ظاهرة خاصة في السينما الأمريكية بدأت تستوقف النظر ويستحسن الوقوف أمامها ومحاولة رصد أسبابها ونتائجها. وهي ظاهرة الممثلين السود. وبدء سيطرتهم علي السوق التجارية والفنية في هوليوود. في أواخر الثلاثينيات.. وعندما فازت الممثلة السوداء هاني ماك دانيل بجائزة أحسن ممثلة مساعدة عن دورها كمربية لسكارليت اوهارا في فيلم «ذهب مع الريح».. قامت الدنيا ولم تقعد.. إذ كانت أول ممثلة سوداء تحظي بهذا الشرف الكبير.. إذ كانت كل الأدوار الكبيرة التي يفترض أن يقوم بها ممثلون ملونون.. تعهد إلي ممثلين بيض البشرة يتم صبغ بشرتهم باللون الأسود القاتم. كما في فيلم «مغني الجاز» أو حتي الأفلام المأخوذة عن مسرحية «عطيل» لـ«شكسبير» والتي كان يقوم بها ممثلون بيض مشهورون كاورسن ويلز أو لورنس أوليفيه أو حتي باندركشوك الروسي.. يضطرون إلي صبغ بشرتهم مع أن المنطق السليم يقول إعطاء هذا الدور لممثل أسود البشرة يحقق ما أرده المؤلف من أهداف عميقة.. جعلت من «عطيل» واحدا من أشهر وأعمق الشخصيات السوداء في تاريخ المسرح والسينما علي حد سواء. السواد الكامل وحاولت هوليوود في الأربعينيات أن تكسر قليلا من هذه القاعدة، وأن تفسح المجال قليلا لممثلين سود البشرة من اقتحام عالم السينما الأبيض، ولكن ضمن حدود معينة وضمن إطار صغير لا يتغير. ولعل مصير الممثلة السوداء الجميلة «دوروثي واندرج» التي لعبت دور كارمن السوداء يصح أن يكون مثالا حزينا لما صنعته هوليوود بنجومها الملونين وكيف قادتهم ربما دون إرادة حقيقية منها إلي مصيرهم الفاجع. وكان علينا أن ننتظر ظهور نجم أسود ساطع هو سيدني بواتييه الذي فرض نفسه علي جماهيره بموهبته وتألقه وذكائه الفني في اختيار أدواره حتي يتغير مسار هؤلاء النجوم وتتغير نظرة هوليوود لهم. هذا الظهور المدهش الذي تناغم مع ظهور المطرب والممثل الأسود هاري بيلافونت في وقت واحد.. مما أفسح المجال أمام مواهب سوداء كثيرة تتحين الفرص لكي تظهر وتثبت وجودها وإمكانياتها خصوصا مع ارتفاع عدد الملونين في الولايات المتحدة إلي رقم أصبح من العسير تماما علي هوليوود وعلي المجتمع الأمريكي نفسه أن يتجاهلهم. وبعد أن اقتصرت أفلام السود.. علي أفلام سوداء كاملة يلعب بطولتها وأدوارها كلها ممثلون ملونون كـ«هالالويا كنج فيدور» أو «بورجي وبس» الذي أخرجه برمنجر عن الأوبرا السوداء الشهيرة، بدأت هوليوود تعهد ببطولات جانبية ذات أهمية خاصة للممثلين السود إلي جانب نجومها الكبار.. برعوا فيها لدرجة أنهم وصلوا أخيرا إلي الاستئثار بأدوار البطولة المطلقة تاركين للممثلين البيض البشرة لعب الأدوار الثانوية كما كان الحال سابقا معهم. ضابط مخابرات زنجي كل هذه المقدمة الطويلة التي تحتاج إلي شرح أكثر، ودراسة أشد تعمقا.. قادني إليها فيلمان يعرضان في وقت واحد.. بطولة ممثلين سود.. كان لهما الفضل الأول في إنجاحهما وإعطائهما.. الصورة الحية لوضع الممثلين الملونين في هوليوود. الدوران كانا من السهولة بمكان أن يلعبهما نجم أبيض البشرة.. ولكن تغير الظروف وارتفاع أسهم السينما السوداء.. جعل من هذه البطولات أمرا حتميا وضروريا لصانعي هذه الأفلام. الفيلم الأول هو «رجل من نار» الذي يلعب بطولته بامتياز واضح.. وبقدرة مدهشة علي التعبير عن أعماق النفس «دنزل واشنطن» والذي تدور أحداثه في مدينة «مكسيكو سيتي» التي رصدها المخرج بعين ذكية لماحة.. وجعلنا نراها من خلال منظور شعري وسينمائي متميز. و«اشنطن» يلعب في الفيلم دورا معقدا.. عن ضابط سابق في المخابرات.. لا يملك سجلا مشرفا.. تضطره الظروف لأن يقبل أن يكون حارسا خاصا لطفلة أحد الأثرياء المكسيكيين بعد أن تعددت حوادث خطف الأطفال في المدينة.. وتنشأ صداقة غريبة بين هذه الطفلة البريئة والمشاكسة والشديدة العفوية وبين هذا الرجل الذي وضع حول عواطفه سورا من حديد.. لا يريد لأحد أن يقتحمه.. إنه قبل هذا العمل لضرورات مادية بحتة ولا يريد أن يسمح لأية عاطفة حقيقية أن تمس قلبه. ولكن بسبب إهمال غير مقصود.. يتم خطف الطفلة فعلا.. ويصاب الحارس الأسود بطلقات نارية كادت تودي بحياته.. وبعد أن ينجو من الموت بأعجوبة.. يشعر أن عاطفة إنسانية خاصة قد بدأت تتملك قلبه.. وأن إحساسا غامضا بالأبوة كان قد افتقده طوال حياته عاد ليغمر قلبه وعواطفه.. لذلك عندما يقرر بعد شفائه أن يتعقب المختطفين الذين قتلوا الطفلة وأن يثأر لنفسه ولها.. كان يسير وفق خط قدري لا يملك الفكاك منه. إلا أنه يكتشف خلال بحثه الشاق عن المجرمين، حقائق مذهلة تغير من نمط تفكيره ومن حكمه علي الأشياء.. يتضح له أن الطفلة قد اختطفت بمعرفة أبيها.. في سبيل مصالح مادية تافهة كما يكتشف مذهولا.. بعد أن قام بقتل عدد من أفراد العصابة المجرمة.. أن الطفلة لاتزال علي قيد الحياة.. وأن عليه إذا أراد استردادها.. أن يقدم نفسه للموت علي يد رئيس العصابة الذي أفزعه قتل رجاله.. وانكشاف بعض أسراره.. وهذا ما يقبل به البطل الأسود الذي غمر اليأس قلبه بعد أن اكتشف زيف الحياة وزيف جميع الحقائق التي آمن بها يوما.. ولم يعد هناك ما يدفعه إلي متابعة حياته إلا خيط الحب العجيب الذي ربطه بهذه الطفلة والذي نما كالزهرة الوحشية في أعماق قلبه. من خلال كاميرا حية متوثبة عرفت كيف تتغلغل إلي أعماق المدينة المكسيكية وتكشف جمالها الخطر.. وشاعريتها الخفية وطرقها الملتوية وأبنيتها القوطية.. والحياة الهامشية المثيرة التي يعيشها أفرادها الفقراء.. ومن خلال كنائس ذات طراز معماري مميز.. يحاول الفيلم أن يرسم خلفية خاصة للدين وتأثيره علي النفوس.. من خلال هذا الرجل اليائس الذي لا يؤمن بدين ولا دنيا. «رجل من نار» فيلم يملك ميزات كثيرة.. ولكن ميزته الكبري هي ممثله الأول دنزل واشنطن الذي عرف بجهد وصبر وأناة كيف يصبح نجما حقيقيا يقف موقف الند أمام أبطال بيض كبار حاولت السينما الأمريكية منذ بدايتها كيف تجعل منهم أنصاف آلهة. سرقة الكاميرا الفيلم الثاني الرهن» أخرجه مخرج يعتبر الآن واحدا من أهم مخرجي السينما الأمريكية هو «مايكل مان» ولعب بطولته نجم النجوم «توم كروز» أمام ممثل زنجي يسير بطيئا نحو نجومية لم تستقر بعد هو «جابي فوكس». الغريب في الأمر.. أن يسرق النجم الزنجي الناشئ البطولة من أكثر نجوم أمريكا شعبية.. حينما يلعب دور سائق تاكسي فقير.. يحلم بأن يكون لنفسه مشروعا خاصا.. عندما تضعه الظروف أمام قاتل محترف.. يستأجر سيارته.. ثم يأخذه رهينة معه.. حتي يحقق ثأره من خمسة رجال من عصابة شهيرة، ويتابع السائق المسكين الذي يحاول عبثا أن ينجو بنفسه من هذا المأزق الجهنمي سلسلة من المخاطر وجرائم القتل المهولة.. ومن خلال مطاردات تمسك الأنفاس حققها مايكل مان بكفاءة تقنية عالية.. وبقدرة سينمائية تثير العجب والإعجاب.. كالمطاردة في المترو.. أو الملاحقة في الظلام في ناطحة سحاب عالية.. حيث استطاع «مان» أن يمسك بلهاث المتفرج وأنفاسه وتوقعاته حتي اللحظة الأخيرة. المدهش أن «جابي فوكس» هذا لا يتمتع بوسامة النجوم السود الآخرين كـ«ويل سميث» مثلا ولا بالحضور الجسدي الهائل لـ«مايكل جاكسون».. أو القدرة علي التعبير عن خفايا النفس وأعماقها كـ«دنزل واشنطن».. فهو ممثل ممتلئ الجسم.. يقترب قليلا من الكهولة.. ولا تتميز ملامحه بأي من السحر الأسود الذي يميز النجوم الملونين أمثاله.. ومع ذلك استطاع بمهارة وعفوية وبإحساس صادق أن يقتنص البطولة.. من الوسيم القادر «توم كروز» وأن يجعل من نفسه البطل الحقيقي لفيلم «الرهن». العجيب.. ليس قدرة «جابي فوكس» علي إثبات بطولته وتفوقه وإنما الأكثر عجبا أن تقبل الشركة المنتجة والمخرج الكبير هذا الرهان الصعب وأن يتركوا المجال مفتوحا لنجم أسود.. لم يلمع اسمه ولم يثبت كفاءته وقدرته بعد.. لكي يتفوق بسهولة علي «توم كروز» (فرختهم التي تبيض ذهبا). ألا يعني هذا تحولا واضحا في سياسة السينما الأمريكية تجاه ممثليها السود. وأن الشركات الأمريكية الكبري بدأت تحسب حساباتها حول تأثر عدد الجماهير السوداء التي تحتل قاعات العرض.. وتأثيرها الحقيقي علي الإيرادات. وأن الحساب الأكثر أهمية لدي صناع الفيلم في أمريكا.. لم يكن أبدا الخلفيات السياسية والاجتماعية والانتماء والدفاع عن قيم خاصة.. بل إن الحساب النهائي لسياستها هو كمية الأرباح التي تأتيها.. ومصدر هذه الأرباح.. ضاربة بعرض الحائط بكل ما يبتعد عن هذه القاعدة الأساسية التي جعلتها هوليوود منذ بداياتها أساسا حقيقيا لإنتاجها وللتعامل مع نجومها.. سواء الذين صنعتهم أو صنعوا أنفسهم بموهبتهم وذكائهم وحضورهم القوي. جريدة القاهرة في 5 أكتوبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
رفيق الصبان يكتب عن «رجل من نار» و«الرهن»: غزو زنجي كاسح للسينما الأمريكية |