هذا الأسبوع أعلنت شركة باراماونت في هوليوود أنها ستعيد النظر في الدعوات الخاصة التي توجهها إلي النقاد السينمائيين تبعا لضروريات المصلحة الخاصة بها. هناك- تقول- عدد كبير من الأشخاص الذين يأتون كضيوف بصحبة المدعوين الأساسيين ثم يكتبون مقالات نقدية إما كتعليقات صحافية أو علي المواقع المنتشرة بكثرة علي الإنترنت. قبلها وورنر أعربت عن ضيقها من نقاد الإنترنت. هؤلاء لا توجه إليهم الدعوة, بل هم من الذين يتسللون إلي العروض التجريبية التي تقيمها الشركات السينمائية تمهيدا لمعرفة الذوق العام لكل فيلم وتقدير ردة فعل الجمهور, ومن ثم العمل علي قطع أو توليف الفيلم حسب الرغبات السائدة. وسيلة تستجيب فيها شركات الأفلام لرأي الجمهور أحيانا مع رضي المخرج وأحيانا رغم معارضته أو- علي الأقل- صمته. وبعض الذين يحضرون هذه العروض التجريبية التي قد تجري قبل شهر أو اثنين من موعد العرض يسارع لبيع نقده إلي من يدفع من مواقع الإنترنت. بذلك يتحدث عن فيلم لا يزال غير جاهز في شكله النهائي بعد. إلي جانب الضيوف- النقاد والجمهور- هناك الآن موجة من نقد الأفلام قبل انتهائها من التصوير. هذه البدعة بدأت حديثا. كل ما يحتاجه الناقد الحصول علي نسخة من السيناريو, عادة مهربة, ثم قراءته وطبع نسخ منه لكي يقرأه غيره ويحكم عليه و... علي الفيلم بالتالي. في العام الماضي وجد ميل جيبسون نقادا لفيلمه آلام المسيح بينما ذاك لا يزال في التصوير. وفي هذا العام تعرض فيلم مملكة السماء لريدلي سكوت, ومن تمثيل أمريكيين وعرب( بينهم المصري خالد النبوي والسوري غسان مسعود) إلي نقد يتعلق برسالته. البعض قال إنها منحازة ضد العرب والبعض قال إنها منحازة لهم. وفي ذات الأسبوع الذي كانت فيه باراماونت تعلن عزمها إعادة النظر فيمن تدعوه ومن لا تدعوه إلي العروض المسبقة, كانت إحدي الندوات التي أقيمت في مهرجان تورنتو الأخير تدور حول النقد السينمائي وتأثيره( أو عدم تأثيره بالأحري) علي الجمهور. هذا الجانب من الحديث بدأ عندما وقف أحد الحضور الذي عرف نفسه بروفسور تاريخ الفنون في جامعة مونتريال منتقدا اعتماد شركات الأفلام المختلفة علي المنتشر هذه الأيام من نقاد السينما الذين يراهم البروفسور مضرين أكثر مما هم نافعين قال:معظم نقاد اليوم ليست لديهم فكرة عن أسس النقد السينمائي الصحيح ولا عن أساليب تعبير تصب في القصد الحقيقي من وراء النقد. معظم ما أقرأه يمكن لي أن أضعه في خانة الخدمات الإنتاجية. يكتبون لكي تشملهم رعاية الاستديوهات أو لأن مجلاتهم لديها مصالح مشتركة مع ستديوهات السينما. تعريف النقد كل ذلك وغيره من الدلائل المتكررة هذه الأيام تشير إلي أن هناك أزمة كبيرة في مجال النقد السينمائي ليس فقط علي صعيد من يتولي تعيين نفسه ناقدا بل أيضا علي صعيد الوظيفة التي يشغلها. في العام1914 كتب الأمريكي لويس ريفز, الذي كان يعمل في إحدي شركات الأفلام لكنه استقال لكي يكتب النقد السينمائي وهو بذلك من أوائل نقاد السينما في العالم, كتب باحثا عن وظيفة الناقد فقال:الناقد الجديد عليه أن يكون قادرا علي التأثير بقوة لكي يرشد هذا الفن الناشيء للخروج به من متاهة الرداءة. هذا النوع من الرجال سيكون من الصعب إيجادهم طالما أن الإنتاج تجاري أكثر منه فني. الأيام بعد ذلك برهنت علي أن وظيفة الناقد غير متفق عليها. هي حيادية بالنسبة للبعض, ذات رسالة اجتماعية بالنسبة للبعض الآخر و-نعم- لا يزال هناك من يمارسها علي أساس التأثير في الإنتاج الرديء. طبعا لو أن هذه الممارسة نجحت طوال العقود التي تلت كلمة ريفز لكانت الإنتاجات الرديئة توقفت ولانتفت الغاية من النقد أساسا. النقد في تعريفه يتفق عليه معظم النقاد الغربيين ويجده هذا الناقد نقطة لقاء أكيدة هو: لعب دور الوسيط بين الفيلم وبين الجمهور وحده. لا المخرج ولا المنتج ولا صاحب المجلة المرتبطة بمصلحة, وهذا الدور يهدف إلي تعريف الجمهور بالفيلم وخلفياته ومجمل المعلومات التي ستساعده علي اتخاذ موقفه الحر صوبه. وهذا لا يمنع مطلقا من أن يبدي الناقد رأيه, بل إن هذا واجبه, شريطة أن يكون رأيا ملما بالعمل السينمائي من مطلعه وحتي نهايته. إذ يقترح الناقد أول ما يقترح معرفته بكيف كان يجب أن يمثل الممثل دوره, وبكيف كان يجب أن يخرج المخرج فيلمه وبكيف كان علي مدير التصوير استخدام اللقطة المعينة؟ وهو لا يستطيع إبداء مثل هذه الآراء وغيرها في مجالات السيناريو والتوليف وباقي أعمدة العمل, الا إذا كان فعلا ملما بالعمل من الداخل. مصالح هذا النوع من النقاد لم يعد متوافرا بكثرة بل هو دائما ما كان محدود الانتشار محاطا بأولئك الذين يستسهلون الكتابة النقدية مصرين علي تجاوز مصاعبها بتحييد أنفسهم عنها واتخاذهم طرقا تبتعد بهم عنها. في مطلع القرن الماضي خرجت أول مجلة نقدية بريطانية باسم بيوسكوب وسرعان ما وجدت نفسها محاطة بمواقف حذرة حيالها. لقد بدأت نشر كتابات نقدية لا تعترف بمصلحة الموزعين والمنتجين بل تعتبر أن مصلحتها تصب في خانة مشتري التذاكر وحدهم. وهذا سريعا ما حجب عنها الإعلانات التجارية التي كانت تتمتع بها المجلات الأخري. وإذ يسترعي انتباهنا قدم الظاهرة التي لا تزال مستمرة إلي اليوم, يثيرنا أيضا كيف أن المجلات الأخري تبلورت في نوعين ما زالا مستمرين جنبا إلي جنب مع ما تبقي من مجلات نقدية. بذلك نحن أمام ثلاثة أنواع النقدي واحد منها, أما النوعان الآخران فهما نوعا المجلات الصناعية والإنتاجية, مثل الأمريكية فاراياتي والبريطانية سكرين إنترناشنال والفرنسية فيلم فرانسيز( بعد ثماني سنوات تحتفل بميلادها المئة) ونوع المجلات المسماة بـ مجلات المعجبين. وترتبط مصلحة المجلات المتخصصة بالإنتاجات وشباك التذاكر باستديوهات وشركات الأفلام عموما فهي التي تمدها بالإعلانات وتعتبرها لسان حالها. وقلما تجد أيا من هذه المجلات تنتقد سياسة شركة أو تعارضها خوفا من تعكير صفو الوئام والتأثير سلبا علي حصة المجلة من إعلانات الشركة. أما المجلات القائمة علي نشر أخبار الفنانين والفنانات فإنها مرتبطة بمصلحيتين واسعتين: الجمهور العريض الذي يفضل مثل هذه المجلات الخفيفة علي أي مجلة سينمائية جادة( كتفضيله ذات النوعية من الأفلام علي تلك الجادة) ونجوم السينما. في الغرب والشرق علي حد سواء تجد أن العلاقة مع النجوم مهمة لأنها تؤدي إلي تخصيص المجلة بالأحاديث الخاصة وإلي تقرب المجلة من نشاطات الفنان أولا بأول. وأيام انتشار نظام النجوم في هوليوود, كانت العلاقة مقامة مباشرة مع شركات الأفلام التي كانت تخطط وتصمم الدعاية والإعلام لنجومها. وهي التي كانت قد جلبت مصورا صحافيا لأخذ صور لريتا هايوورث وهي خارجة من مطعم مع كلارك غايبل لكي يتحدث الناس عن علاقة غرامية محتملة, أو هي التي كانت توزع الصورة الشهيرة لمارلين مونرو وهي تحاول منع فستانها الواسع من الطيران بفعل هواء منبعث من فتحة المترو في نيويورك. مع نهاية نظام النجوم كان لابد من تأسيس علاقة أخري وهذه العلاقة أصبحت مباشرة مع النجوم علي فوضاها وتجاذبها وعلي الرغم من الدعاوي التي يرفعها البعض ضد تلك المجلات أو الصحف( كما حدث مع دعاوي رفعها توم كروز ومادونا وكاثرين زيتا-جونز من بين آخرين عديدين في السنوات العشر الأخيرة). شكوي النقاد إلي جانب كثرة المشتغلين في مادة النقد السينمائي شرقا وغربا وفي كل اتجاه, فإن المشكلة الحقيقية تكمن في أن سبل التواصل مع الجمهور باتت محدودة وذلك بفعل ضياع الوجهة الصحيحة من وراء ماهية النقد السينمائي. في دراسة أخيرة أجرتها مجلة فاراياتي الأمريكية, تبين أن معظم المجلات السياسية تحد الآن من انتشار النقد السينمائي الذي كان ذات يوم من اهتماماتها الأساسية. قالت إن المجلات أصبحت تفضل مقالات وتحقيقات حول الأفلام قبل خروجها للعروض التجارية علي نقدها بعد ذلك. والغاية الظاهرة هنا هي التحول تماما إلي مصدر إخباري لتسجيل سباقات صحافية علي هذا الصعيد. المساحة النقدية في تايم ونيوزويك وسواهما باتت محصورة في عواميد صغيرة. تايم لم تنشر نقدا سينمائيا متواصلا منذ أسابيع كثيرة. في لندن يشكو الناقد المعروف ديفيد روبنسون من أن مساحة النقد الصحفي في الجرائد اليومية مخصصة اليوم لصالح الأفلام الأمريكية وحدها. وفي لقاء أخير تم بين هذا الناقد وناقد الجارديان السابق ديريك مالكولم قال الأخير:صحيح أن الصحف اليومية لا تزال تهتم بنشر النقد السينمائي, لكنها تحبذ الحديث عن الأفلام الأمريكية. الأفلام الأخري قد تكون أفضل برأي نقادها لكنهم لن يستطيعوا الكتابة عنها إلا في حدود فقرات صغيرة. والحال هذه, فإن المساحة الوافية لمثل هذا النوع من الأدب الثقافي باتت محصورة في المجلات النقدية التي ما زالت تعتمد علي القاريء أساسا. هي أقل عددا مما كانت عليه ولا تزال تعاني مصاعب التمويل غالبا, لكنها مازالت متشبثة بهويتها ووظيفتها وتأمل في قاريء يقدر لها هذا* الأهرام العربي في 25 سبتمبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
صناعة النقد تتعرض لمتغيرات
فيلم الآم المسيح هوجم قبل عرضه هوليوود ـ محمد رضا |