شعار الموقع (Our Logo)

 

 

يحلو للمخرجين السينمائيين أن تظهرهم الصور الفوتوغرافية الملتقطة لهم، بهدف النشر في الصحف، وهم يقفون وراء الكاميرا السينمائية، يحيطونها بأذرعهم فيما هم يتطلعون عبر منظار الكاميرا الى تكوين اللقطة المعدة للتصوير. هذه صورة شائعة غالبا ما تنشرها الصحف والمجلات في سياق التعريف بمخرج سينمائي ما. تدل صورة المخرج واقفا وراء الكاميرا على هيمنته على هذه الآلة ذات السحر الخاص المرتبط بسحر السينما نفسها.

لكي تكتمل دلالة الصورة في تأكيدها على أهمية المخرج، غالبا ما يظهر في خلفية الصورة شخص آخر، يقف في انتظار قرار المخرج، شخص يبدو هامشيا بسبب من موقعه خلف المخرج ووضعه المترقب للقرار الذي سيتخذه المخرج بالنسبة للقطة المزمع تصويرها. هذا الشخص في العادة هو إما مدير التصوير أو المصور والذي نادرا ما يشير التعليق المنشور أسفل الصورة إلى وجوده ضمن إطارها.

لا يعكس هذا النمط من الصور الفوتوغرافية الخاصة بالمخرجين السينمائيين وهم يقفون وراء الكاميرا لا واقع الحال ولا حقيقة العلاقة بين المخرج والمصور، او بتعبير أدق مدير التصوير، ولا الأهمية الحقيقية للدور المميز الذي يمكن أن يلعبه المصور السينمائي بالنسبة للفيلم السينمائي.

نعثر في تاريخ السينما العالمي على الكثير من الشواهد التي تبرز الدور الخاص للمصور الخبير والموهوب والذي يفرض نفسه على المخرج بحيث يجعله شريكا دائما في أفلامه لا يسهل الاستغناء عنه. من الأمثلة المبكرة في تاريخ السينما الدالة على خصوصية دور المصور من الناحية الإبداعية، الفنية والتقنية، كان مثال المخرج الروسي الكبير سيرغي إيزنشتاين الذي ظل يعتمد في تصوير أفلامه على اثنين من المصورين معا، توصل معهما إلى حالة من الانسجام والتفاهم الإبداعي، أحدهما كان ماهرا على نحو خاص في التصوير الداخلي والليلي، وإليه يعود الفضل في نجاح اللقطات الليلية الخاصة بمشاهد السفن والميناء في الفيلم الشهير “المدرعة بوتمكين”، والثاني كان ماهرا في التصوير الخارجي والنهاري. ومع ان الفيلم ككل احتسب لصالح موهبة المخرج، إلا ان هذا لا ينفي ان جزءا هاما من موهبته كان صحة تقديره للموهبة والتخصص الحرفي لكل من المصورين اللذين شكلا معه فريق عمل ناجحاً، وحسن استفادته منهما.

علاقة تبعية أم إبداع؟

في بعض الأحيان يلعب المصور الموهوب والخبير دورا في الفيلم يتجاوز من خلاله علاقة التبعية للمخرج أو لرؤية المخرج الإبداعية، فيصبح الفيلم ممهورا بطابع المصور لا المخرج، فيقال: الفيلم من تصوير فلان، وليس من إخراج فلان. هكذا كان حال المصور الروسي اوروسيفسكي، الذي عمل مع أكثر من واحد من كبار المخرجين في بلده فكانوا يعترفون بفضله وينحنون أمام موهبته. وهو، مثلا، صاحب الإنجاز الكبير في فن التصوير السينمائي المتمثل في الجرأة في استخدام العدسات ذات الزاوية الواسعة لتصوير اللقطات القريبة والداخلية بشكل فني معبر، على الرغم من ان العدسات ذات الزاوية الواسعة تعتبر من العدسات الصعبة الاستخدام لأنها تتصف بكونها عند تصوير اللقطات القريبة (لقطة قريبة للوجه مثلا)، تشوه الأحجام والأبعاد باتجاه المنظور (او الأفق)، إذ تغير النسب وتجعل القريب من العدسة اكبر حجما من حقيقته والبعيد اكثر صغرا.

تبرز أهمية المصور بشكل خاص في نوع الأفلام التسجيلية التي تقوم على التصوير المباشر للحدث بدون تحضير مسبق. ففي هذا النوع من الأفلام يتراجع دور المخرج لحظة التصوير ويصبح دورا مساعدا مساندا لفعل المصور الذي عليه أن يصبح مخرجا في تلك اللحظة، والذي، إن لم يملك زمام المبادرة والسرعة الكافية فسيكون أداؤه مخيبا للأمل. وقد وصف أحدهم المصور في أوقات التصوير المباشر للحدث بأنه مثل القناص المتحفز اليقظ لكي لا تفوته اللحظة المناسبة والمعبرة، يستخدم عقله وبصره وخبرته الحرفية في آن.

وقد شاهدت ذات يوم فيلما سينمائيا روائيا يستعيد وقائع سياسية حدثت قبل نحو ثلاثين عاما من وقت إخراج الفيلم. وقد كان المخرج يرغب في ان يكون فيلمه مبنيا وفق الوثائق الحقيقية، ويريد أن يكون فيلمه أقرب إلى شكل الفيلم التسجيلي منه إلى الروائي المتخيل المصمم بشكل فني. لهذا بحث المخرج عن مصور له خبرة واسعة كمصور إخباري إضافة إلى خبرة كبيرة كمصور أفلام روائية. كان المطلوب من هذا المصور بشكل خاص أن يجرؤ على تصوير لقطات تعتبر غير صالحة في السينما الروائية، إما ان بعضها يفتقر إلى وضوح الصورة، أو بعضها الآخر غير متناسق التكوين، إضافة إلى اهتزاز حركة الكاميرا، وغير ذلك من أخطاء فنية او تقنية، تحدث في العادة أثناء التصوير المباشر للحدث الراهن.

وإذ تعتبر قدرة المخرج السينمائي على اختيار الممثل المناسب للدور واحدة من المهارات الإخراجية الرئيسية، فإن قدرة المخرج على اختيار المصور، أو مدير التصوير المناسب لا تقل أهمية. وغالبا ما يلجأ المخرجون إلى مشاهدة أفلام لمصورين مختلفين كي يدرسوا مهاراتهم وأساليبهم ليختاروا الأنسب منهم لموضوع مشروع فيلمهم الجديد. ولا يتعلق الأمر هنا فقط بالمهارات الحرفية والتقنية والخبرات الطويلة المتنوعة التي قد يتمتع بها المصور او مدير التصوير، كما لا يتعلق فقط بالعلاقة المميزة التي يشوبها الانسجام والتفاهم والتي قد تربط ما بين المصور والمخرج، بل يشمل أيضا الحساسية الفنية.

وقد اطلعت ذات يوم على معاناة مخرج سينمائي عربي وهو يبحث عن مدير التصوير المناسب لمشروع فيلمه الجديد: كان يريد من مدير التصوير أن يكون إيطالي الجنسية تحديدا، حيث كان يعتقد أن مثل مدير التصوير هذا وبسبب من الموقع الجغرافي لبلده ومن طبيعة مناخه، سيكون الأنسب لتجسيد رؤيته الفنية، بحيث يكون قادرا على أن يعكس بحساسية فنية وجمالية خاصة برودة أوروبا وأجواءها الداكنة، وفي نفس الوقت، حرارة شمس الشرق وأجواءه الساطعة وألوانه المشرقة، إضافة إلى فرضية تمتعه بخبرة وبحس تشكيلي ضروري نتيجة نموه داخل بيئة تتسم بتراث تشكيلي عريق متنوع الأساليب والمدارس.

سعيد شيمي وعاطف الطيب

نورد هذه الملاحظات بمناسبة صدور كتاب جديد من تأليف مدير التصوير المصري سعيد شيمي عن المخرج الراحل عاطف الطيب والذي صدر في القاهرة مؤخرا، والذي يكتسب أهمية خاصة بالنسبة للقارئ العربي المهتم بمعرفة الدور الكبير الذي يلعبه مدير التصوير السينمائي في الإبداع الفيلمي. صدر هذا الكتاب تحت عنوان: أفلامي مع عاطف الطيب “بهدف تكريم ذكرى المخرج الراحل الذي اعتبر فيلمه “سواق الأتوبيس” (عام 1982)، بداية لموجة سينما الشباب الواقعية في الثمانينات المجددة فنيا والملتزمة بالتعبير عن هموم المجتمع المصري. ثمة جانبان مهمان رئيسيان في هذا الكتاب، الأول منهما التعريف بتجربة عاطف الطيب من داخلها، عبر تحليل طريقة تفكيره وشغله على الفيلم استنادا إلى مجموعة الأفلام الثمانية التي أخرجها وكان سعيد شيمي مدير التصوير لها. أما الجانب الآخر منها فهو التعريف المفصل والدقيق بآلية عمل مدير التصوير ودوره الإبداعي في صناعة الفيلم، هذا الدور الذي لا يكتفي بإيجاد الحلول البصرية للأفكار الصعبة التي تخطر على بال المخرج، بل يتعدى ذلك إلى معالجات وأفكار خاصة بمدير التصوير تكتشف ما في النص من إمكانات لم ينتبه لها المخرج وتضيف إلى رؤية المخرج ما يغني الفيلم دلاليا وجماليا.

يبدأ الكتاب بمقدمة بقلم المخرج والباحث السينمائي المصري هاشم النحاس. والمقدمة مخصصة للتعريف بتجربته الشخصية العملية مع مدير التصوير سعيد شيمي. يصف هاشم النحاس طريقة عمل سعيد شيمي في واحد من الأفلام التسجيلية: “... كان هناك احتفال غنائي في نهاية اليوم أدى إلى تزاحم عدد كبير من الناس. أردت ان أصور حركتهم وهم يتزاحمون والمعدات الضخمة في الخلفية، فما كان من سعيد إلا وانطلق بين الناس يفاجئهم بالتصوير قبل أن ينتبهوا له. وما ان يلتفت أحدهم او ينتبه لوجوده حتى يحول سعيد الكاميرا إلى زاوية أخرى. علمت منه انه يفتح عينيه الاثنتين أثناء التصوير، على خلاف المعتاد، حيث يقتضي التحديق من خلال محدد الرؤية بأحد العينين وإغماض العين الأخرى. عجبت لهذه القدرة التي لم أعهدها من قبله في زملاء آخرين عملت معهم”.

ويضيف هاشم النحاس لاحقا: “منذ تبينت مهارة سعيد شيمي في أفلامنا التسجيلية الأولى، أدركت أنه لو قدر الاستعانة به في الفيلم الروائي، لاستطعت أن أضيف بالتعاون معه قيمة جديدة للسينما العربية”.

هذه الأهمية الخاصة لمدير التصوير يتم تجاهلها، من قبل النقاد السينمائيين، مع أنهم غالبا ما يكررون القول بأن السينما فن الصورة. في مقدمته الخاصة للكتاب المعنونة “أنا شاهد” يتطرق سعيد شيمي إلى هذه النقطة وهو يتحدث عن عمله مع عاطف الطيب في فيلمه الروائي الطويل الأول: “أتذكر أنني في هذا الفيلم استعملت أساليب معينة لأول مرة فيها جرأة شديدة مني بعد مناقشته فيها. ولقد كان يشجعني على ذلك، ووجدت مخرجا يفهم ماذا تعني كلمة “الكتابة بالضوء” ويعي مفهوم حركة الكاميرا واستخدام اللون، وللأسف لم يلاحظ النقاد أننا في هذا الفيلم اتبعنا أسلوبا جديدا في بعض المشاهد في الإضاءة بالذات”.

في العادة، نختصر نحن النقاد السينمائيين رأينا في الجهد الذي يبذله مدير التصوير بجملة متكررة من نوع: وكانت الإضاءة معبرة وزوايا التصوير ناجحة”.

صدر الكتاب من منشورات “الهيئة العامة لقصور الثقافة” ضمن سلسلة “آفاق السينما”.

الخليج الإماراتية في 1 أكتوبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

الكتابة بالضوء

المخرج ومدير التصوير.. علاقة تبعية أم إبداع؟

عدنان مدانات