شعار الموقع (Our Logo)

 

 

محمد عسلي يعرف العربية جيداً وكان يستطيع أن يُطلق على فيلمه “فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلق” عنواناً يبدو، بالعربية، أكثر سلاسة هو “الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء”. لكن سواء بقصد ام بغيره، رضى المخرج تركيب عنوانه ليظهر تركيز المعنى على المدينة. في هذا الفيلم المغربي الجديد تلعب الدار البيضاء البطولة جنباً الى جنب مع ثلاثة رجال يعملون في مطعم واحد. كلهم جاءوا من الريف بحثاً عن وسيلة لرفع مستوى معيشتهم. في ذلك وحده نقد لسياسة عدم توازن الموارد المعيشية بين القرية والمدينة. لكن الفيلم لا يحمل يافطات نقدية بل يغسلها فيما يعرضه من أحداث بحيث يصبح الحدث متشرّباً بها على نحو طبيعي. لكن في الوقت الذي تلعب فيه المدينة البطولة فإن الريف، الأخضر والأبيض والأصفر تبعاً لفصول السنة ولتضاريس الأرض، هو أيضا كامن في أفق الفيلم.

البراعة التي دمج فيها المخرج الريف مع المدينة تقوم على انه لم يعمد الى ما عمد إليه كثيرون من قبل من وضع الريف ضد المدينة او العكس وتبيان أن الأول نقي وصافٍ والثانية فاسدة وشريرة. غاية المخرج محمد عسلي هو تصوير ما يؤدي إليه الفقر لا من تشريد عائلات وتمزّقها وابتعاد رجل عن راحة بيته وحضن زوجته وضحكات أولاده فحسب، بل من تغير في عادات وطرق حياة بعض الريفيين أنفسهم. المدينة، مكان جامع تضيع فيه الحسنات والسيئات إذ لها حجمها الطاغي الذي يجعل المواقف جميعاً كما لو كانت متساوية. لكن في الريف، حين يطلب الزوج نجدة العابرين على الطريق العام لنقل زوجته الميتة بين يديه، لا شيء آخر يمكن أن يغطي على ذلك التهاوي في القيم.

يبدأ الفيلم بمشهد اتفق كل من رآه على انه لوحة جمالية. بعض من شاهد أفلاماً للتركي الراحل يلماز غونيه تذكرها بسبب هذا المشهد: في منطقة ريفية - جبلية مفروشة بلحاف أبيض من الثلج، يرن هاتف نقال في كوخ ربما لا حمّام فيه. يهرع من بعيد قروي يطلب الوصول الى الهاتف قبل أن يتوقف رنينه. وراءه امرأتان إحداهما ترفض القدوم الى ذلك الكوخ لترد على الهاتف. إنه زوجها يطلبها من الدار البيضاء حيث يعمل. ولاحقاً نتعرّف عليه في مجال عمله نادلاً في مطعم شعبي مزدحم مع زميلين له. المرأة الحامل تخبر زوجها، في مكالمة لاحقة، بأنها ستضع وتطلب منه العودة. صاحب المطعم، او على الأقل المسؤول عنه، يرفض منح الزوج فرصة غياب فيعتذر لزوجته ويرسل إليها بعض المال. تعاني الزوجة من آلام الوضع ثم تدخل في رحلة مرض غير معروف الأسباب. حين يعلم الزوج بذلك، بعد مرور أيام غير محسوب عددها، يطلب إذناً بالسفر وهذه المرة يحصل عليه. يصل الى زوجته الضعيفة ويحملها في تاكسي طالباً الطبيب في البلدة القريبة نسبياً. على الطريق تموت الزوجة. ينزل الجميع من السيارة ويحملونها الى كتف الطريق حيث يجثو فوقها باكياً. لكن بعض الركاب كانوا في وضع مختلف. عز عليهم أن يتعرّضوا للتأخير، وخيّروا السائق بين أن يعيد ما دفعوه له أو أن يكمل معهم على الفور. عجوز يحاول نثر بعض الشفقة في النفوس لكن السيارة تبتعد براكبين وسائق التاكسي والمال الذي دفعه العجوز والزوج معاً.

على خط متواز هناك قصة العامل الثاني الذي يجلب حصانه العربي الأصيل الى المدينة ويخسره في شوارعها منطلقاً وسط السيارات تاركاً صاحبه يلهث وراءه حاملا السرج الذي سقط، في مشهد رائع التنفيذ (صُوّر على الطبيعة مع ديكور من البشر غير الممثلين).

اما العامل الثالث فيشغله حذاء.

قصة حذاء

الحذاء أسود وجميل يقع العامل في حبه كما يقع المرء في حب شريكة حياته. كلما أوصل طلباً من المطعم الى المكاتب المحيطة مر بالمحل او توقف خصيصاً عنده. ينظر اليه في الواجهة. في الشقة التي تجمعه مع زميليه: الزوج وصاحب الحصان وذلك قبل الإصطدام بقدرهما يحاولان ردعه عن التفكير بذلك الحذاء. أحدهما يخبره بأن عليه أن يعمل لثلاثة أشهر ليستطيع أن يتحمّل سعره. ويذكره أن أمثاله، لا يشترون مثل هذه الأحذية لأنها مصنوعة لمن يستطيع أن يتحمل لا ثمنه فقط، بل ثمن كل ما يرتديه فوقه.

العامل المتيّم بحب الحذاء لا يستمع للنصيحة ونراه لاحقاً اشتراه بما ادخره من مال. هنا يدهمنا فصل من المشاهد التي تكاد تنسف توازن الفيلم. لكن المرء يستطيع أن يدرك أن المخرج كان عليه أن يخترع مشاهد يستطيع فيها إبراز الناحية المأساوية من علاقة العامل بالحذاء ومحيط تلك العلاقة الاجتماعية والاقتصادية. والمشاهد التي اهتدى إليها تبدأ بطلبه في يوم إجازته لإيصال رسالة الى عمارة تحت الإنشاء، ثم تصويره على الطريق وهو يختار البلاط والأسفلت الذي يمشي عليه بكل حذر. رغم حذره يدوس البعض على حذائه، ويتسخ برذاذ الماء ويغوص في الطمي ويدخل المسمار في كعب الحذاء فيثقبه.

الغاية تصوير مصير عامل حلم بما هو أعلى من قدرته، وكيف تهاوى هذا الحلم جزيئات مندثرة بزحام الحافلة وغبار الطرق ووحول الشوارع وبمسمار مؤذ. هذا الجزء من القصة هو الأصعب. من ناحية كان على المخرج تصوير هذه الشخصية الثالثة من الشخصيات التي تقود الفيلم في موقع مأساوي خاص به. كان عليه تقديم لوحة من حياته المحبطة. من ناحية أخرى الاختيار كان مقحماً ثم طويلاً الى حد ما.

ورد داكن

رغم ذلك يبقى الفيلم في مستوى ممتاز. بالنسبة لهذا الناقد غير المأخوذ بمعظم ما يراه من أفلام إيرانية، فإنه مرتاح جداً إذ يقول ان هذا الفيلم الأول لمحمد عسلي أفضل من معظم الأفلام الإيرانية التي شاهدها على مر السنين. بالطبع أفضل من العديد جداً من الأفلام العربية أيضا. استخدام الكاميرا ذكي في كل اللقطات. لا هفوات. لا استعراضات مجانية”.

بعض قوّة الفيلم متأتية من معرفة قيمة اللقطة حين تكمن في الزاوية الصحيحة وعلى المسافة المريحة وبالحجم المناسب. بعض القوّة أيضا فيما يقرر المخرج عرضه او حجبه من مشاهد المدينة. ومع أن المقارنة ليست معقودة بين ريف أبيض ومدينة سوداء، الا أن المشاهد المنتقلة بين الاثنين تؤدي الى المقارنة تماماً. الريف حيث الطبيعة في صور شتّى تقرّبنا الى أجواء وردية داكنة لا تزال -رغم دكانتها- تعبق بحب الحياة، وتضعنا وسط مدينة رمادية لاهثة. المخرج عسلي ليس بحاجة لأن ينقل تفاصيل ومرة أخرى ليس بحاجة لأن يحمل يافطات او يبتعد عن الموضوع ليبرز معالم المدينة. يكفي انه يلاحق أحد عمّاله (ذاك الواقع في غرام حذاء) وهو يحمل الصينية منتقلا من رصيف الى آخر وسط رتل السيارات المتسارعة من الجانبين. أكثر من مرة تتوقع أن تخبطه واحدة فتقضي عليه، او تسرق منا شهقة خوف على الأقل. لكن إذ لا يحدث ذلك فإن الناتج أهم: تصوير الخطر الموجود في كل زاوية وحركة ومع كل مرة يقطع فيها ذلك النادل الطريق المزدحم.

هذا القسم من الفيلم يذكرنا بروائع السينما الإيطالية الواقعية، بينما القسم الريفي وما يحدث فيه من همس الحياة المصابة بأقدار ومحن فيذكرنا بأفضل ما في السينما التركية من مناحٍ واقعية خاصة بها. وإذا ما شاء المرء التدقيق، وفي النقد السينمائي فإن ذلك متعة، فإن أقرب مثال لفيلم محمد عسلي “فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلّق” يكمن في فيلم تركي رائع بعنوان “الحصان” أطلق قبل أكثر من اثني عشر عاماً وعرض في مهرجان برلين.

حب

فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلّق” سيعرض في مهرجان دبي قريباً، كل ما أرجوه ألا يتوانى الجمهور عن مشاهدته. إنه نموذج لنتائج حب السينما، فمحمد عسلي صاغ فيلمه كحياته بدراسة وبذكاء وحب. قبل إقدامه على تحقيق هذا الفيلم أسس من ماله مدرسة للسينما في المغرب. صارت معهداً يؤمه اساتذة إيطاليون للتعليم فيه.

الخليج الإماراتية في 3 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

سيعرض في مهرجان دبي السينمائي

"فوق الدار البيضاء الملائكة لا تحلق" بطولة واضحة للمدينة

محمد رضا