شعار الموقع (Our Logo)

 

 

في ركن ركين من أحد مخازن الأفلام في المركز القومي للسينما يقبع منزويا شريط من الفيلم السينمائي الأسود / أبيض مقاس 35 مم، يدور طوله في الفراغ حول تسعمائة قدم وفي الزمن حول عشر دقائق.. هذا الشريط يحتوي علي واحد من كنوز السينما التسجيلية في مصر، تلك الكنوز التي بدأت تندثر تحت ركام من أتربة الإهمال النقدي واللامبالاة الثقافية، ناهيك عما يمكن أن تتعرض له من الإهمال واللامبالاة الماديي؟؟ ذاتهما.

تري كم من أجيال السينمائيين الجدد في العقدين الأخيرين، ومن يناظرهم من نقاد السينما الجدد، سمعوا عن فيلم «حصاد» الذي أخرجه المخرج السينمائي التسجيلي المصري المتميز حسام علي قبل ثلاثين عاما  من الآن.

هل نبدأ القصة من أولها؟ربما يكون ذلك أفضل. يروي عن «حسام علي» أنه بمجرد اندلاع حرب الأيام الستة في يونية 1967 وعقب الهزيمة العسكرية المدوية، كان شأنه شأن الكثير من جدا من الشباب المصري ـ إن لم يكن كل هؤلاء الشباب تقريبا ـ الرافضين لفكرة  هذه الهزيمة المباغتة فأبدي رغبته في التطوع للوقوف علي جبهة القتال دفاعا عن الوطن في مواجهة العدو الإسرائيلي والحقيقة أنه لم تلبث أن مرت شهور وجيزة إلا وانتهي حسام علي من إتمام دراسته في المعهد العالي للسينما، ثم انخرط في سلك الجندية، وخلال مدة انتظامه في الخدمة العسكرية حقق فيلما تسجيليا قصيرا من إنتاج الشئون المعنوية للقوات المسلحة المصرية، هو «صورتي الجديدة» 1971، من المرجح أنه نوع من التعبير الفني الصادق عن تجربته الشخصية في التحول من الحياة المدنية إلي حياة  الجندية، في ظروف أدعي ما تكون للالتفاف حول القضية الوطنية في ذلك الوقت. وخلال فترة انتظامه بسلك الجندية التي تطول حتي أوائل عام 1974 وبالتحديد مارس 1974 تاريخ  فك الاشتباك الأول بين القوات المسلحة المصرية والجيش الإسرائيلي، خلال فترة التجنيد هذه يحقق حسام علي فيلمه التسجيلي الثاني، من خلال الاشتراك في تقديم فقرة من الفقرات الفيلمية التي يضمها العدد الأول من الجريدة السينمائية المصرية المصورة، التي عرفت باسم «مجلة مصر اليوم» ـ إنتاج المركز القومي للأفلام التسجيلية، العدد الأول 1972، فكان أن أخرج حسام علي فيلم «إجازة ميدان» 1972 الذي يستغرق عرضه حوالي خمس دقائق يعبر من خلاله عن ذلك التناقض بين جبهة القتال المصرية حيث يعيش المقاتلون المصريون حياة التدريب العسكري الشاقة، وتجارب المعارك والعمليات العسكرية المستمرة، استعدادا ليوم الجهاد من أجل استعادة الكرامة المسلوبة، والأرض المغتصبة، وبين مدينة كبري مثل العاصمة «القاهرة» حيث يحيا البشر في دعة وطمأنينة، ويمارسون حياتهم بأسلوب يخلو ـ علي الأقل في ظاهره العام ـ من أية مظاهر تعبر عن أن كلا من جبهة القتال ـ في قناة السويس والقاهرة  ينتميان إلي نفس الوطن الذي يعاني من ويلات الهزيمة، وفي نفس الوقت يستعد لحرب التحرير. وفي عدد من المقابلات بين المظاهر الاستفزازية لحياة القاهريين وبين ممارسات الجنود المصريين في الجبهة وميادين التدريب العسكري الشاقة، يعمد فنان الفيلم إلي استفزاز مشاعر مشاهديه، من خلال تلك المقابلات المستمرة بين الحياة في جبهة القتال وحياة المواطنين في مدن مصر الداخلية، التي تعد القاهرة النموذج الأكبر لها، في هذا السياق من السينما التسجيلية كان فيلم حسام علي جديدا وفي نفس الوقت يحمل قيما تعبيرية عالية خاصة من خلال طرح التناقض بين الحياة علي جبهة القتال والحياة داخل القاهرة التي لا تبعد عنها إلا بضعة عشرات من الكيلو مترات في أغلب الأحوال، ليصبح فيلم «إجازة ميدان» صرخة فنية مبكرة في وجه المرفهين من أهالي المدن والبلاد المصرية ليعرفوا إخوة لهم ساهرين في أبراج الحراسة أو متمترسين في الخنادق، يمضون أيامهم في أشق التدريبات وأعنفها استعدادا ليوم آت لا ريب فيه.

لذلك كله لم يكن غريبا أن يكون حسام علي واحدا من فناني السينما المصرية التسجيليين، الذين يشاركون في تغطية بعض مظاهر النصر الذي حققه الجيش المصري في أكتوبر 1973 فيرقق في عام 1974 فيلمه التسجيلي القصير «حصاد» 10 دقائق، الذي يفتتحه حسام علي بتقديم لوحة باسم الفيلم فلوحات أسماء العاملين فيه بطريقة مبتكرة توحي بطابع الرسالة الإخبارية التي يحملها الفيلم ويرسل بها للجميع، حيث تكتب الأسماء بالحروف البيضاء علي لوحات سوداء، حرفا حرفا، وكلمة بعد كلمة بطريقة التلغراف الصحفي الكاتب «تيكرز» الذي كان يستخدم في هذا الوقت خاصة أن الفيلم يبدأ بمراجعة بيانات وتصرحات وردت في الصحافة الإسرائيلية خلال عام 1973 فيستهل فنان الفيلم عمله الفني بافتتاحية تقدم صورة من صور الصلف الإسرائيلي المشهور، الذي يستند إلي غرور القوة الذي صاحب الدولة العبرية، منذ انتصارها العسكري الخاطف عام 1967 ليصبح الخطابان الرسمي والشعبي معا هناك لا يعبران إلا عن هذا الصلف، ولكن حسام علي يؤثر أن يقدم الخطاب الرسمي بوضوح وهو يأتي علي لسان وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان في مايو عام 1973 أي قبل اندلاع حرب أكتوبر 1973 بشهور غير كثيرة فجاء ذلك عبر القراءة التقريرية ذات النغمة الهادئة المحايدة لترجمة جزء من خطاب موشي ديان يعلن فيه وزير الدفاع الإسرائيلي بكل غطرسة عن مدي قوة إسرائيل العسكرية، في هذا الوقت أي قبل الحرب بشهور قليلة، كما تشير هذه القراءة الصوتية المحايدة للغاية من خلال هذه الافتتاحية الفيلمية أيضا، إلي مضمون المحاضرة التي ألقاها وزير الدفاع الإسرائيلي في شهر أغسطس من نفس العام أي قبيل الحرب بأسابيع قليلة ـ نشرتها صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية ـ ؤكد فيها ديان علي قوة إسرائيل في مقابل ضعف العرب، الذي جعل ميزان القوي في صالح إسرائيل ويقارن بكل عجرفة بين التفوق العسكري الإسرائيلي في مواجهة العرب وكذلك بين إمكانات الجندي الإسرائيلي فائقة التقدم، في مقابل إمكانات الجندي العربي المتخلفة.

وتأتي قراءة هذه  البيانات الصحفية بصوت محايد مصاحبة لعدد من اللقطات الأرشيفية الخاصة بالاستعراض العسكري الإسرائيلي الذي تم في مايو 1973، بمناسبة ذكري إعلان قيام الدولة العبرية في أعقاب صورة أرشيفية ثابتة لـ «موشي ديان» تالية لصفحة «هاآرتس» التي تضمن تصريحاته.

وبعد هذه الافتتاحية الفيلمية المعبرة عن مدي الزهو بغرور القوة لدي الدولةالعبرية، يقدم فنان الفيلم عددا من المشاهد ذات الأصل الأرشيفي أيضا، تعبر عن اللحظات الأولي ثم الساعات الأولي من حرب أكتوبر 1973 وكان اختيار فنان الفيلم للقطات المعبرة عن ميدان القتال اختيارا ذكيا غير تقليدي فكان مختلفا في شكله العام عن تلك الاختيارات المتكررة في كثير من الأفلام التسجيلية التي تعرضت لحرب أكتوبر «تذكر ذلك المشهد المتكرر للجنود يحملون القوارب المطاطية وهم يتجهون إلي مياه القناة.. إلخ» وهذا النوع من الاختيار غيرالتقليدي هنا هو في حقيقته امتداد لنفس اتجاه فنان الفيلم نحو الخروج علي اللقطات التقليدية في هذا المجال، الذي بدأه في فيلم «إجازة ميدان» عندما اختار مواقف غير تقليدية من ميدان التدريب العسكري ومن الحياة في الجندية.

ولكن فنان الفيلم سرعان ما ينتقل من اللقطات الأرشيفية الخاصة بصخب القتال، إلي لقطات حية لساحة القتال ذاتها بعد توقف إطلاق النار بما تتضمنه هذه الساحة من آثار للنزال العسكري بعد هدوء المعارك من خلال مشهد سينمائي نادر التكرار يرد بكل هدوء، بل يرد من خلال الصمت البليغ علي كل مظاهر الصلف الإسرائيلي، والزهو بغرور القوة، الذي كانت ذروته هي موضوع افتتاحية  الفيلم من خلال الاستعراض العسكري «صورة» والتندر بضعف العرب وجهلهم «صوتا» إذ يقدم فنان الفيلم مشهده البليغ هذا من ميدان القتال لدبابات العدو الإسرائيلي وآلياته المحطمة، التي تجثم علي رمال الأرض المصرية المحررة في صمت تام لا يوحي إلا بالضياع والوحشة معا، يؤكده فنان الفيلم بتلك اللقطات القريبة لأرقام الدبابات الإسرائيلية التي دمرها الجنود المصريون هؤلاء الذين كان موشي ديان يسخر منهم حتي أسابيع قليلة مضت قبيل ذلك ويعقب ذلك عودة أرشيفية خاطفة لمظاهر القتال في حرب 1973 لينتقل بعدها فنان الفيلم إلي الهدوء والصمت معا وهو يصور قاربا مصريا يحمل عددا من الأسري الإسرائيليين من أرض المعركة تحت حراسة جنود الجيش المصري، وهنا يقدم الفيلم أحد هؤلاء الأسري، ـ وهو ضابط إسرائيلي شاب ـ يدلي بشهادته الكلامية بطريقة مباشرة تتم ترجمتها بالكتابة العربية علي الشاشة، وبدون أن نري وجهه بوضوح يعلن عن اسمه وهويته ورتبته كضابط في الجيش الإسرائيلي، ثم يعبر عن استيائه من الحرب بصفة عامة وعن استيائه من قادة الحرب الإسرائيليين الذين يقبعون في المؤخرة يستمتعون بكل شيء، بينما يتساقط جنود  الدولة العبريةما بين قتلي وجرحي وأسري حرب ويبدو أنه يمكن أن نرجح أن هذه أول إشارة إلي أحد مظاهر التناقضات الاجتماعية داخل الدولة العبرية، وهو الأمر الذي يدفع الناقد السينمائي سامي السلاموني لكي يفلسف هذه التناقضات أيديولوجيا فيري أنها تجعل إسرائيل تدفع الشباب لخوض الحرب الإمبريالية دفاعا عن مصالح الطبقة الحاكمة المستفيدة سياسيا واقتصاديا من تلك الحرب والقابعة في الخلف بعيدا عن خسارة مباشرة. (نشرة نادي السينما بالقاهرة 16 / 4 / 1975).

إلا أن أهم  جزء من شهادة هذا الضابط الإسرائيلي الأسير، هو ما يشير فيه إلي حقيقة صفات الجندي المصري المقاتل في هذه الحرب، حيث يضيف في شهادته: «لقد رأيت المقاتل المصري يحارب بشجاعة، ويبدي كفاءة قتالية عالية وقد كان يفتح نيران أسلحته الخفيفة ضد دباباتنا، ومع ذلك لا ينتابه أي خوف»، ثم يردف الضابط المأسور شهادته هذه بختام بليغ غير متوقع بالمرة وهو يقول: «صدقوني إنني أتحدث من القلب» ليقدم فنان الفيلم بعد ذلك مباشرة عددا من اللقطات لطوابير الأسري الإسرائيليين خاصة وهم جالسون في صفوف طويلة، في شكل طوابير ممتدة، وأغلبهم يعقد يديه فوق رأسه، أو يعقد ساعديه خلفها، وآخرون موثقة أياديهم وكل الوجوه التي يمكن  أن تطالعها الكاميرا تحمل ملامح الإحساس بمرارة الهزيمة المؤخرة هذه وكأن لسان حال كل منهم ينطق بما أدلي به زميلهم السابق.

إلا أن هناك جديدا آخر يقدمه فنان الفيلم بكل جرأة وهو يجرب أسلوبا فنيا يمكن لمن يتابع أفلام حسام علي أن يلاحظ أنه يتطور معه إلي آفاق أكثر اتساعا في أفلامه اللاحقة، إذ يقدم أغنية «غير عربية» تصاحب الفيلم منذ اقتراب المشهد السابق عن نهايته، وتستمر مصاحبة  لطوابير الأسري الإسرائيليين وحطام  أسلحتهم، خاصة الدبابات والأغنية هنا هي أغنية عبرية لمغن إسرائيلي تنساب في الفيلم تدريجيا وبسلاسة من خلال مقدمتها الموسيقية لكي تحمل كلماتها المترجمة علي شريط الفيلم، مرثية غنائية للجنود الشباب الذين يروحون ضحية لهذه الحرب إذ تقول كلمات هذه المرثية الموسيقية «التي يقال إن مغنيها هو واحد من شباب الجيش الإسرائيلي علي جبهة الجولان في حرب أكتوبر 1973»: انطلق شباب العشرين، ركبوا السيارة خرجوا للشارع، برنين الصوت الذهبي، والرغبة تطل في العين، نادي ناد أبناء العشرين، السلام، السلام من داخل  عربة مصفحة، كمن يمارس عملا سريا في الموقع ومن خلف المدفع لشظايا الصلب، للنار الملتهبة، ووسط نداءات الحرب المحمومة، ليوم الموت المنتظر في كل طريق، صرخ شباب العشرين السلام السلام لم يتحرك شيء، حتي سعف النخيل، وكانت النهاية أسماء محفورة فوق صخور قبور متناثرة».

والحقيقة أن صوت الأغنية ينتقل في أجزائها الأخيرة مع لقطات للأسلحة المدمرة الرابضة علي أرض معرض الغنائم في القاهرة، فقبور الإسرائيليين لم تكن في الأرض إبان معارك 1973 بقدر ما كانت داخل مدرعاتهم وآلياتهم الحربية، وهنا تكمن ذروة البلاغة الفنية في استخدام هذه الأغنية، تلك البلاغة التي لم يشر إليها أحد من قبل، علي الرغم من التقدير النقدي للقيمة الأدبية والفنية الحقيقة لطرح مثل هذه الأغنية العبرية من خلال الفيلم وهو ما يعبر عنه الناقد  سامي السلاموني بقوله:

و«هذا الاستخدام الذكي لأغنية  عبرية لمقاتل إسرائيلي في فيلم مصري هي أجرأ ما في الفيلم وتوظيفها الجيد سينمائيا يعطيه قيمته الحقيقية وما يميزه عن كل أفلام أكتوبر الأخري التي تكرر نفس الكلام، بل إن هذه الأغنية هي ما تعطي للفيلم حتي قيمته الإعلامية رغم أن النظرة الضيقة قد يخيفها أن يقدم فيلم مصري مقاتلا إسرائيليا يطلب السلام ولكن النظرة الجريئة وواسعة الأفق،  تربط بين هذه الأغنية وبين صدورها بعد حرب أكتوبر بالذات، أي أن النغمة قد تغيرت هناك». (المصدر السابق)

والحقيقة التي يمكن أن يذكرها تاريخ السينما التسجيلية في مصر أن هذه الأغنية العبرية قد أثارت كثيرا من الجدل عند عرض الفيلم في إحدي الندوات السينمائية «نفس المصدر» حيث رأي فيها البعض أنها يمكن أن تثير التعاطف مع «المغني المقاتل» الإسرائيلي، وهو ما يري فيه سامي السلاموني أنه لن يكون تعاطفا ضد الفيلم وإنما معه لأن مثل هذه الأغنية علي حد قوله تعني تغير النعرة الإسرائيلية إلي الحزن والانكسار، وتعني أننا لسنا دعاة حرب بربرية كما يدعي العدو، «نفس المصدر» كما تصف المونتيرة السينمائية صفاء الليثي هذا النوع من الأسلوب الفني في الفيلم بأنه نوع من ا لتناول الراقي والهادئ ليجيء الفيلم مختلفا بعيدا عن التفاخر والنبرة العدائية، «مجلة الفن السابع» القاهرة العدد 24 نوفمبر 1999، ولكن كلا من سامي السلاموني عام 1974 وصفاء الليثي عام 1999 يخرجان بانطباعات لا تتسق مع تاريخ العسكرية الإسرائيلية بصفة عامة ذلك أن معارضة الأجيال الإسرائيلية الجديدة  لحروب الدولةالعبرية، وهي الأجيال التي علي حد قول السلاموني «تذهب وقودا لهذه الحروب» هي تبدو دائما في عيني الفاحص المدقق معارضة وقتية ترتبط بظرفين مؤقتين.

أولهما:  أن الجيل الجديد في إسرائيل يتحول مع الزمن إلي جيل سابق وجيل قديم معتق لا تعود الحرب تفزعه بقدر ما تغريه الرغبة في التوسع وفي الاستيطان في أرض ليست له. وثانيهما: أن مرارة الهزيمة تقل وطأة مذاقها اللاذع مع مرور الزمن، فالإحساس بمرارة الهزيمة عام 1974 خلال الشهور الأولي اللاحقة للحرب يختلف عن نظيره بعد ثلاثين عاما مثلا ومن جهة أخري فإن إشارة صفاء الليثي إلي أن التناول الراقي والهادئ من فنان الفيلم لقضية الحرب الإسرائيلية العربية بأنه علي حد قولها: يعني انظروا إنه حصاد حرب ضد الإنسانية، حرب لا يريدها أحد» «مجلة الفن السابع» «المصدر السابق» هذه الإشارة تجمع بين مشاعر هي في حقيقتها علي طرفي النقيض إذ أن تاريخ الدولة العبرية خاصة منذ تسعينيات القرن الماضي وحتي الآن نشرت صفاء الليثي مقالتها في نوفمبر 1999 يدل دلالة قاطعة علي أن الحرب مع الجيران جزء لا يتجزأ من وجودها ذاته حتي الآن فهي دولة نستطيع أن نصفها إذا جاز لنا هذا الوصف، بأنها «صانعة للحروب».

وفي كل الأحوال فإن الأمر لا يمنع أن يوجد هناك عدد من الشباب الإسرائيلي المعارض للحرب، ولكنهم بالطبع ليسوا كل من في إسرائيل بل أثبتت الأيام أنهم أضعف من أن يؤثروا في حقيقة الدولة العبرية كدولة نراها «صانعة للحروب» خاصة بعد أن أفاقت من دوار الهزيمة المباغتة في حرب أكتوبر 1973 فتمادت في التسلح الهجومي وبدأت جولتها في التهديد بالقوة من جديد.

ولكن الذي لم يلتفت إليه النقاد عامة بالنسبة  إلي فيلم «حصاد» الذي تم إنتاجه عام 1974 بعد كم من الأحداث السياسية و العسكرية اللاحقة علي حرب 1973 ذاتها، أن الفيلم في تاريخ تحقيقه يعد دعوة مسبقة للسلام تتسق بالتحديد مع خطبة رئيس الدولة في مصر التي ألقاها أمام مجلس الشعب عقب الحرب بأيام في 16 أكتوبر يعلن فيها أنه علي استعداد لمد جسور السلام مع الدولة العبرية، إذا أرادت، بعد أن أثبتت حرب 1973 خطأ نظرية الأمن الإسرائيلية وهذه النظرية  ذاتها هي نفس مضمون كل من خطبة «ديان» في مايو 1973 وتصريحه الصحفي في أغسطس 1973 أي أن الفيلم جاء في تاريخ تحقيقه مسايرا لنفس اتجاه السياسة العامة لقيادة الدولة في هذا الوقت التي أعلن عنها رئيس الدولة في خطاب النصر يوم 16 أكتوبر 1973، وينتهي  فيلم «حصاد»  مع نهاية الأغنية العبرية، التي تتزامن مع لقطات مصورة من معرض الغنائم الذي أقيم في القاهرة عام 1974 يعرض بعضا من حطام العتاد العسكري الإسرائيلي في أرض المعركة لينتهي فيلم تسجيلي قصير متميز يجمع عددا من المقابلات الثنائية التي تحقق له مذاقه الخاص من بدايته اللقطات الأرشيفية  تحقق له مذاقه فهو يجمع بين اللقطات الأرشيفية، (العرض العسكري الإسرائيلي ـ معارك حرب أكتوبر) واللقطات الحية ـ الأسري الإسرائيليون ـحطام العتاد في أرض المعركة ـ معرض الغنائم.

كما يعرض الفيلم لكل من صلف القيادة الإسرائيلية من خلال الزهو بالقوة (الاستعراض العسكري الإسرائيلي ـ خطبة موشي ديان ثم تصريحه، وشهادة القاعدة الإسرائيلية مقولات الضابط الإسرائيلي الأسير ـ نص الأغنية  العبرية) ـ كما يجمع في علامات النصر المصرية علي العدو الإسرائيلي بين قواتهم البشرية: طوابير الأسري، وعتادهم الحربي «الدبابات والآليات المحطمة وهكذا.

ولكن الذي يمكن أن يعنينا في النهاية هو لماذا نلزم أنفسنا بقراءة الفيلم فقط باعتباره إعلانا عن أننا لسنا دعاة حرب «سامي السلاموني» أو باعتباره مجرد محاولة لتقديم الأعداء بتسامح تقديرا لمحنتهم وللتعبير عن كراهية الحرب «صفاء الليثي»لماذا لا ننظر للفيلم أيضا وربما بالأكثر باعتباره تحذيرا مهذبا راقيا.

للأعداء بأن «حصاد» حروبهم ليس دائما وفي كل الأحوال انتصارا خاطفا، بل من الممكن أن يكون هزيمة ثقيلة مباغتة يتلو علي أطلالها مغن إسرائيلي آخر مرثية غنائية عبرية!!

وبعد

ألا يدعونا ذلك كله أن نتكاتف معا مطالبين بحق مشاهدة فيلم «حصاد» للفنان الراحل حسام علي، في أكتوبر من كل عام «علي الأقل» ونتيح مشاهدته للجميع، إعلانا عن حقيقة دور واحد من فناني السينما التسجيلية المصرية في التعبير عن حرب أكتوبر، 1973 بدءا من رفض هزيمة 1967 فنطالب صندوق التنمية الثقافية بأن يمارس دوره في تسجيل هذا الفيلم علي الوسائط سهلة التداول والعرض مثل الفيديو والـ CD والـ DVD.. إلخ.

فمن أجل التاريخ ومن أجل الفن معا، أفرجوا عن «حصاد».

جريدة القاهرة في 5 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

في ذكري أكتوبر:

أفرجوا عن «حصاد» فيلم «حسام علي» المدهش عن حرب العبور

يتضمن لقطات ومشاهد نادرة عن الحرب ورؤية عميقة للنصر... ومركون في مخازن الأفلام بالمركز القومي للسينما

د.ناجي فوزي

فيلم »بحب السيما« نموذجاً

الرقابة على الإبداع ضد الإنسان والتاريخ

سعد القرش:

وصف الناقد السينمائي المصري ناجي فوزي الرقابة على الإبداع أنها إحدى أدوات القمع »حتى يبقى كل شيء على ما هو عليه ضد الإنسان وضد التاريخ«.

وطالب ناجي فوزي بوضع تعريف علمي دقيق لمصطلح (الرقابة على الأفلام السينمائية) فضلا عن ضبط مصطلحات غير محددة تتعلق بما وصفه بالثوابت الاجتماعية والدينية »حتى نتحاشى فتح الطريق أمام جماعات الضغط (الأهلية) كما حدث هذا العام (في مصر) فيما يخص فيلم (بحب السيما)« الذي أثار زوبعة من الاتهامات، حيث رفعت إحدى الجماعات من الطائفة المسيحية في مصر دعوى ضد الفيلم بحجة اساءته للدين في حيث أن الفيلم لا يناقش بتاتا لا من قريب ولا من بعيد اصول العقيدة أو أي طرف آخر للدين بحسب عدد من النقاد.

جاء ذلك خلال مشاركة فوزي بورقة بحثية عنوانها (المفاهيم الرقابية وحرية المنتج الثقافي) ضمن أنشطة مؤتمر أدباء مصر الذي اختتم دورته التاسعة عشرة يوم الجمعة الماضي بمدينة الأقصر.

وقال لرويترز إنه »في كل حالات إلغاء الرقابة (على الأفلام السينمائية) لا خوف من أية تداعيات«.

 »نرفض تماما وجود رقابة على الأفلام السينمائية فيما يخص عناصرها غير الفنية المتعلقة على سبيل المثال بالأمن العام والآداب العامة والقضايا ذات الحساسية الدينية«.

وقال إن البديل للرقابة بشكلها الحالي هو أجهزة مدنية غير حكومية يقتصر دورها على »تصنيف الأفلام من حيث مشاهدتها تصنيفا عمريا من أجل حماية الأطفال الصغار من مشاهدة مناظر العنف الشديد والعنف المبالغ فيه في بعض الأفلام لأغراض فنية ومن مشاهدة مواقف لا تتلاءم مع أعمارهم من حيث الإدراك«.

وبعد أن شهدت مصر في السنوات الأحيرة تيارا من الأفلام وصفه سينمائيون بأنه مسطح وتجاري لا يرقى لمستوى السينما الجديرة بالمشاركة في المهرجانات طالب البعض بأن يكون للرقابة على المصنفات الفنية دور في منع ما اعتبروه أعمالا تسيء إلى السينما الجادة.

 إلا أن ناجي فوزي اعترض على أن يكون للرقابة دور فيما يتعلق بالعناصر غير الفنية في الفيلم »إذا كنا نرفض دور الرقابة بصفة عامة فكيف يمكن تصور أية مؤازرة لها على المستوى الفني للفيلم«

»إن وقف تدفق الأفلام المصرية المتواضعة فنيا أمر ينعقد على إرادة المشاهدين ويعود إلى المجتمع ذاته فالذين يقبلون على مشاهدة هذه الأفلام هم أيضا الذين يملكون زمام مقاطعتها«

وحذر مما وصفه بجماعات الضغط الخاصة في مصر مثل النقابات المهنية »كما حدث من نقابة المحامين المصريين بالنسبة لفيلم (الأفوكاتو) الذي أخرجه رأفت الميهي وكذلك الهيئات الدينية كالأزهر وأخيرا بعض رجال الدين المسيحيين في مصر كما حدث بشأن فيلم (بحب السيما)«.

 وعرض هذا العام بمصر فيلم (بحب السيما) الذي كتبه السينارست المصري هاني فوزي وأخرجه أسامة فوزي وأنتجه شقيقه هاني جرجس وهما ابنا المنتج السينمائي المصري الراحل جرجس فوزي.

 والفيلم الذي تأخر عرضه أكثر من عامين بسبب ما اعتبره مراقبون خوفا من موضوعه الذي يعالج تشدد رب أسرة أرثوذكسي مصري مع أسرته وزوجته البروتستانتية إذ يلجأ إلى تحريم بعض متع الحياة على ابنه ومنها حبه للسينما. ولكن علاقة الأب بالله تتحول تدريجيا من الخوف الذي يبلغ جلد الذات إلى الحب فيتسامح مع من حوله.

ولكن بعض رجال الدين المسيحيين ومحامين مسيحيين رفعوا قضايا لوقف عرض الفيلم بحجة أنه يقلل من هيبة الكنيسة ويسيء الى الديانة المسيحية.

وعلق فوزي قائلا إن مصطلحات مثل (احترام العقائد) على سبيل المثال »فكرة مطاطية لاتقل في مراوغاتها عن مراوغات فكرة (خدش الحياء العام).

»الرقابة (على الأفلام) في مصر أداة مرتعشة ووصاية العديد من وسائلها تمنع من التمتع بالفن«

وأشار ناجي فوزي إلى أن هناك عاملا آخر يهدد الحرية يتمثل في الرقابة »بناء على رغبة الجمهور« مستشهدا بقيام دار عرض سينمائية بالقاهرة بحذف مشاهد من الفيلم الأمريكي (الجمال الأمريكي) الذي أخرجه عام ٩٩٩١ البريطاني سام ميندز وقام ببطولته كيفن سبيسي.

 وأبدى دهشته مشددا على أن الحذف تم بسبب اعتراض رب عائلة مصرية وأفراد أسرته على »أحد مشاهد العري على الرغم من أهميتها دراميا وعلى الرغم من أن الرقابة (الحكومية الرسمية) قد صرحت به.

»هذا دليل على نوع من الرقابة تتعرض فيه الأفلام للحذف دون علم مبدعيها وصناعها«.

الأيام البحرينية

6 أكتوبر 2004