شعار الموقع (Our Logo)

 

 

قالوا له: ثم تذهب الي شارع البورصة علي مسافة عدة كيلومترات من هنا. ستجد بناية ملساء كبيرة جدا وشاهقة جدا مبنية من الألمنيوم ليس فيها شبابيك وليس من السهل أن تجد الباب. عليك أن تتلمس الألمنيوم وتدفع بيديك حتي ينفتح أمامك منفذ .. ذلك هو الباب. ثم تدخل.

لم يكن بيده ملف ولا ورقة تحتاج الي ختم، وليس في مخيلته موضوع ما ولكنه يشعر بطريقة أو بأخري أنه محكوم عليه بالذهاب الي هذا المبني والدخول فيه لسبب لا يعرفه.

مشي عدة كيلومترات وتعب وأحس بالعطش. توجه نحو كشك لبيع المرطبات وعليه اعلان عن الكوكا كولا فشاهده مغلقا. سار في الطريق الطويل. كان الشارع معبدا بالأسفلت والرمل ينساب عليه مثل زبد البحر عندما ينساب علي الساحل. عطس فسمع هو وحده عطسته وضحك. بحث عن قطعة من الكلينكس ليمسح أنفه فلم يجد في جيبه علبة الكلينكس فمسح أنفه في طرف قميصه. دمعت عيناه من وهج الشمس والغبار.

السيارات تصطف عند رصيفي الشارع. سيارات حديثة جدا ومن أشهر الشركات المنتجة لهذا النوع من الزواحف، ولكن لا أحد في داخلها ولا أحد في الشارع، كان وحده يمشي. يسمع وقع أقدامه. طق طق طق طق، وصار يردد مع الصوت طق طق طق طق .. يريد أن يطرد الوحشة عن نفسه. شعر بالملل من ترديد صوت الحذاء ولكنه لا يستطيع سوي أن يستجيب للصوت ويتناغم معه. قرر التخلص من الايقاع الرتيب لحذائه علي اسفلت الشارع. نزع الحذاء ومسكه وصار يمشي حافيا. أحس بلسعة الاسفلت الحارة والرمل المتساقط فوقه. لبس فردة حذاء واحدة ومسك الأخري بيده وصار يمشي كمن يعرج. ساعده ذلك بالتخلص من سخونة الشارع ومن الايقاع الرتيب في نفس الوقت. صار يساعد قدمه بتغيير فردة الحذاء بالتناوب بين قدمه اليمين واليسار.

شاهد كتلة من الضوء تتماوج أمام عينيه. أدرك أنه علي وشك الوصول الي مبني الألمنيوم. كانت الشمس تنعكس بوهجها علي ذلك المبني الفضي الخرافي الحجم. شعر بالراحة. كان أكثر ما يحتاج اليه قدحا من الماء البارد أو ربما قدحين سيطلب منهم ذلك وسيقدمون له قدحا من الماء وربما قدحين فهم قوم كرماء علي حد علمه.

وقف أمام كتلة الألمنيوم المستطيلة الشاهقة. رفع رأسه الي أعلي البناية فوجدها صاعدة نحو السماء تكاد أن تكون نهايتها متلاشية من شدة الارتفاع. وعندما أعاد رأسه الي مكانه شعر بالدوار. ليس ثمة ما يوحي بأن المبني مكون من عدة طوابق. هو بناء شاهق فحسب. لابد وأن يكون هائلا مهولا من الداخل. أما من الخارج فهو جدار أملس شاهق وطويل. وقف في أول المبني وبدأ يتلمس الجدار ويدفع فيه عسي أن يفتح الباب. تماما مثل ما قالوا له لا يوجد ما يشير الي وجود باب. سوف لن تجد مقبضا لباب ولا حتي فتحة لمفتاح توحي بوجود الباب. عليك فقط أن تجرب حظك وتظل تضغط علي الألمنيوم حتي ينفتح أمامك منفذ، ذلك هو الباب. بدأ يمشي الهوينا ويدفع بيده جدار الألمنيوم ويمشي ويمشي. استغرق ساعة أو أكثر بقليل ولم يعثر علي باب. انتهي الجدار الأول. استدار باتجاه جدار العمق وصار يتلمس الألمنيوم ويدفع به وهو يمشي الهوينا فلم يعثر علي باب. أخذ قسطا من الراحة. أحس بأن لسانه يلتصق بلهاته حيث شعر بجفاف كامل في فمه. مبني الألمنيوم كان يسقط وهجا حارا عليه. قبل أن يواصل بحثه عن الباب كان بحاجة الي استراحة حقيقية في مكان ظليل. مبني الألمنيوم يمتد لمسافة طويلة فصار يركض مسرعا حول المبني يبحث عن الظل في احد جوانبه فصار يلهث وهو يركض. أنهي المسافة الأولي ثم ركض يمينا واستدار يمينا ثم يمينا مرة ثالثة حتي عاد الي المكان الذي انطلق منه دون أن يجد ظلا. رفع رأسه الي السماء فشاهد الشمس عمودية تلقي بضوئها فوق المبني ولا ظلال علي الأرض. أحس بالعطش أكثر. لم يكن في منام. كل ما حوله واقع وواقعي تماما. السيارات الحديثة حقيقية وتمتد لمسافات طويلة أمامه ولا أحد فيها كما لم ير أحدا في الشوارع المحيطة. كان بحاجة الي الماء فهو يخشي أن يموت من شدة العطش. فكر مليا وقال مع نفسه لابد من وجود الباب وفضل أن لا يضيع الوقت سدي فيموت عطشا. عليه أن يواصل تلمس الجدران ويدفع بها حتي ينفتح باب الفرج وعندما سيدخل لابد سيجد ماء يروي به عطشه. واصل مساره وصار يتلمس جدار الألمنيوم الثالث ويدفع بيده الجدار وكان حارا. صار يمشي الهوينا ويمشي. ثم أخذ يسرع في المشي حتي يكسب الوقت للوصول الي مدخل المبني. انتهي الجدار الثالث ولم يلمس بابا. بقي جدار واحد. أصبر فلا بد أن يفتح باب الفرج وتدخل المبني وتنجز المهمة التي جئت من أجلها والتي لا تعرفها أصلا. شعر بالتعب. أدار ظهره الي الجدار الرابع وبدأ يمشي ويدفع بكلتا يديه علي الجدار الأملس الحار. لاحظ أنه سيصل الي نهاية الجدار. ليس من المعقول أن لا يكون ثمة باب. بعدها سيموت بالتأكيد في حال بقي خارجا ولا يعثر علي الباب. لا توجد فرصة للرجوع من حيث أتي.

الطرق خالية وخاوية وهو عطشان، ولا شيء سوي سيارات حديثة تصطف وتصطف علي مرمي البصر وأكثر ولا أحد فيها ولا حولها. لم تبق سوي بضعة أمتار وينتهي الجدار الرابع. قبل أن يصل الي نهاية الجدار أحس تخلخلا فيه. انبسطت أسارير وجهه حتي أنه نسي العطش وشعر كأنه شرب ماء باردا أو هو علي وشك الحصول علي قدح من الماء البارد وربما قدحين. توقف لحظة. حرك الجدار. الجدار يطقطق وكأن المزلاج مقفل من الداخل. أراد أن ينادي أحدا بالاسم .. ولكن ينادي باسم من. فقرر أن يصيح باسمه. فصاح اسمه بصوت عال، وناداه الصدي بين السيارات المصطفة ..وتلاشي الصوت.

جلس قرب الباب المفترض وبدأ يبكي بصمت. قال مع نفسه ربما لا يكون هذا هو المدخل فربما ثمة باب آخر. لابد وأن يكون ثمة باب آخر غير هذا الباب المغلق. لكنني دفعت كل الجدران ولم يكن ثمة باب. أخشي أن أعاود البحث عن الباب. أخاف مفارقة هذا المكان فيضيع مني مكان الباب ولا أعثر عليه ثانية. وقف . بدأ يدفع الباب بكلتا يديه ويحركه وكان الجدار يتحرك بمساحة تقدر بمساحة باب صغير. هو الباب بالتأكيد. هل أدفعه بقوة، هل أرمي بجسدي عليه. أخشي أن ينكسر الباب أو يتلف. أخاف من العقاب لكثر ما عوقبت.

هبت ما تشبه العاصفة. أشبه بتيار هواء قوي. هواء ساخن لافح يجمع الرمل والنفايات ويرفعها بشكل مخروطي في الفضاء ثم تبتعد وتتلاشي. صوت الريح يدوي. الريح تدفع بالسيارات الحديثة وتهتز جميعها. لأول مرة يشاهد سيارة مرسيدس سوداء تتحرك وكأنها ترقص. تسلي بحركتها للحظات ثم أدرك تفاهة هذه التسلية وهو في موقفه الصعب هذا. لم تكن سوي لحظة عبث غير واعية مرت عليه وهو يري السيارة السوداء وكأنها تهز ردفيها. ازداد صرير الريح. ابتعد عن الباب تاركا الريح تعبث به. بدأ الباب يطقطق وتأكد بما لا يقبل مجالا للشك ان هذه المساحة التي يقف الي جانبها علي جدار الألمنيوم ليست سوي الباب. ابتعد قليلا عن الباب وصار يتطلع اليه وهو يهتز من شدة الريح. ازدادت الريح شدة وفجأة انفتح الباب. وضع يديه علي الباب خشية أن ينغلق حيث ومن شدة الريح اندفع الباب نحو الداخل ثم عاد بقوة نحو الخارج، فدلف مسرعا واصطفق الباب منغلقا. وجد نفسه داخل مبني الألمنيوم. أحس بهواء بارد منعش. لا أحد سوي صوت مكيفات الهواء في كل مكان ولكنه صوت يأتي بنعومة فائقة. كان الهواء باردا حتي نسي أنه عطشان. المبني فارغ تماما. لاشيء .. لا شيء علي الاطلاق. أرض المبني ترابية. مشي . سمع حركة في زاوية المبني الشاسع. تقدم نحو الصوت .. صوت أشبه بالحركة ... لم يكن ثمة ضوء كاف. أحس أنه يمشي بفردة حذاء واحدة علي التراب. كان قد نسي الفردة الثانية خارج المبني. لم تكن الأرض الترابية ساخنة. كانت باردة فنزع فردة الحذاء من قدمه اليمين ورماها فأصطدمت بجدار الألمنيوم وأخرجت صدي. تقدم حافيا علي التراب متجها بهدوء نحو مصدر الحركة ولم ير شيئا.


* سينمائي وكاتب من العراق يقيم في هولندا

القدس العربي في 8 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

الألمنيوم

قاسم حول: أخاف من العقاب لكثر ما عوقبتف