بين طغيان صورته الأسطورية وندرة المعلومات الواقعية عنه، اختار المخرج ''اوليفر ستون'' لفيلمه ''الاسكندر'' الجانب النفساني من شخصيته المعقدة حتى الجنون وخصوصا لجهة علاقاته مع أمه وأبيه ومع زوجته وصديقه ورجال جيشه كما مع أستاذه ''أرسطو''·· وعلى الأخص لجهة صراعه الداخلي الهائل مع نفسه والذي قد يكون الدافع الحقيقي لمحاولات هروبه الى الأمام عبر المزيد والمزيد من الحروب والفتوحات· ''أورينت برس'' تنقل الحوار التالي مع ''اوليفر ستون'' الذي سبق وأخرج ''جون كيندي'' و''أفلاطون'' والذي يتحدث فيه عن جوانب جديدة في حياة ''الاسكندر'' كما عن الفيلم الذي ستبدأ عروضه الأولى في ديسمبر المقبل· · روى حياة ''الاسكندر المقدوني'' العديد من كتّاب ومؤرخي العصور الغابرة، من أمثال ''بلوتارك'' و''اريان'' و''ديودور الصيقلي'' وغيرهم ممن صوروا ''الاسكندر'' كأسطورة·· كما رواها أيضا مؤرخون حديثون جهدوا في إزالة الملامح الواقعية والموضوعية·· والسؤال هو: من أين أخذت صورة ''اسكندر'' فيلمك: من المرويات الأسطورية أو الواقعية؟ - ان المعلومات الواقعية المتعلقة بـ ''الاسكندر'' ليست سوى حفنة صغيرة جدا من المعلومات المتناثرة هنا وهناك، أما الباقي، وما أكثره، فهو من باب الأسطورة، وبعكس الاعتقاد السائد، لا أرى ان المؤرخين الحديثين كان هدفهم تحطيم صورة ''الاسكندر'' الأسطورية التي رسمها له الكتّاب الأقدمون· هناك مثلا المؤرخ ''روبن لان فوكس'' الذي نشر في العام 1973كتاب سيرة حياة ''الاسكندر'' مظهرا فيها عظائم وصغائر هذا البطل التاريخي·· وذلك بالعكس تماما من مؤرخين حديثين آخرين كتبوا صفحات رائعة فعلا ولكن ضمن مناخات أسطورية·· في المقابل كان ''فوكس'' متميزا وجريئا فعلا في تسليط أضوائه على الجوانب المعتمة من حياة ''الاسكندر'' كاشفا بذلك أشياء وعيوبا في ''الاسكندر'' لم يكن أحد يعلم بها من قبل· بالطبع لا يمكن وضع جميع المؤرخين في سلة واحدة، وأكثر ما أحب فيهم ممن كتب عن ''الاسكندر'' هو ''وليام تارن'' لكنني لم أعتمد على كتاباته كمصدر معلومات في فيلمي·· وهناك أيضا كتاب أصدره المؤرخ ''هارولد لامب'' في الأربعينات، ومثله أيضا كتاب للمؤرخ ''جاك بينوا ميشين'' والذي قدم فيه تحليلا نفسيا بالغ الدقة لشخصية ولسلوكيات ''الاسكندر''· في المقابل، تغيظني الأفكار التي تضمنتها مؤلفات فئة من المؤرخين مثل ''ارنست باديان'' و''بيتر غرين'' وغيرهما من الذين يبدو أن همهم الأساسي كان تحطيم الصورة البطولية للاسكندر· معارك الشاشة · في كتابات المؤرخين، وخصوصا الأقدمين منهم، تفاصيل دقيقة وغنية جدا عن الكثير من المعارك الكبرى التي انتصر فيها ''الاسكندر''·· هل واجهت صعوبات معينة في إعادة صياغة هذه المعارك سينمائيا؟ - كثرة المعارك التي خاضها ''الاسكندر'' هي بحد ذاتها مشكلة سينمائية·· لكنني قررت في النهاية اختيار معركتين فقط: الأولى معركة ''غوغاميل'' والثانية معركة كبرى خاضها في الهند· · وما كانت معايير اختيارك؟ - أعتقد ان معركة ''غوغاميل'' تشكّل علامة ساطعة في مسار بطولات ''الاسكندر'' العسكرية·· كان عديد جيشه فيها لا يتعدى الأربعين ألف رجل بمواجهة جيش الفرس الذي يتجاوز الربع مليون رجل·· هذا ما يقوله المؤرخون الأقدمون والذين أميل الى تصديقهم في هذه الناحية، وذلك رغم اقتناعي بأنه حتى الشهود العيان لمعارك ''الاسكندر'' كانت لديهم ميول شديدة نحو تضخيم الوقائع الى المستوى الأسطوري·· صحيح ان المؤرخ ''اريان'' استند في كتاباته عن ''الاسكندر'' الى ''مذكرات بطليموس'' والى نصوص ''نيارك'' لكن حتى هذه الكتب كانت انعكاسا لمواقف ومشاعر مؤلفيها اكثر مما هي انعكاس للوقائع الموضوعية· كان ''الاسكندر'' محاطا بعدد كبير من رجال الحاشية لكن كل واحد منهم كان يرى الأشياء على طريقته الخاصة حتى المؤرخ الإغريقي ''ديموستين'' المعروف بلقب ''حكواتي أثينا'' كان ملازما لـ ''الاسكندر'' ويبدو ان دوره كان قائما على حبك نسج صورة ''الاسكندر'' الأسطورية· أرسطو · هل خصصت لـ ''ديموستين'' دورا في فيلمك؟ - لا·· رغم طول الفيلم الذي يتجاوز الثلاث ساعات، كنت مضطرا لإهمال العديد من الشخصيات المهمة التي كان لها حضورا مميزا في مسار حياة ''الاسكندر''، وهنا أيضا وجدت نفسي أمام القرار الصعب في الاختيار·· وجدت انه من الضروري إبراز شخصية ''أرسطو'' تأكيدا لقناعتي باستمرارية العلاقة المباشرة ما بين هذا الفيلسوف وتلميذه السابق ''الاسكندر''·· حتى ولو كانت كل هذه المعطيات غير مؤكدة بالمعنى العلمي الموضوعي·· يقال في العديد من كتابات المؤرخين ان ''الاسكندر'' خلال معاركه في البلدان البعيدة، ظل يتبادل رسائل مع عدد من الأشخاص في أثينا، وفي طليعتهم أمه بالتأكيد، أما رسائله الى ''أرسطو'' فليس هناك أي دليل حسي على وجودها، بل مجرد افتراضات· · وماذا عن الفرضية القائلة بضلوع ''أرسطو'' بمحاولة اغتيال ''الاسكندر'' عن طريق دس السم في شرابه؟ - هذه فرضية خيالية، إذ لا يمكنني أن أتصور إقدام فيلسوف كـ''أرسطو'' على عمل كهذا ضد ''الاسكندر''·· إضافة إلى انعدام وجود أية دلائل على حصول أي خلاف بينهما·· في الفيلم أهملت الكثير من أشياء كهذه ولم أضع فيه سوى ما أعتقد أنه واقعي وإن كنت مجبراً على ابتكار دلائل تؤكده· · لم تكن نزيهاً في فيلمك عن ''الاسكندر''؟ - النزاهة مسألة نسبية، ثم أن ما أقدمه في فيلم ''الاسكندر'' هو سينما روائية وليس سينما تسجيلية·· إضافة إلى أننا نتكلم عن رجل عاش في حقبة زمنية بعيدة عنّا ألوف السنين· ملكة الأمازون · من المرويات الأسطورية المحاكاة حول ''الاسكندر''، وما أكثرها، هي قصة لقائه مع ملكة الأمازون·· هل أوردتها في الفيلم؟ - "الاسكندر'' نفسه كان مهووساً بالأساطير الشعبية، وكان هاجسه الدائم أن يكون بطلاً أسطوريا على مستوى ''هرقل'' و''أخيل''·· ومن هنا فلعله عندما التقى ''روكسان'' تهيأ له أنها ملكة الأمازون·· أعتقد أنه كان يأبى أن تكون حبيبته امرأة عادية لا تليق به· لقد رقصت أمامه فأحبها وهذا ما آثار استهجان جنوده وحاشيته، إذ كيف يمكن لقائدهم العظيم أن يتزوج امرأة مثلها حيث كان بإمكانه على الأقل أن يتزوج من ابنة ''داريوس'' ملك الفرس، أو من إحدى أميرات مقدونيا·· أعتقد أن فهم حقيقة زواج ''الاسكندر'' من ''روكسان'' يشكل مفتاحاً أساسياً لفهم شخصية هذا الرجل· · بعد 12 عاماً من وفاة ''الاسكندر''، توفيت زوجته ''روكسان'' مسمومة، كما قتل عدد كبير ممن كانوا محيطين به، لماذا؟ - حتى هذه الوفيات، وخصوصاً بهذه الطريقة الدرامية، تبقى مجرد مرويات فرضية وغير مؤكدة· كل شيء ممكن· ومن الممكن أيضاً أن تكون ''روكسان'' قامت بتسميم ''هيفاستوس'' بدافع الغيرة·· لقد تناولت بعض هذه الأشياء في الفيلم لكنني تعمدت أن أتركها كفرضيات فقط· لكل إنسان الحق في تكوين فكرة ما عن ''الاسكندر''·· وبالنسبة لي فأنا لا أرى في ''الاسكندر'' الفاتح المنتصر في جميع معاركه فقط، بل أرى فيه أيضاً الرجل القوي المحاط بشخصيات قوية، وخصوصاً: أبوه وأمّه وزوجته ''روكسان'' وصديقه ''هيفاستوس'' ومن الطبيعي أن تحصل بين هذه الشخصيات القوية علاقات وأحداث قوية· قاتل أبيه · هل تعتقد بصحة ما يقال عن خلاف ''الاسكندر'' مع والده الملك ''فيليب'' وإلى درجة قتله؟ - يأتي ذلك في إطار مناصرة ''الاسكندر'' لأمّ ''أولمبياس'' في تدبير اغتيال ''فيليب''·· وفي اعتقادي الشخصي انه ليس من السهل استبعاد ذلك· · وهل تعتقد أنه بعد موت ''فيليب'' ظل ''الاسكندر'' خاضعاً لتوجيهات أمّه؟ - إن شخصية أم ''الاسكندر'' كانت المحرك الأساسي لشخصية ''الاسكندر''· كانت شخصية معقدة جداً، وكان ''الاسكندر'' حائراً بين ما إذا كانت هي الضحية وأبوه الجلاد أو العكس، كما كان حائراً بين ما إذا كانت زوجة مخلصة أو خائنة، وبين ما إذا كانت حملت به من ''فيليب'' أو من رجل آخر·· ومن هنا فأنا أوافق تماماً المؤرخين الذين يقولون بأن إفراط ''الاسكندر'' بالحرب وقضاء حياته كلها متنقلاً من غزو إلى آخر كان نوعاً من الهروب من الذات، ومن الهروب من صراعه الداخلي حول حقيقة أمّه· ومن هنا فأنا على استعداد لقبول الرواية القائلة بأنه ذهب إلى واحة ''سيوه'' في قلب الصحراء المصرية حيث أخبره كبير الكهنة إنه ليس ابن ''فيليب'' بل هو ابن إله/ ثعبان أقام علاقة مع ''أولمبياس'' لكي تلد إلهاً جديداً هو ''الاسكندر''·· ومن هنا، وبحسب تلك الرواية، فإن أول ما فعله ''الاسكندر'' لدى خروجه من واحة ''سيوه'' هو إرساله رسالة إلى أمّه في أثينا يخبرها فيها ارتياحه ونهاية صراعه مع نفسه: فالأم التي تقيم علاقة مع إله (ثعبان) لا تكون خائنة لزوجها بل حاملة لرسالة نبيلة هي إنجاب وليد إله (الاسكندر)· هيفاستوس · هل كان ''هيفاستوس'' فعلاً الصديق الوحيد والأوحد لـ ''الاسكندر''؟ - في الكثير من الكتب التاريخية التي قرأتها حول ''الاسكندر'' لم ألاحظ أي تركيز على ''يفاستوس''· كان الرجل الثاني في نظام ''الاسكندر''، ومن الطبيعي أن تبقى كل الأضواء مسلّطة على الرجل الأول· من هنا كان سعيي لإخراج ''هيفاستوس'' من تلك العتمة أو التعتيم، وقد أدهشني الممثل ''جاريد ليتو'' في براعته بلعب دوره في الفيلم·· لقد أحب ''هيفاستوس'' ''الاسكندر'' لذاته وليس لغايات أخرى· كان رمزاً للصداقة الحقيقية التي تكلم عنها ''أرسطو''· إلى ذلك فإن كل إنسانية ''الاسكندر'' تظهر بجلاء ساطع من خلال علاقته بـ ''هيفاستوس''· لقد خاض ''الاسكندر'' حروبه العسكرية في ساحات القتال، لكن حربه الحقيقية، والكبرى، جرت في أعماق نفسه· جنون العظمة · تبدو من خلال كلامك عن ''الاسكندر''، ومن خلال فيلمك طبعاً، كثير التركيز على الجانب النفساني من شخصية ''الاسكندر''·· ماذا إذن عمّا يقال إنه كان مصاباً بجنون العظمة (بارانويا)؟ - جنون العظمة لدى ''الاسكندر'' غير مستبعد على الإطلاق، إنما علينا ألا ننسى أن جميع ملوك مقدونيا قبل ''الاسكندر'' قد ماتوا اغتيالاً·· وهذا ما يفسر الإجراءات القمعية جداً التي كان يتخذها بحق رجال وضباط جيشه، وعلى قاعدة: اقتلهم قبل أن يقتلوني· كنت أرغب في إعطاء هذه المسألة مساحة أكبر من فيلمي، لكن السينما لا تتسع لك شيء ولو كان طول الفيلم ثلاث ساعات· لد كنت مجبراً على اختصار الكثير من الأشياء· أعتقد أنه لو كان الأمر عائداً لي وحدي فإن فيلماً عن ''الاسكندر'' لا يمكن أن يستغرق أقل من عشر ساعات· لكنه غير ممكن في واقع الإنتاج السينمائي· الإتحاد الإماراتية في 25 سبتمبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
المخرج أوليفر ستون: الاسكندر·· قاتل أبيه!: |