حلم “صناعة السينما” هاجس يسيطر على السينمائيين في دول العالم الثالث النامية، الفقيرة او المعدمة سينمائيا. وهو حلم مشروع وطموح، لكنه في واقع الحال يتعامى عن الشروط الموضوعية، ولا يتسم بالتواضع امام الإمكانات الاقتصادية المحدودة، حلم يأخذ صفة الاستعجال الذي يريد ان يرى البناء قبل ان توضع أساساته، ولا يراعي المستجدات في عالم تقنيات صناعة الأفلام والمتغيرات في نظم الانتاج والتوزيع. يحلم السينمائيون في العالم العربي، مثلهم مثل غيرهم من سينمائيي العالم النامي بقيام صناعة سينمائية في بلدانهم تحقق لهم طموحاتهم بصنع أفلام يبهرون العالم من خلالها بمواهبهم الفنية الإبداعية، وهم لا يكتفون بمطالبة حكوماتهم بتمويل او دعم مشاريع الأفلام الطموحة التي يرغبون بصنعها، بل يزيدون على ذلك فيطالبون بتخصيص الموازنات الكفيلة بإنشاء الاستوديوهات ومعامل الطبع والتحميض، وحتى تأسيس معاهد لدراسة السينما وذلك من أجل إعداد الكوادر اللازمة لصناعة الأفلام. وهم، بهدف إقناع حكوماتهم بتلبية مطالبهم، غالبا ما يؤكدون على ان صناعة السينما استثمار مفيد لتنمية البلاد لأنه ذو جدوى اقتصادية، هذا إضافة إلى قيمته الحضارية. غير أن الحكومات لا تستجيب، وليس ذلك يحدث لأن الحكومات لا تهتم بالسينما، أو على الأقل ليس كل الحكومات، فبعضها يهتم إلى حد ما بدعم السينما او بالأحرى دعم إنتاج أفلام سينمائية، بل بشكل خاص، لأن تعبير “الصناعة السينمائية” يدخل الرعب إلى قلوب المسؤولين الحكوميين، حتى ولو لم يكونوا عالمين بتعقيدات هذه الصناعة المعقدة وبتشعبات عناصرها المتكاملة فيما بينها، إنتاجا وتوزيعا وعرضا، وبارتباطاتها بنشاطات اجتماعية واقتصادية متنوعة وبصناعات مختلفة، خفيفة وثقيلة، وبتقنيات متنوعة بعضها بدائي يعتمد على المهارات اليدوية وبعضها الآخر شديد التطور يعتمد على التقنيات الرقمية. المطالبة بتأسيس صناعة للسينما في أي بلد عربي حلم مثالي . لكن هذه المطالبة التي لا يتوقف السينمائيون عن التلويح بها ليس وحدها ما يكتسب صفة المثالي، بل أيضا ما يرادفها من قناعة لدى السينمائيين بان مجرد توفير استوديوهات ومعامل طبع وتحميض وموازنات تغطي كلفة إنتاج الأفلام، يكفي وحده لصنع فيلم جيد، متناسين بأن جانبا مهما من جوانب جودة الفيلم، فنيا وتقنيا، على الأقل، يعتمد على خبرات تراكمية متنوعة لكافة الفنيين والتقنيين العاملين في الفيلم، وهي خبرات غير كافية وغير ناضجة حتى الآن في معظم الدول العربية. على كل حال، ليس موضوع تأسيس صناعة للسينما وما يتصل به من إشكاليات وتعقيدات هو بحد ذاته بيت القصيد في هذه المقالة، بل ارتباط صناعة السينما بتراكم الخبرات الفنية والتقنية الأولية التي تحتاجها عملية إنتاج الأفلام السينمائية والتي يؤثر نقصها سلبا على جهود المخرجين الإبداعية. لتوضيح هذه الإشكالية من المفيد إلقاء بعض الضوء على جانب من تجربة السينما المصرية في هذا المجال: أشار أحد النقاد السينمائيين العرب في ندوة عقدت ضمن فعاليات مهرجان سينمائي عربي تحت عنوان “السينما والتنمية الوطنية” إلى عدم واقعية المطالبة بتأسيس صناعة للسينما وإلى استحالة هذا الأمر حتى لو كانت ثمة توجهات رسمية لتحقيق مثل هذا الأمر. واستشهد الناقد بمثال السينما المصرية التي أعلن رسميا عن تأسيس صناعة للسينما فيها قبل نحو سبعة عقود من الزمن، معتبرا أن السينما المصرية، رغم كل تاريخها الطويل وآلاف الأفلام القصيرة والطويلة، التسجيلية والروائية، التي أنتجت خلال هذه السنوات الطوال، لم تصل بعد إلى أن تكون صناعة بالمعنى الحقيقي للصناعة السينمائية. لاقى هذا الرأى اعتراضا من سينمائي مصري، أكد بدوره، بالمقابل، أن صناعة السينما ناجحة في مصر، والدليل على ذلك أن آلاف العائلات تعتمد في دخلها على العمل في السينما المصرية. تطرق النقاش بعد ذلك إلى فيلم مصري طويل حديث، من صنع المخرج نفسه، يتابع سيرة بطله مذ كان شابا فتيا إلى أن أصبح رجلا طاعنا في السن. وجه الناقد ملاحظة فنية تقنية حول هذا الفيلم ترتبط بعدم تبين مظاهر التقدم في العمر على هيئة بطل الفيلم، لا صوتا ولا صورة، ربما باستثناء الصبغة التقليدية باللون الأبيض لأطراف شعر الرأس التي تستخدم في الأفلام المصرية، مما أفقد شخصية بطل الفيلم مصداقيتها وتأثيرها، على الرغم من قوة الفكرة الدرامية التي انبنت عليها أحداث الفيلم ذات البعد المأساوي. من ناحيته برّر المخرج هذا النقص في فيلمه مدافعا عن جهده الخاص بأنه استعان بمن اعتبره أفضل خبراء المكياج في السينما المصرية من أجل تغيير شكل بطل الفيلم بما يتناسب مع المراحل المتلاحقة، فالقضية إذن، حسب رأيه، قضية صناعة. وفي الواقع هي فعلا قضية صناعة ولكن صناعة ضعيفة غير متطورة، تعجز عن إنتاج نوعية جيدة من المواد المطلوب استخدامها في الفيلم، وتؤدي تبعا لذلك إلى عدم اكتساب الخبرات الملائمة من قبل التقنيين والفنيين المساعدين في السينما المصرية. في الجانب الآخر من المسألة تجدر ملاحظة أن ثمة العديد من مدراء التصوير ومهندسي الصوت ومهندسي الديكور العاملين في السينما المصرية، وغيرهم من الحرفيين والفنيين، ممن يمتلكون المهارات الحرفية اللازمة والذين اكتسبوا خبرات تقنية هامة، كل في مجال اختصاصه، وبعض اولئك برهن عن موهبة إبداعية متميزة، بحيث صار المخرجون يتسابقون للعمل معهم في أفلامهم الجديدة. غير أن المهارات والخبرات المكتسبة بالعلاقة مع نوعية ومستوى تطور تقني يسود في حقبة معينة، تظل معرضة لامتحان اكتساب الخبرة وامتلاك المهارة اللازمة بسبب من اكتشافات جديدة في حقل التقنيات أو بسبب التغيير النوعي في مادة التقنيات ذاتها، فالخبرات مسألة نسبية. وهكذا، على سبيل المثال، فإن التحول التدريجي المتزايد الاتساع نحو استخدام التقنيات الرقمية الإلكترونية في السينما وإحلال الكاميرا الرقمية بنظام الفيديو محل الكاميرا السينمائية التقليدية يطرح معضلات جديدة غير مسبوقة على السينمائيين، وبالذات المخرجين ومدراء التصوير، تقتضي اكتشاف أو تعلم حلول جديدة لمجالات فنية من نوع كيفية التعامل مع الإضاءة لتصوير المشاهد الخارجية أو الداخلية، النهارية أو الليلية، خاصة عندما يكون الهدف التالي للتصوير هو إعادة تحويل الفيديو إلى شريط سينمائي بما يسمح بعرضه في صالات السينما التقليدية. يواجه السينمائيون العاملون في الدول الصناعية الغنية ذات المعضلة بالتعامل مع التقنيات الجديدة، ولكن بنسبة أقل مما يواجهه سينمائيو الدول النامية. فالأولون يحظون بامتياز لا يحظى به سينمائيو العالم النامي وهو انهم جزء من آلية الصناعة نفسها تتطور خبراتهم بالتوازي وبالتوافق مع تطورها. الخليج الإماراتية في 20 سبتمبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
أحلام صناعة السينما عربيا عدنان مدانات |
|