شعار الموقع (Our Logo)

 

 

الأشدّ إثارة في “باب الشمس” ليسري نصر الله، من رواية الياس خوري، أنه يروي التاريخ والقضية والمأساة، بالجسد. إنه الجسد الذي حمل أثقال التهجير والاقتلاع، والجسد الذي قُتل وجُرح وتألم، والجسد الحسّي الذي عشق وحمل الحياة، والجسد الهشّ الذي وقع في غيبوبة، والجسد الذي اقتلع من ذاكرته وظلّ لصيقاً بها في الانتماء والنضال والحلم والرواية.

الجسد “پازولينيّ” في طبيعة “تايانيّة”، محمول على المشهدية العريضة، الآسرة والمؤثّرة، لمواكب الراحلين قسراً في الـ48 عن مدنهم وقراهم، مقتلعين من ارض عيشهم البسيط وخير زرعهم وبساتين الزيتون والبرتقال. فلاحون طيبون ألفوا أنفسهم في غفلة من زمن المؤامرات الخارجية والداخلية، بريطانية وصهيونية وعربية، مهجرين من قراهم على دروب الرحيل الجماعي التي برع المخرج نصر الله في اعادة إحيائها التاريخية، منقّلاً كاميراه بين الأجساد والوجوه التعبة لأطفال وشيوخ ونساء تتقاذفهم رياح الظلم والقهر وأمواج الرحيل والعودة، فالرحيل ثانية من غير عودة، في حركة تشتّت وضياع يتقن نصر الله تجسيد وطأتها ومأسويتها وخلق التعاطف معها من دون اي نبرة ميلودرامية بكّاءة.وان تميّز الجزء الاول من “باب الشمس” (بدأ عرضه هذا الاسبوع في الصالات المحلية، ويليه الجزء الثاني لاحقاً) بإحيائه التاريخي وشاعريته ومشهديته العريضة الجميلة والمؤثّّرة، فإن الجزء الثاني يلج في نبرة شبه هاذية وعبثية وسوريالية مرحلة معاصرة، حديثة زمنياً، منطوية على مواقف نقدية من بعض وجوه الثورة الفلسطينية التي ضاعت في متاهات الحروب الأهلية وسواها. هنا يتبدّل الاسلوب السينمائي وإن أبقي على الصلة العضوية بين جزءي الفيلم الواحد.

وإذ ستكون لنا وقفات تالية مع الفيلم، نمهّد هنا بحديث مع مخرجه الذي انجز الى اليوم اربعة افلام روائية (الى فيلم وثائقي) وسّعت له حضوراً فذّاً لا في السينما العربية فحسب بل في السينما العالمية، وهو آت من تجارب عديدة في النقد والالتزام السياسي، ومن مدرسة يوسف شاهين اخراجياً، لينتهج لاحقاً خطاً منفرداً ميّزه عالياً.

·     الجسد يحمل تصوّرك لـ”باب الشمس”. انه فيلم جسد. جسد الغيبوبة، جسد الرغبة، جسد الرحيل، جسد الموت... الجسد مرتكز الرؤية والتاريخ، الفرد والجماعة. نظرتك كلها تعبّر عبر الجسد فيختزل أبعادها.

- تماماً، الحمد لله ان احداً رأى ذلك. أفلامي كلها من “سرقات صيفية” الى “مرسيدس” و”صبيان وبنات” و”المدينة” تدور حول علاقة الفرد بالتاريخ، بالجماعة. حتى الموضوعات الكبرى لا تلغي الفرد ولا تقتله. رواية “باب الشمس” لا تتكلم على قضية بل على افراد يقاومون وطأة التاريخ. ثمة اناس أحياء وموجودون. في الأفلام الجيدة عن الحرب مثل “غلاف معدني كامل” (لكوبريك عن حرب يتنام) و”الرؤيا الآن” (لكوبولا عن الحرب نفسها) نرى تلك الحرب من وجهة نظر واحدة لا من وجهتي نظر “الابطال” و”الاعداء”. لماذا؟ لأنه داخل القبح والعنف هناك دوماً افراد يحاولون الحفاظ على انسانيتهم، لا في المعنى الانسانوي بل في المعنى الآدمي، أي أن يبقوا بشراً. الجسد جزء من عملية تركيب تلك “الآدمية”. يتحوّل الجسد الى تاريخ، الى سارد له مثلما عاشه.

·         البديع في ما صنعته انك اختزلت الملحمي العريض في هذا الجسد.

- أتاح لي ذلك متّسعاً للكلام.

·         رأيت ايضاً شعراً وشاعرية، خاصة في الجزء الأول.

- الجزءان في أي حال مشروع واحد. ما حاولته خلال كتابة السيناريو هو جعل الجزء الأول عن فلسطين مثلما رُويت لنا وقبعت في مخيلتنا كسرد تأسيسي. ما هو السرد التأسيسي هنا؟ لديك “حدوتة” لم تُروَ. في مصر لا نحب مثلاً الكلام على حرب الـ67 والهزائم الكبرى المخجلة. عايزين ننساها! الياس خوري واجه ايضاً صعوبة كبيرة في دفع اهل المخيمات الى الكلام عمّا حصل في زمن النكبة. الناس حكوا. عظيم. هل اترك كلامهم في حالته الخام أم أمنحه شكلاً؟ هذا الشكل موجود في الرواية. لكن الشكل الموجود في الفيلم هو شكل آخر ولا علاقة له بالشكل في الرواية. عمل الروائي والسينمائي ان يعثر على شكل، على صيغة تجمع سديم الافكار التي عاشها وسمعها من افواه الناس.

·     أميل الى مناقشة الشكل معك لأن خطاب الفيلم السياسي وجانبه التاريخي سيكونان موضوع تركيز للغالبية. أودّ التركيز على الجانب السينمائي، فإلى الجسد فتنني اشتغالك على العناصر: الطبيعة، الهواء، الماء، الضوء... ثمة اشتغال مرهف وعميق على هذه العناصر وكيفية تصويرك للطبيعة بل احساسك بها.

- يسهل ذلك بعد ان تعثر على موضوعك وأدواته، وهي هنا جسدية ملموسة وليست مجرّدة. منذ البداية تقول ام يونس: كل شيء يابس، تراب بتراب. ويقول لها رجلها: كل شيء تلمسينه يصيبه اليباس. وفور دخول نهيلة تجلب معها الماء. نهيلة هي الجسد، الخصب، الجمال المشعّ. في البيت الواحد، وعبر حركة كاميرا، ننتقل من لقطة اليباس في جانب الى الخضرة في الجانب الآخر حيث نهيلة. الأمر نفسه طبّقته على المغارة التي أردتها مزهرة ومنتعشة. العناصر نعثر عليها شيئاً فشيئاً لدى بحثنا عن شكل للفيلم...

جزءان... تكامل واختلاف

·     أمر بديهي ان ترى ترابطاً وتكاملاً وتداخلاً بين جزءي الفيلم، أي “الرحيل” و”العودة”، وان تدافع عن وحدتهما العضوية. لكني أصرّ من ناحيتي على رؤية جزءين مستقلين ومختلفين.

- بل ضروري ان ترى جزءين.

·     الفيلم بجزءيه عزيز على قلبك، أعرف. لكن الشعر الجميل هو في الجزء الأول ومشهديته الانسانية الواسعة ومواقع تصويره وعناصره. الكلاسيكي هنا حديث جداً ومعاصر، بينما الآنيّ والأقرب زمنياً في الجزء الثاني فقد يكون اكثر كلاسيكية وشاهدنا مثله او شيئاً قريباً منه في سينما الحرب.

- كلٌّّ من الجزءين يجيب الآخر، يردّ عليه.

·         ثمة سخرية من الثورة.

- كلا، ليس من الثورة، بل من مؤسساتها الهزيلة والمنهارة.

·         تدمّر الكليشيهات و"الرموز" ما خلا اثنين، غصن البرتقال وغصن الزيتون.

- آه، هذان ليسا رمزين بل هما محسوسان ويؤكلان (ضحك). منذ المشهد الاول لا يستعمل البرتقال رمزاً بل شيئاً يؤكل. تعلقونه على الجدار رمزاً لفلسطين؟ لا حبيبي، تعالوا ناكل فلسطين قبل ما تأكلنا (ضحك).

·     صنعتَ ملحمة غير بكّاءة. كلّما بلغت ذروة درامية عالية تكسرها بالفرح او الدعابة المرّة. وفي المقابل كلّما بلغ الفرح نقطة عالية تكسره بالدراما. يحاول فيلمك الانحياز الى الحياة من غير الوقوع في البكائية، ومن غير ان يهمل جانب المعاناة ايضاً. انه ميزان دقيق.

- هذا تعبّر عنه بياتريس دالّ إذ تقول: “لا استطيع تقديم مسرحية من اربع ساعات عن مجزرة شاتيلا. كنت اتوقع رؤية الموت في كل ناحية فألفيت نفسي محاطة بالحياة وشعرت بالذنب. في المقابل استطيع ان احب رجلاً فلسطينياً...”. توضح بذلك سبب عجزها عن تقديم هذا النص لجان جينيه الذي هو وصف للجثث وتقليب لها. لو تعاملت مع موضوعك على نحو بكّاء فمعنى ذلك انك لا ترى الانسان امامك سوى  انه سيموت فتدخل “النَدْب”. موضوع فيلمي هو الحياة.

·         هل كانت ضرورية شخصية سليم. رأيت ان هذا المشهد “شاهينيّ” جداً. هل أردته تحية ليوسف شاهين؟

- لو بدا كذلك فأمر حسن. الشخصية موجودة في الرواية. حين تعجز بياتريس دال عن الكلام على مجرزة صبرا وشاتيلا يستخدم هو جسده كـ”ميتافور” (استعارة) لصبرا وشاتيلا. ثم هو يرمز الى الحياة وينتمي الى جيل جديد في المخيمات. يحسن التعامل مع الانترنت، مطّلع على العصر، ولا يلوك الكلام الفارغ عن الثورة التي اضحت بين ايدي رجال الاعمال الأمنية.

·         انها شخصية مهرّج مأسوي.

- بلى، وشخصية حياة. لدى خروج خليل للمرة الأولى الى الشارع يصدم بشاب خفيف الظل يلعب على نحو متواصل بين جسد العجوز وجسد الشاب.

·         الشخصية لطيفة لكنها “مطّت” الفيلم واستولت على دقائق طويلة منه.

- أعرف عمّا تتكلم. لكن لنحاول ان ننتزع مشاهد سليم، خاصة مشهد بيع الشامبو في الشارع، او مشهد التانغو –وهذه خسارة لأن المشهد جميل -، ونبقي على مشهد كلامه عن المجزرة. في هذه الحال، عوض ان تكون لديك شخصية مرحة “شاهينية” كما تقول، تكون قد فعلت مثل “وكيل النيابة”، استدعيت شاهداً، جعلته يدل بأقواله ثم صرفته. أكره هذه الطريقة. من يقدّم  شيئاً مهمّاً للفيلم يجب ان أتعامل معه كفرد، كشخصية، وإن أخذ من وقت الفيلم.

الإحياء التاريخي

·         وماذا عن الرحيل والعودة المتكررين في مرحلة التاريخ من الجليل؟ ألم يساهما ايضاً في الاطالة؟

- أستطيع أن أصوّر ذلك في لقطة واحدة وانتهى الأمر.

·         لعلّ المعنى كامن في تلك الحركة من الرحيل والعودة.

- انها حركة تشبه حركة الموج، وعملت اخراجياًً على تصويرهم من اليسار الى اليمين لدى رحيلهم، ومن اليمين الى اليسار لدى عودتهم.

·         كيف اشتغلت على اعادة الإحياء التاريخية؟ أين اخترت مواقع التصوير؟

- صوّرنا في قلعة الحصن في سوريا.

·         الطبيعة هناك تشبه طبيعة الجليل.

- الصور اظهرت لنا ذلك.

·         والقرى وبيوتها القديمة؟

- بنينا بيوت قرية عين الزيتون كلها. كذلك الكيبوتزات اليهودية بنيت كديكورات.

·         الملابس التاريخية جميلة ومشغولة في اعتناء. وفق أي تصوّر اشتغلتها مصممة الملابس ناهد نصر الله؟

- لو نظرتَ الى المجاميع او الكومبارس لما وجدت واحداً يرتدي ملابس شبيهة بملابس الآخر. وهذه فكرتها، ان تكون لكلّّ منهم فردانيته.

·         لِمَ، في المقابل، لا نرى وجوه الاسرائيليين؟

- تعمّدت تصويرهم في لقطات بعيدة او جعل قوة النور تحجب ملامحهم. لم أشأ صورة نمطية للجنود كما يصوّرها الاميركيون مثلاً عن النازيين في الحرب العالمية الثانية. لم أشأ دخول هذا الطريق. ثانياً، عندما أكون مثلاً في تظاهرة وتأتي الشرطة لتضربني فإني لا أرى وجه الشرطي الذي يضربني بل العصا. فيلمي مصوّر من وجهة نظر شخوصي، من وجهة نظر منحازة تماماً وبلا أي خجل. تحت العنف والضغط والسلاح تعمي الشمس بصيرتي فلا أرى وجه عدوّي. ثمة دوماً ما يعمي في اخراج اللقطة، الضوء او الشمس أو النار. أخذ عليّ بعض النقاد ذلك: لماذا لا تظهر “الوجه الانساني” للاسرائيليين؟ واجيب: لأنني لا أراه، بكل بساطة (ضحك). بل لأنني لا أرغب في رؤيته (ضحك). تغييب الوجه هنا ليس ايديولوجياً بل جسديّ تماماً.

خارج حقل الصورة

·         ناحية اخرى جميلة في فيلمك ما يجري خارج حقل الصورة (أور شان) كما في مشهد التحقيق مع نهيلة.

- بلى، في الأسود. ثمة الكثير من الـ”اور شان”، في المغارة لدى مجيء يونس ونهيلة حيث تظل الكاميرا ثابتة وتخرج هي من الكادر، ثم تذهب الكاميرا الى يونس فنجده نائماًَ...

·         كوريغرافيا حركة الكاميرا لديك جميلة جداً. كيف تمّ تعاونك مع مدير تصويرك سمير بهزان؟

- عملت كل افلامي معه. كان كاميرامان في البدء، ومنذ “صبيان وبنات” هو مدير تصويري.

·         هل يقترح عليك اشياء؟

- يفعل ذلك طيلة الوقت.

·         أي ثمة تواطؤ في النظرة بينكما.

- التواطؤ موجود مع كل فريق العمل، مع مصممي الديكورات والملابس، مع الممثلين ومدير التصوير. حركة الكاميرا انا مَنْ يقرّرها دائماً.

·         هل تعمل على طريقة يوسف شاهين؟ أي هل تهيئ كل شيء سلفاً على الورق؟

- بلى، إنما ليس بمثل صرامته. هو يعمل على تفاصيل التفاصيل. أنا أعرف تقريباً الشكل النهائي للمشهد، للّقطة. حين أقول لقطة قريبة فقد تكون لقطة قريبة متحركة او منفّذة بالكرين...

·         طالما ذكرت الكرين، ثمة لقطة مصوّرة بها حيث نرى الكاميرا تصطدم بغصن زيتون في اعلى الشجرة. هل كــان ذلك مقـــــصوداً؟

- بلى، ابقيتها عمداً. مثلما وضعت عمداً صوت الطائرات وليس بالصدفة.

·         كيف تعمل مع ممثليك؟

- ثمة تمارين قراءة ومناقشات في البدء. يطرحون عليّ الأسئلة التي يبغونها وأكون مدركاً ما احتاج اليه في المشهد. اني سريع جداً في تحضير التصوير. الأمور التقنية لا تستلزم مني وقتاً طويلاً. أضع الكاميرا ثم أتفرّغ لأســــــئلة المــــمثلين. لا أتدخّل مع الممثل في اللقطة الأولى. أدعه يريني ما سيفعله. وأصوّر هذه اللقطة، عامةً، ليس كـ”پروة”، كي لا يحرق الممثل نفسه في هذه الـــــــپروة”. اذا كان الاداء سيئاً اوقف التصوير. بناء على هذه اللقطة الأوّلية أعمل.

·         كم ساعة “راشز” صوّرت؟

- نحو خمس وعشرين ساعة.

·         هل كان تصوير الفيلم قاسياً لك؟

- كلا. انه احد الأفلام الأسهل تنفيذاً لي. ثمة انطباع شائع ان مشاهد الجموع هي الأصعب. ليس صحيحاً. إنها المشاهد الأسهل (ضحك). الأصعب هي المشاهد الحميمة. هنا نراقب الممثل واصغر خطأ في الكاميرا. اما حين يكون لديك الف شخص في اللقطة، فلو هزّت الكاميرا قليلاً او ظهرت سحابة في السماء او تغيّر الضوء، لا يكون ذلك أمراً مؤثراً. مشهد الهجرة الجماعية عبر الجبال استلزم يوم تصوير واحداً فقط.

·         علامَ تعمل الآن كمشروع مقبل؟

- على مشروع بسيط وسهل (ضحك). لا أودّ العودة الى صورة المخرج الذي يصنع المشهديات الكبرى.

النهار اللبنانية في 20 سبتمبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"باب الشمس" في الصالات ومخرجه يسري نصر الله يتحدث الى "النهار":

الموضوعات الكبرى لا تلغـي الفرد والجسد تحوّل إلى تاريخ

جورج كعدي