السينما العربية التجارية كانت وما زالت تسعى نحو الربح المادي متوسلة طريقها إلى ذلك عبر تلبية رغبات مفترضة من قبل الجمهور الشعبي، خاصة من جيل الشباب، ولأن هذا الجمهور يعيش واقعا تحكمه التناقضات المختلفة التي تنعكس عليه، فهو من ناحية لا يزال تحت تأثير العادات والتقاليد التي نشأ عليها والتي تظل تحكم استجاباته للعديد من المظاهر الحياتية، ومن ناحية ثانية لأنه لا يستطيع مقاومة إغراءات الحياة الحديثة التي تجعل سلوكياته تتأثر بمظاهر الحياة الغربية ومفاهيم المجتمعات الرأسمالية، لهذا هو يعاني من ثنائية أو ازدواجية حضارية، تتجلى في منحيين، أحدهما سلفي يمتلك موقفاً مفهومياً “نظرياً” سلبياً من تطورات الحياة المعاصرة، وثانيهما عصري، يتجاوب في وعيه الباطني مع روح العصر، ينعكس هذا التجاوب على بعض سلوكياته. وبالعلاقة مع وجهة النظر هذه فإنه يحق لنا نظرياً، على الأقل، افتراض أن السينما العربية تحاول أن تلبي رغبات الجمهور بجانبيها الاثنين، أي النقدي السلفي والإيجابي العصري. وإذا كانت السينما العربية، حسب ما يتهمها النقاد عادة تمارس عملية تخدير، وكان الجمهور السينمائي العربي يخضع لهذا التخدير، وإذا كان هذا التخدير يلعب على الجانب الاخلاقي في النهاية من خلال انتصار الخير على الشر، فإن ذلك كله يجب ألا يمنعنا من ملاحظة الإشباع الأولى للجانب الثاني المرتبط بالترويج لأنماط العلاقات الاجتماعية المعاصرة التي قد لا تتلاءم تماما مع المفاهيم الأخلاقية المتوارثة، ومن البحث في آلية هذا الإشباع وتحديد الحجم الفعلي سواء لدرجة الإشباع أو لدرجة التخدير. هذا البحث لا يمكن أن يكون سليماً وأن يسير في الاتجاه الصحيح، إذا اعتبرنا، وكما هو شائع في النقد اليومي للأفلام المصرية الذي يمارسه النقاد والصحافيون على صفحات الجرائد والمجلات، أن السينما المصرية العربية منفصلة عن الواقع العربي ومعزولة عن مرحلة التطور التي يعيشها الوطن العربي منذ بداية القرن وحتى يومنا هذا. والحقيقة أن هذه السينما ليست معزولة، بل هي ملتصقة بالواقع العربي، هذا إذا أخذنا في الحسبان حقيقة أنها تحمل في ذاتها تناقضات المجتمع نفسها ولكنها هنا لا تحمل التناقضات بشكل بريء، بل بشكل موجٌه، لخدمة طبقة دون طبقة وأوضاع دون أخرى، وخصوصاً لخدمة رأس المال الذي يصنعها ويعاملها وسيلة للربح وللاستثمار المالي، إلى جانب كونها وسيلة للتأثير الفكري والعاطفي. البحث إذن، لن يسير في الطريق الصحيح إلا إذا أخذت في الحسبان الخواص المشتركة بين هذه السينما والمجتمع العربي في مرحلته التاريخية من جهة، وبين تكوين الإنسان العربي النفسي والاجتماعي والأخلاقي والفكري في هذه المرحلة من جهة أخرى. ومن هذه الخواص المشتركة نذكر خاصية التناقض البنيوي، فالمجتمع العربي يعيش تناقضات على مستوى علاقات الإنتاج وتحديد الهوية الاقتصادية للمجتمع، تحديد هل هو مجتمع اقطاعي أم برجوازي أم يسير في اتجاه دولة الشريعة. المجتمع العربي يعيش التناقض على المستوى الأيديولوجي حيث تتعايش المفاهيم العلمية أحياناً وتتصارع أحياناً أخرى مع المفاهيم الغيبية والمثالية. والمجتمع العربي يعيش حالة التناقض بين العادات الموروثة والبنى الأخلاقية الجديدة التي تفرضها طبيعة التقدم الموجود رغم كل شيء. سينما أخلاقية ووعظية نلاحظ في السينما العربية حالات من التناقضات التي تبدو واضحة في معظم الأفلام. إنها تناقضات تقوم بين تصوير لمجتمع معاصر وتكريس لمفاهيم قديمة. تناقضات بين استغلال الشر لجذب الجمهور إلى شباك التذاكر والدعوة إلى الخير والخ.. وهذه التناقضات المشتركة يمكن اختزالها وتبسيطها بالقول إنها التناقضات بين التقدمية والسلفية في جميع المجالات الحياتية. الجانب الآخر من الخواص المشتركة والذي يمكن ذكره هنا هو غلبة المفاهيم الأخلاقية المطلقة على المفاهيم الفلسفية السياسية المحددة تاريخياً وطبقياً. تلعب المفاهيم الأخلاقية دوراً أساسياً في حياة عامة الناس ضمن مجتمعنا العربي، وهي مفاهيم ناتجة عن التراث الحضاري والغيبي. وفي السينما العربية التجارية نلاحظ أن المواقف الأخلاقية والتوجيهات الأخلاقية هي الشكل السائد في التأثير السينمائي. هذه الخاصية المشتركة تدعونا إلى قول ما يلي: من الخطورة بمكان أن نتجاهل دور المواعظ الأخلاقية في السينما العربية. ذلك لأن الموعظة كحالة مجردة أو مطلقة، تلاقي تجاوباً وقبولاً واسعاً من قبل عامة الناس، والذين تلعب هذه المواعظ في حياتهم اليومية دوراً أساسياً جوهرياً. تزوير الواقع ومن الخواص المشتركة أيضاً، الاعتماد على الانفعالات الحسية في التصرف اليومي أكثر من الاعتماد على المنطق والتحليل الفعلي المتروي. ولهذا الاعتماد على الانفعالات الحسية جانب آخر ينتج عنه، وهو تقبل الحياة والتأثر بها انفعالياً وحسياً. وهذه الوسيلة، أي التأثير الانفعالي الحسي، هي ما تستخدمه السينما المصرية عند توجهها إلى جمهورها. إنه بالإمكان الدخول في المزيد من هذه الخواص المشتركة وتفصيلاتها وتنويعاتها، ولكن ما يهمنا هنا بشكل خاص هو الإقرار المبدئي الأولي والتبسيطي بوجود هذه الخواص، كي لا تكون نظرتنا إلى السينما المصرية أحادية الجانب، ولنتمكن من تحديد أين تكمن درجة الاختلاف الفعلي، وأين تكمن درجة التزوير الذي تمارسه هذه السينما على الواقع؟ وأين تكمن درجة تشويه الحقائق التي تعتمد على التعمية والدجل وتقود إلى تكريس ونشر المواقف والمفاهيم الرجعية والمعادية للتقدم. إن ما يهمنا هنا هو تحديد الكيفية التي يتحول فيها الإنسان العربي إلى عدو لنفسه ومستقبله تحت تأثير وسائل ومفاهيم هذا النمط من السينما المصرية. إذا ما نظرنا إلى العلاقة بين السينما صناعة ووسيلة أيديولوجية فنية وجمهورها من زاوية أخرى، فسنجد أن هذه العلاقة ليست على الإطلاق من جانب واحد، بمعنى أن التأثير لا يكون من جانب واحد فقط، أي أن التأثير لا يكون من جانب السينما في الجمهور بل إن الجمهور يمارس تأثيراً ما في السينما نفسها. الجمهور هو الخاسر إن المواضيع التي تكررها السينما التجارية استجابة لرغبات، أو بالأحرى لأذواق المتفرجين، هي التعبير الأول عن العلاقة بين المتفرجين والسينما. العلاقة إذن، هي كما ذكرنا، ليست أحادية الجانب، والتأثير بين السينما وجمهورها هو متبادل، رغم أن الغلبة الأخيرة في هذا المجال تحسب لمصلحة السينما، حيث الجمهور يبقى هو الخاسر الوحيد. وأما مسألة لماذا هذه المواضيع مستمرة وتأثيرها مستمر، فهي تحتاج إلى جهود علم الاجتماع وعلم النفس للإجابة عنها، وهذه الجهود هي جزء من المساعدة الفعلية التي يمكن أن يقدمها علم الاجتماع وعلم النفس للنظرية السينمائية خصوصاً، وللنظرية الجمالية عموماً. أما ما يخص نظرية السينما في هذا المجال فهو تحديد ما هي هذه المواضيع، وما الكيفية التي تعالج بها سينمائياً، وبأي هدف؟ هذا يعني أن على النظرية السينمائية أن تحلل بعمق الأنواع السينمائية وطرائق البنى الدرامية والخصائص الأسلوبية والتعبيرية السينمائية، في علاقتها مع المواضيع التي تتطرق إليها، وفي قدرتها على التأثير في جمهور المتفرجين. ويجب على النظرية السينمائية أن تحلل كل الخواص الأسلوبية والبنى الدرامية في علاقتها مع الموقع الفكري والسياسي لصانعي الأفلام، في علاقتها مع طبيعة الطبقة الحاكمة وحاجتها ومصالحها الدعائية، إن مثل هذا العمل التحليلي، لا يمكن أن يكون جهداً فردياً شخصياً، بل لا يمكن أن يكون جهداً محض سينمائي، على الرغم أنه دون الإجابة عن الأسئلة التي تتعلق بالسينما نفسها، يصبح من الصعب الوصول إلى نتيجة محددة. مصالح فوقية ودعائية إن الوصول إلى هذه النتيجة أمر ضروري إذا ما أردنا التأثير في الدور الذي تلعبه السينما وتحويلها إلى أداة لخدمة تقدم الإنسان العربي. إن ذلك ضروري لكي لا نبقى أمام الوضع الغريب وغير المعقول، الذي نرى فيه أن السينما تلبي حاجات عند الجمهور من جهة، وهي نتيجة لذلك بالضبط تلعب دوراً سيئاً إجمالاً في حياة هذا الجمهور وفي تكوينه النفسي والأخلاقي والفكري من جهة أخرى. إن الاستنتاجات الأولية في هذا المجال، تشير إلى خاصتين رئيسيتين بالنسبة لتوجه السينما في طرح المواضيع والقضايا الحياتية، وبالنسبة لإشباع حاجات الجمهور من خلال الوسائل المستعملة في عرض هذه المواضيع والقضايا. الخاصية الأولى، أن السينما تطرح دائماً مواضيع ذات علاقة ما بالواقع ولو من ناحية شكلية، تطرح قصصاً ومواقف وشخصيات واقعية بخطوطها العامة أو الخارجية، أو على الأقل قادرة على الإيهام بواقعيتها، ولكي نكون أكثر دقة، نقول إن الواقعية هنا تفهم على نحو تبسيطي، أي كسينما “شعبية”. ويشعر الجمهور السينمائي العادي أن السينما المصرية تعالج مشاكل يعرفها ويراها حوله في الحياة اليومية. وأسلوب المعالجة هذا، أو بالأحرى مستوى المعالجة، يقترب من المستوى الثقافي المتدني عند عامة الناس، كما يقترب من نوعية تفكيرهم وأخلاقياتهم ونفسياتهم. إن الثقة مبدئياً تتولد بين السينما المصرية وجمهورها. وعند هذه النقطة على الأغلب يبدأ التحول في مسار أو في نتائج هذه الثقة. فإذا كانت السينما المصرية تتطرق إلى مواضيع ومشاكل واقعية، فإنها لا تتطرق إلى الجوهري فيها، بل إلى الخارجي، الشكلي والعرضي. إن جوهر الحقيقة يبقى مختفياً أو مخفياً ولا تبرز منه إلا القشور. هذا إضافة إلى أن طريقة عرض وربط المواضيع والقضايا هي طريقة لا تعتمد على التحليل المنطقي، أو على تقصي الأسباب والنتائج حول ما يعرض، بل تعتمد على المصادفات غير المعقولة، وأكثر من هذا، فهي تعتمد على تشويه الأسباب وبالتالي على تسوية النتائج. إن الأحداث والعلاقات ترتبط بنتائج غير سوية وغير موضوعية. كما أنها ترتبط بتفسيرات غير علمية وغير منطقية، يراد من ورائها إخفاء الحقيقة، بل وتشويهها. وللتيقن من هذه النتيجة تلجأ السينما المصرية إلى الخاصية الرئيسية الثانية. وهي ترتبط بالأولى، من حيث هي وسيلتها. هذه الخاصية الثانية، هي إشباع الحاجات عند المتفرج. ولكن ليس الحاجات المعرفية العقلية. بل الغرائزية، والتنفيس عن الرغبات المكبوتة، ومنها الرغبة الجنسية، والرغبة في تسلق السلم الاجتماعي، زيادة على ان المفهوم التجاري للسينما المصرية يقوم على الوظيفة الترفيهية فقط، ونقصد من ذلك الحالات المرتبطة بإشباع الغرائز والرغبات المكبوتة. تنفيس ورغبات مكبوتة إذن، هناك خاصيتان تتبادلان التأثير في المتفرج، تلبي إحداهما جزئيا وشكلياً وسطحياً بعض مطالبه المعرفية وتلبي الثانية حاجة التنفيس عن الرغبات المكبوتة. فما الآلية التي تلجأ إليها هذه السينما للوصول إلى مثل هذه النتائج؟ تتسم السينما التجارية بخلوها من المنطق. وإذا كانت السينما بطبيعتها وبحكم إمكاناتها المجازية تتناقض مع المنطق كلما قلت السيطرة على تماسك بنيتها السردية الدرامية، فإن اختفاء هذه السيطرة كلياً، يقود السينما إلى أدنى دركات السوء والتفاهة. ولكن الفيلم السينمائي بحاجة، لكي يؤثر في المتفرج، إلى وسيلة ما، ومادام البحث عن هذه الوسيلة لا يتم في العقل والمنطق، فإنه يجري البحث عنها في الغريزة. والتأثير في الغريزة يصبح وسيلة من أهم وسائل التأثير في البناء الدرامي لهذه السينما، وهي لا تكتفي بالتأثير، ولكنها تتطلب منع عقل المتفرج من التفكير وتحليل ما يرى على الشاشة من أحداث وعلاقات وشخصيات. وكذلك، تلجأ السينما إلى تزييف مقصود يشمل كل شيء. وهو أمر يؤدي بالضرورة إلى خلل في السرد الروائي وإلى عدم منطقية ما يجري على الشاشة من أحداث. وتصبح المصادفات والمفاجآت العرضية وسيلة الربط الأكثر شيوعاً هنا. إذ ذاك، تأتي الميلودراما، الصيغة المستعملة على نطاق واسع في السينما، لتكمل الوظيفة الغرائزية ولتشعب مجالات عملها. أفكار في المطلق إن السينما من حيث المبدأ، تكون وسيلة للتعبير عن الأفكار ووسيلة للتأثير في العقول والأحاسيس. وهكذا فإن السينما المصرية، إذ تطرح مواضيع ومشاكل اجتماعية لا تعالجها من الناحية الفكرية العلمية إلا عرضاً أو هي تضع هذه الأفكار ضمن جو عام مطلق، من دون تحليلها بشكل عياني ملموس، أو ربطها بشرطها الاجتماعي التاريخي. وحتى الآن، في السينما السائدة التجارية، النتيجة الفكرية التي يصل إليها أي فيلم تعبر دائماً عن أيديولوجيا الطبقة المسيطرة وتخدم مصالحها وتبقى رغم كل شيء فكرة في “المطلق”. أما وسيلة التأثير، فيمكن تقسيمها إلى نوعين رئيسيين : الأول هو التأثير في الأفكار بحد ذاتها، والثاني هو التأثير في العواطف، مع الأخذ في الحسبان أن التأثير في العواطف نسبي، وأن التأثير يتجه بالدرجة الأولى نحو ابسط أنواع العواطف وأكثرها مباشرة، أي العواطف المتعلقة أصلاً بالغرائز الطبيعية، التي هي في معظمها في حالة من عدم الإشباع واقعياً، أو بتعبير آخر مكبوتة. إذن، فإذا كان الفن الحقيقي يتجه نحو الإقناع بالحقائق الفنية، فإن الفن المزيف يعتمد على التأثير بأسهل أشكاله. الخليج الإماراتية في 4 أكتوبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
السينما التجارية وتسويق الوهم زيف أخلاقي ونمطية واستجداء الشباك عدنان مدانات |