إذ يُفترض به أن يقف إزاءها خارج الكادر كي لا يتشتّت نظرها، لأنه كان يترك البلاتوه ما إن ينتهي تصوير دوره. · كيف تختار الممثلين عادة؟
أجري <<كاستنغ>> طويلاً. أتابع التفاصيل كلّها بدقّة قبل أن أقرّر. بالنسبة
إلى هذا الفيلم، أمضيت نحو عام كامل وأنا اجري اختبارات أدائية. شاهدت ما
لا يقلّ عن 400 ممثل لم أقتنع بهم. في المقابل، مورست عليّ ضغوط إنتاجية،
لأن آلية إنتاج أي عمل سينمائي تفرض احترام الوقت المحدّد لبدء التصوير
وإنهائه، وإلاّ <<يخسر>> المنتج المبلغ المتوفّر. دور لِيلاَ أتعبني
للغاية. لم أعثر على ممثلة قادرة على أن تكون جريئة من دون ابتذال، وأن
تكون قوية من دون أن تفقد أنوثتها وسحرها وألقها. أردت ممثلة قادرة على لفظ
كلمات قد تبدو سوقية لكنها في الحقيقة ليست هكذا، مما يعني ضرورة العثور
على ممثلة لا تظهر سوقية عند تلفّظها مثل هذه الكلمات. لا شكّ في أن الثقة أساس أي علاقة تقوم بين المخرج والممثل. على الثاني أن يتعرّى أمام الأول، في حين أن الأول يتعرّى أصلا أمام مرآته. السفير اللبنانية في 13 أكتوبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
مُخرج "بيروت الغربية" مُتعاوناً مع جويل توما في كتابة "هكذا تقول لِيلاَ" زياد دويري
نديم جرجوره |