ربما كانت هذه هي المرة الأولي التي تعلن فيها موظفة الشباك أن جميع المقاعد محجوزة والعددcomplete, فتتلقي الطوابير المصطفة أمام دار السينما النبأ في ذهول, ولا يكون الفيلم أمريكيا لنجم جماهيري مثل توم كروز أو شوارزنيجر, بل هو فيلم أوروبي محدود التكاليف, يرصد بلغة سينمائية شديدة النعومة تجليات علاقة إنسانية خاصة بين مراهق يهودي وعجوز مسلم! نفاد تذاكر فيلم مسيو إبراهيم وأزهار القرآن قبل بدء العرض بنصف ساعة, كان إذن أولي مفاجآت النجم العالمي عمر الشريف, فالفيلم ظل مجرد مادة صحفية يطالعها الجمهور المصري من بعيد لبعيد, دون أن تتاح له الفرصة لمشاهدة هذه الحدوتة الإنسانية, بالغة الرقة والحساسية, وحين انتهي العرض خرج الجمهور متأثرا للغاية, ومشحونا لأقصي حد, ولسان حال الجميع يقول: فعلا من رأي ليس كمن سمع. الفيلم فرنسي الإنتاج, يعود إلي باريس في منتصف القرن الماضي, ويحكي عن الصبي المراهق موسي, فعلاقته بأبيه اليهودي تخلو من العاطفة, وتتسم بالجفاف الشديد, الأب يعود من عمله كل مساء, وعلي الابن أن يجهز له العشاء, أما طوال النهار فليس أمام موسي سوي التسكع في أزقة هذا الحي الشعبي المعروف باسم الشارع الأزرق, أي شارع المومسات اللواتي يبذل موسي جهدا بالغا حتي يقنعهن بأنه بلغ من العمر السادسة عشرة, ويحق له الآن ممارسة الجنس, خصوصا أنه استطاع ادخار بعض الفرنكات خصيصا لهذا الغرض., أما إبراهيم فهو صاحب محل البقالة المجاور, والذي يحصل موسي علي المصروف من أبيه يوميا لشراء المستلزمات من ذلك العربي كما يقول الأب, ويردد الابن, غير أن العجوز يوضح أنه مسلم وليس عربيا, فهو مولود في تركيا ويعرف أن موسي يسرق بعض الأشياء من المحل ويخفيها في جيوبه, لكنه يبدي تسامحا شديدا وينصحه برفق وهدوء, ويشير طوال الوقت إلي كتابه المقدس القرآن, مما يثير فضول موسي لاكتشاف معني هذه الكلمة الغامضة القرآن, وتتطور العلاقة بينهما فيصبح إبراهيم المرشد الروحي لموسي, خصوصا بعد موت والد الأخير منتحرا. كثير من الكتابات التي تناولت الفيلم توقفت عند ما أسماه البعض حوار الأديان, لكن الأمر لا يخلو حقا من بعض المحاذير, ففي أحد المشاهد يتناول إبراهيم كأسا من الخمر, فيندهش موسي قائلا: كنت أظن أن المسلمين لا يشربون, فيرد إبراهيم: أنا صوفي, فهل هذا هو الإسلام كما يريده الغرب؟! خصوصا أن موسي عاد إلي القاموس ليعرف معني كلمة الصوفية, فكان تعريفها التحرر من الالتزام الصارم بالشريعة, بالطبع هذا لا ينفي أن الفيلم حقق اختراقا في الذهاب إلي الضفة الأخري لمحاولة تقديم رؤية جديدة للمسلمين والإسلام, فإبراهيم ليس إرهابيا أو متطرفا أو همجيا, بل يقطر عذوبة وتسامحا. والفيلم عموما تجسيد رائع لكم النضج الذي بلغه عمر الشريف, فقد قدم شخصية إبراهيم بعبقرية السهل الممتنع, وتفوق بحق علي نفسه في فهم مفاتيح شخصية مسلم صوفي عجوز, يتمتع بقدر هائل من الطيبة, وكانت مفاجأة أخري أن يشاهد الجمهور عمر الشريف يقدم لونا مختلفا من الكوميديا التي فجرت الضحك أكثر من مرة في الصالة نتيجة عدد من المفارقات التلقائية, لاسيما حين قرر إبراهيم المغامرة وإنفاق تحويشة العمر علي شراء سيارة سبور والتجول بها مع موسي الذي طلب أن يتبناه إبراهيم, فاستجاب إبراهيم علي الفور, كما كتب وصية بجعل موسي الوريث الوحيد له في حالة وفاته, وهو ما حدث بالفعل في النهاية. أخيرا تبقي الإشارة إلي مفاجأة أخيرة غير سارة هذه المرة, فقد بدا عمر الشريف, خصوصا وهو في الحمام الشعبي, مختلفا تماما عن صورة الجان الوسيم التي رسمتها له الأجيال, فقد بدا مترهلا للغاية في منطقتي الصدر والبطن, وفمه يكاد يخلو من الأسنان, لكن عينيه مازالتا تنطقان بنفس السحر القديم* الأهرام العربي في 2 أكتوبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
حوار الأديان وكوميديا الموقف علي طريقة مسيو إبراهيم
محمد بركة |