افلام المخرج سمير ذكرى تمتاز بالواقعية الجادة ويربطها خيط خفي جدا ودقيق كالشعرة لتكون سلسلة متناظمة الحلقات ومحكمة التراص واليوم لديه تجربة جادة مؤاطرة بالكوميديا السوداء، سألناه: ـاين مكان هذه التجربة في هذه السلسلة؟ـ نعم يبدو البعد الدرامي في افلامي الروائية وكأنه استمرار لخط ناظم في الترتيب، قد يختلف قليلا من فيلم لآخر لكنها كلها تتجمع في محور واحد أساسه الانسان والمجتمع السوريين. وهذا ان دل على شيء، فإنه يدل على منطلق ابداعي لفكر سياسي شخصي ورؤية ذاتية، فأنا اتمنى ان ابدع دون وجود خلفية سياسية تحليلية في اعمالي، او قضية وطنية محددة، لكن ما يفرض علي ذلك هو انبثاقي من جيل بدأ حياته بحرب فلسطين في عام 1948، ومن ثم العدوان الثلاثي على مصر، ومن ثم الوحدة بين مصر وسوريا. والانفصال الى حرب عام 1967 الى ان شاركت بحرب التحرير 1973، وحتى هذا اليوم، فهل لي ان اسعى الى فصل الخلفية السياسية عن سيرتي الذاتية لاصنع فيلما كوميديا بحتا وهو ما لا ارفضه، او ان اصنع افلاما عن الحب وعن النساء الجميلات والعلاقات الحميمة والراقية بين جيل الشباب والفتيات او افلاما استعراضية يمتزج فيها الرقص مع الغناء مع الكوميديا! اني ربما اعاني من ازمة احيانا بسبب الحضور الدائم لوجداني الوطني فيما اقدمه ولقناعتي بأن من ينتهج الابداع في الوطن العربي، وفي بلاد مثل بلادنا وهو مصاب بعدو خارجي وانظمة باتت عقيمة ومهترئة وغير عادية سيكون ابداعه فنا ليس مهنة، بل عاهة عليه ان يتحمل وزرها وعقباها وقلقها، لهذه الاسباب مجتمعة بدأت من فيلمي الروائي الطويل الاول «حادثة النصف متر» . وحتى الافلام التي عملت فيها مع اخرين بصفة كاتب سيناريو كأحلام المدينة للمخرج محمد ملص وبقايا صور للمخرج نبيل المالح كانت لدي محاولة جادة لتوصيف المجتمع، وتحليله لأني اعتبر نفسي كفنان وكمخرج سينمائى المسئول الأول عن ابراز ما يمكن للأجيال القادمة الاستفادة منه والاستهداء به.. اعلن ان الفن ضعيف ليس لديه دبابات او اجهزة امنية او انظمة سياسية بل كل ما يملكه هو الاشارة والدلالة والنصح كما انه يحرض على الجمال والحقيقة والعدل وغالباً ما يوثق الاحداث ولهذا اعتبر الفن اجمل شيء في الحياة لضعفه وعمق لغته وتنوع ادوات التعبير فيه. ـ لقد كنت في فيلم احلام المدينة الذي اخرجه الاستاذ محمد ملص شريكاً في كتابة السيناريو، كيف تمت محاولتك لاستكمال ما بدأته في حادثة النصف متر كما ذكرت بداية هل لنا ان نغرق معاً في تلك التفاصيل الابداعية خاصة وقد كان واضحاً تماماً طغيان الموضوع السياسي والتوثيق التاريخي للمنطقة كخلفية على مدى احداث الفيلم؟ ـ اذكر اولاً اني قبل احلام المدينة بدأت بفيلم بقايا صور الذي اخرجه زميلي نبيل المالح والذي يرصد الاحداث في سوريا بالعشرينيات وقد كانت لدي رغبة جامحة في ان تتوفر الفائدة لكل مشاهد يرى الافلام السورية بالتسلسل ويستطيع من خلالها ان يكوّن سرداً في ذاكرته او يفهم المجتمع السوري منذ زمن الشيخ عبدالرحمن الكواكبي وحتى الآن فمثلاً يمكن لهذا المتتبع ان يرى سوريا في عام 1860 في فيلمي تراب الغرباء . وفي 1920 من خلال فيلم بقايا صور وسوريا 1958 في فيلم احلام المدينة وسوريا ما بعد 1967 في فيلمي حادثة النصف متر وسوريا المعاصرة او السبعينيات في فيلمي وقائع العام المقبل.. وسوريا الآن في فيلمي الذي سأشرع بتصويره تحت اسم (علاقات عامة). هذه المتسلسلة السينمائية كانت غايتي وما اقدر عليه من قول الحقيقة واذكر هنا قول الكواكبي الاستبداد والجهل اهم سبب في تردي حال العرب والمسلمين واظن ان قوله هذا هو اقوى حقيقة علينا الاعتراف بها. · ما هي الحقائق او المنمنمات التي اراد المخرج سمير ذكرى قولها في اعماله التي قام باخراجها ووصف فيها المجتمع السوري؟ ـ ما اردت قوله في الحقيقة هو صيغة مجازية ربما او شاملة تألفها جملة من المقولات او الحقائق والمنمنمات التي تجتمع لتكون هذا المفهوم الرائع. في (حادثة النصف متر) هنالك حقيقة تتضح تدريجياً من خلال بطل العمل ذلك الموظف الصغير البيروقراطي المليء بالعقد والحاجات الانسانية والمادية والعاطفية والذي يفتقد للعدالة ولقدرته على ان يأخذ حقه من الحياة كما يرغب لكن لا يتحقق له ذلك إلا بقدوم نكسة يونيو. حيث كان الشاب الوحيد الذي ادى خدمته الالزامية في الجيش كاملة لأنه لا يملك واسطة او اي سبيل لتجاوز هذه الخدمة فإذا به يرتفع بمنصبه الوظيفي ويعيش على النكسة وتكون هي تلك المصيبة الحقيقية حيث يحصل الفرد على المناصب نتيجة لوقوع مصيبة النكسة وليس نتيجة لكفاءة أو لإنجاز معين. في فيلم «وقائع العام المقبل» كان لديّ توصيف لحقيقة دور البرجوازي الصغير الموسيقي المبدع الذي درس وتعلّم ليمتلك النظرية، ولكن الواقع ووضع الأنظمة السياسية في المجتمع العربي كلها تحول دون استمراريته الإبداعية حيث يجد نفسه باحثاً عن النظرية فقط وهذا مقتل فكرنا السياسي «البحث عن النظرية دون تطبيقها»، فعبدالناصر وحزب البعث وحركات القوميين العرب والوحدويين الاشتراكيين والشيوعيين... إلخ، كلها أحزاب نادت بنظريات عامة دون أن تقول ما هي الوسيلة لتحقيق ذلك؟ لذا تكلمت في فيلم «وقائع العالم المقبل» سنة 1986 من أجل البحث عن أداة، فكما يقول الجاحظ «الأفكار مطروحة على الطرقات» والمهم بل والأهم أن أجعل النظرية قابلة للتطبيق في الحياة اليومية وأن أسعى لامتلاك الأداة والوسيلة الصالحتين لتطبيق تلك النظرية وأن أتعلم هذه الأداة وأجيد استعمالها. هذه كانت فكرة الفيلم الأساسية. في ندوات الفيلم التي جرت حللت الأفكار المطروحة وتحدثت عن السوق العربية المشتركة وقلت من خلال الفيلم لا تتحدثوا بأمر الوحدة وأنتم تعلمون أنكم تكونون أنظمة قطرية محددة ومنغلقة على نفسها، فالانفصال بين مصر وسوريا الى الآن لم تدرس أسبابه تماماً وبرأيي أن السبب الأساسي لحركة الانفصال هو تصادم المصالح وهذه ليست كلمة صغيرة فأوروبا بدأت تتوحد الآن لانسجام المصالح . ولذا قلت من عشرين سنة في «الواقع» تكلموا عن سوق عربية مشتركة كبداية لوحدة عربية وابدأوا بتطوير الجامعة العربية وهذا ما يحاول أهل الحكم في الأنظمة العربية الدعوة له الآن وليس من العجب أن يستشرف الفنان الشيء قبل وقوعه وأن يطرح المخرج قضايا تكون محوراً ساخناً فيما بعد، فتلك أيضاً من وظائف الفن. والفنانون دائماً مستشرفون للمستقبل وليوناردو دافنشي هو الذي تكلم عن الهليكوبتر والغواصة منذ القرون الوسطى بفضل الخيال الذي ترويه ينابيع الثقافة المتنوعة. أما فيلم «تراب الغرباء» فقد احتوى على الجواب الذي نجم عن تساؤلات وإشكاليات طرحت في «الواقع» و«حادثة النصف متر» و«أحلام المدينة» و«بقايا صور» وقد كان جواباً من مئة سنة جاء على لسان الشيخ عبدالرحمن الكواكبي رجل حركة النهضة والتنوير بمقولته الشهيرة «الجهل والاستبداد أهم سبب لتردي حال العرب والمسلمين» إذا كان هناك شيء واضح يدل على عقمنا كأفراد ورغبتنا في الانقراض . وأقول رغبتنا وليس قدرنا هو ما دعا إليه الكواكبي من سنة 1860 ـ 1902 حين بدأت مشروع الفيلم كان الشيخ ابن باز مفتي السعودية قد جدد فتوى ابن تيمية المتشددة بشأن تحليل دماء اصحاب المذاهب الباطنية في القرن الواحد والعشرين وبذلك كان يعيد لفتوى ترمي . وتثير الفتن في امتنا العربية بدلا من توحيدها في وقت ألمت بها المصائب من كل حدب وصوب، ان تجديد ابن باز لفتوى ابن تيمية تلك كانت بمثابة الفتيل الذي سيشعل نار العداء في الداخل بعد ان خبت من هنا سارعت انا بتنفيذمشروع تراب الغرباء والبحث في فكر الكواكبي التنويري والتسامحي وفي سيرته الخلاقة والابداعية. لقد حاولت في فيلم (تراب الغرباء) ان اسلط الضوء على ميزة العرب الاساسية وهي قدرتهم على ان يستنبطوا من تاريخهم واديانهم وتراثهم وعلومهم وثقافتهم ما يساعدهم في شئون دنياهم الحديثة دون الاتكاء المطلق والمسبق على كل ما سلف افلم يقل الرسول الكريم: (أنتم ادرى بشئون دنياكم) لقد وقفت عند ذلك القول الكريم حيث يضعنا الرسول عليه الصلاة والسلام امام مسئولية ان نكون ادرى بشئوننا مستفيدين من السلف الصالح مثل ابن رشد وابن خلدون وعبدالرحمن الكواكبي. حين ابتعد كفنان او مفكر او مثقف عن ما هو غني بالافكار التنويرية في تراثي لابد لي ان اقبل وانتظر مجيء بيل كلينتون الى السعودية ليقول لنا: لو كان النبي العربي في عصرنا لسمح للنساء بقيادة السيارات لانها وسيلة مواصلات مثل الوسائل التي كانت سائدة في القديم حيث كن يركبن الخيول والنوق والجمال . او انتظر جورج بوش ليجدد لي طرح مفاهيم الديمقراطية والشورى وحرية الرأي وحق النقد التي كانت سائدة في مجلس الرسول الكريم ومجالس الخلفاء الراشدين، وانا اعلم جيدا انه بسبب البترول لا غير سيقوم هذا الاخير بتحريك وخلع انظمة وحكام هو من ساهم في وضعها يوما ما.. هذا الالم الكبير صراحة هو ما يحرك افلامي ويدفعني الى سبغها بتلك السبغة السياسية والاجتماعية. · قلت ان تراب الغرباء تزامن تنفيذه مع تجديد ابن باز لفتاوى ابن تيمية هل تعتبر نفسك قد اخترت اللحظة المناسبة؟ التقينا انا والكاتب فيصل خرتش حول ضرورة العودة الى الكواكبي وطلبت منه كتابته كرواية اولا في حال لم استطع تحقيقها كفيلم سينمائي وقلت له لا تقدم لي مادة قد لا تستطيع ان تفعل بها شيئا في حال لم يوافق عليها كفيلم سينمائي. بصراحة كان المشروع موجودا لدي وجاءت الظروف الانتاجية السليمة لانتاجه وعدت اليه رغم انني كنت اتمم الثلاثية السينمائية بفيلم (علاقات عامة) لكن تراب الغرباء جاء قبله ولم يكن غريبا عن الفكر السياسي الذي طرحته في الفيلمين اللذين قبله وهما حادثة النصف متر ووقائع العام المقبل. حيث من يستعرض الأفلام الثلاثة يكتشف كما ذكرت ان كل الاسئلة المطروحة تقابلها أجوبة كتبت سلفاً منذ مئة سنة كما يكتشف ان لدينا أزمة تفكير، فاللبناني يفكر بحجم مصر والمصري يفكر بحجم لبنان على العكس من الروسي والأميركي اللذين يتشابه فكرهما حسب مساحات أوطانهم والطاقات النووية والصواريخ العابرة للقارات وغزو الفضاء والتمكن من علومه وأبحاثه. والآن وصلت إلى فيلمي «علاقات عامة» الذي سبق وان أسميته «زمور الخطر» حيث عدلت عن التسمية لأني وجدت لا لزوم في أن أعلن عن خطر أو نفير نحن الآن نعيشه بل أصبح لا يبعد عنا موطيء قدم، فعندما طرحت هذا النص لم تكن أميركا قد احتلت العراق بعد، بل كان ذلك قبل الغزو . ولكن أحد أعضاء اللجنة الفكرية أفتى بما معناه، «أن النص يتناول شخصيات قيادية وروحية في النظام» فكانت النتيجة هي تأخر المشروع حتى دخلت أميركا الاراضي العراقية مما جعلني أتأخر في ضرب زمور الخطر حيث أصبحنا وسط الخطر. · لماذا أسميته علاقات عامة؟ ـ اخترت للفيلم علاقات عامة وهو عنوان تهكمي ساخر لواقع مهتريء نعيشه وسط علاقات غير معروفة وغير واضحة ان كانت صفقات أم علاقات حميمة أم حبا أم شراء وبيعا أم هي علاقات لأناس قد باعوا تاريخهم رغبة في شراء المستقبل وأي مستقبل ذلك الذي نضمنه إذا نحن بعنا تاريخنا. · يقال ان كثرة المقولات في الفيلم تشتت المشاهد، هل للمعالجة الدرامية في النص وأسلوبية الاخراج دور في تفادي ذلك؟ وهل هما كفيلان في إزالة أية ملابسات؟ ـ هذا السؤال يدفعني لطرح قضية مهمة جداً هي شكل السرد، فالأفكار كما قال الجاحظ مطروحة على الطرقات.. مثلاً أنا لا أستطيع معالجة قضية بمنتهى الحداثة وفق حبكة تقليدية سيحذر من خلالها المتفرج وربما من اللقطة الأولى ان هذين الاثنين سيحبان بعضهما، فالحبكة التقليدية غير صالحة لأن تقول ما ليس هو تقليدي. لنأخذ مثلاً السينما الأميركية المعروفة لكن السينما الأميركية تدهش بإمكانياتها وبما لا أملكه أنا كمخرج أو فنان لذا وجب علي ان ألجأ إلى ما سيدهش المشاهد وهو أسلوب الحبكة والسرد وهما عنصران ليسا غريبين عن تاريخنا، فأسلوب ألف ليلة وليلة مثلاً هو أسلوب لوحات متتابعة مرتبطة مع بعضها البعض تشكل نهاية كل منها بداية للأخرى. وهكذا دواليك إلى ان تنتهي عند القصة الأولى أو الأساسية فتجد نفسك أمام لوحة درامية فسيفسائية عن المجتمع العربي ومفاهيمه وبنيته وسعة خياله وعظمته وربما تفاهة بعض الأمور فيه أحياناً، وحتى غرائزه الجنسية مقالة بكل حقيقة وصدق وعفوية وتلك هي «قوة النص» قوة المنمنمات التي تميز كلا من الفن الشرقي العربي والفن الفارسي ودقة التفاصيل الصغيرة المرسومة بعناية والتي تجتمع كلها في النهاية بإطار موحد مثل سجادة شرقية أو زخرف شرقي تتماسك عناصره وتتراص لتشكل ما هو عام.
*لمحة من سيرته الذاتية والفنية:
البيان الإماراتية في 25 سبتمبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
السينما العربية عبر السورية (1 ـ 3) سمير ذكرى أفلامي توصيف للواقع ولا أهوى المبالغة دمشق/ ديانا فارس |