من الصعب أن اتكلم عن “باب الشمس”، الرواية التي صارت مع المخرج يسري نصرالله فيلماً سينمائياً كبيراً، يتألف من جزءين ومدته اربع ساعات ونصف ساعة. الروائيون يتلعثمون في العادة امام اعمالهم حين تتحول افلاماً، ويفضّلون السكوت والاستماع الى آراء الآخرين. وأنا لست استثناء. لكن شروط الكتابة الروائية، وكيفية كتابة السيناريو وتحوّله فيلماً، يستحقان لحظة من التأمل، استطيع من خلالها أن استعيد تلك المناخات الساحرة التي استولت عليّ، جاعلة مني “أسيراً عاشقاً”، بحسب عبارة جان جينه. الرواية، بالنسبة اليّ، كانت قصة حب. سحرني عشق يونس لنهيلة، واتلفت روحي حكاية شمس وخليل، ومن هذين العشقين الكبيرين نمت حكاية حبي للفلسطينيين وحكاياتهم، التي لم أشف منها حتى الآن. لا أريد الايحاء أن الحب بدأ مع البحث والكتابة الروائيين اللذين استغرقاني اعواماً طويلة بل هو حكاية قديمة، بدأت في شبابي المبكر في اواخر الستينات حين ذهبت الى نهر الاردن، وتعلمت الوقوف في مياهه، كي أحمل حصتي من آلام “معذَّبي الارض”. غير أن العمل الميداني في شاتيلا وبرج البراجنة ومار الياس وعين الحلوة، كان اشبه برحلة الى الاقاصي والاعماق. ذهبت الى المخيمات من اجل أن اتعلم ابجدية الحكاية الفلسطينية. سافرت الى بلاد لم أزرها، وكانت عيون عشرات النساء والرجال، الذين استمعت اليهم، نوافذي المفتوحة على الذاكرة والألم والحلم. تعلمت أن اكتب في وصفي قارئاً. اصطحبت معي في رحلتي هذه اصدقائي الذين انحفرت كتاباتهم في وعيي ولاوعيي. كنت في رفقة محمود درويش وغسان كنفاني واميل حبيبي وجبرا ابرهيم جبرا وانطون شماس وادوارد سعيد. لكنني كنت وحيداً ايضاً. اقصى التلاقي واقصى العزلة اجتمعا، مثلما يجتمعان دائماً امام الكتابة، واخذاني الى قراءة ما لم أكن قد قرأته، والى اماكن لم تطأها قدماي من قبل. اللغة الخرساء صارت لغة ناطقة، اكتبها وتكتبني، بحيث لم أعد قادراً على التمييز بين القارئ والكاتب اللذين اجتمعا فيّ. هل كتبتُ الكتاب، أم هو الذي كتبني؟ لا أدري. لكني شعرت امام الألم الذي صار عناقيد من الحكايات والكلمات، بالدهشة حيناً، والغربة حيناً آخر. ثم لمستني الفة الحب الذي اجتاحني امام جمال الانسان الذي يصنع الحياة ويستولدها من الألم والموت. خرجت من الرواية بعدما تعلمت أن على الكاتب أن يكتب كقارئ وان صوغ الرواية من نثار الواقع والمتخيل، يقود الى تحويل القارئ كاتباً، وبذلك تستقيم العلاقة، وتتخذ صورتها الملائمة. وحين بدأ العمل على السيناريو مع يسري نصرالله ومحمد سويد، اكتشفت كيف صارت قراءة الرواية، شكلاً لاعادة كتابتها، عبر ترجمتها من اللغة الى الصورة. جاء يسري نصرالله بالمشروع السينمائي، واصرّ على أن اشاركه في “خيانة” الرواية، مثلما قال لي. ابتسمت حين استمعت الى كلمة خيانة، وتذكرت خيانات شمس التي كانت اسماً آخر للحب، واستقرّ الرأي على أن يعمل معنا قارئ ثالث هو محمد سويد. عرفت يسري نصرالله حين عملنا معاً في القسم الثقافي في جريدة “السفير”، في أواخر السبعينات، وعملت مع محمد سويد في الجريدة نفسها، قبل أن ننتقل كلانا الى “الملحق”. يسري ومحمد ناقدان سينمائيان صارا مخرجين، وأنا لم أعمل في السينما الا في شكل عرضي، عبر مساهمتي في كتابة سيناريو “خارج الحياة”، لصديقي الراحل مارون بغدادي. التقيت يسري في اوج الحرب الاهلية، وذروة عبثيتها. كان الشاب المصري الآتي الى بيروت، بأحلامه الثورية، يعيد صوغ مزيج الخيبات والاحلام في مقالاته النقدية، وعبر عمله مساعداً للالماني شلوندورف او لعمر اميرالاي. ثم غادر بيروت كي يبدأ مغامرته السينمائية في مصر. مزيج من الذكاء والموهبة والاخلاص، ولكن ايضاً صداقة لم تنقطع رغم المسافات، وقدرة على تجديد الذات عبر اعمال سينمائية، صارت احدى علامات الابداع والتجديد السينمائي في العالم العربي، وفي العالم. محمد سويد، الذي اتى للعمل ناقداً سينمائياً بعد مغادرة يسري نصرالله، بدا في خجله وتواضعه أشبه بالهاوي. ثم اكتشفت ان هذا الهاوي محترف عرك النتاج السينمائي اللبناني قبل أن يصير ناقداً. لكن المفاجأة كانت عندما عرفت اننا كنا معاً من دون أن ندري. جمعتنا الكتيبة الطالبية، وجمعنا الحلم والخيبة. ثم صار محمد سويد مخرجاً لمناطق الوجع في الصورة. ترك “الملحق”، وانصرف الى الكاميرا يخبرها حكاياته، ويستمع اليها وهي تحوّل الكلام صوراً، قبل أن تصيبه لعنة الكتابة الروائية، ويعدنا بمفاجأته المنتظرة في “كاباريه سعاد”. كان العمل في السيناريو، حول مائدة يسري نصرالله، الذي اكتشفنا فيه فناناً في طهو الطعام ايضاً، اياماً من المتعة والمعاناة في آن واحد. كنت أشهد كيف يتحول صديقاي من قارئين الى كاتبين. كانا يقرآن بالكتابة، ويعملان على النص الروائي كأنهما يقومان بتأليفه. معهما صرت قارئاً لروايتي، اكتشفها، وافاجأ بمنعطفاتها وتلاوينها، واستمتع بالنظر اليها، وقد انعكست في مرايا العيون، ودخلت في مخاض الصورة. الانتقال من لغة الكلمة الى لغة الصورة، عملية معقدة وصعبة، تبلغ في بعض الاحيان حدّ الاستحالة. وهنا يقع دور المخرج، الذي يسرد بالصورة بدلاً من الكلمة. يزيح الكلمات عن دورها المركزي ليجعل منها رديفاً للمشهد الذي يتشكّل. فجأة يستولي خيال المخرج على السرد، ونصير امام عمل جديد يشبه العمل الاصلي ويختلف عنه. ذهبت الى مواقع التصوير اكثر من مرة، وادهشني التشابه بين تلال الشمال السوري التي رأيتها، وتلال الجليل التي لم أرها. لكن دهشتي الكبرى كانت امام آلية بناء المشاهد، حيث يتقطع السرد اللغوي، من اجل بناء وحدة السرد بالصورة، وحيث يضبط المخرج عشرات العناصر المختلفة، كي تأتلف داخل كادر الكاميرا، في تناغم ايقاعي. لم اكن قادراً على ان اتخيّل كيف ستجتمع المشاهد المتفرقة في مبنى واحد، لكني كنت أراقب نفسي، وأنا اشاهد عشرات الممثلات والممثلين، الذين يلبسون ابطال الرواية، ويجسدون حكاية حبي لحبهم. وفي النهاية، قرأ يسري نصرالله “باب الشمس”، واعاد كتابتها بلغته السينمائية الشاعرية والملحمية، واخذنا الى فلسطين ولبنان، وهو يقبض على جمر الحب والحكاية. واصبحت واحداً من ألوف المشاهدين، الذين يقرأون الفيلم ويعيدون تأويله. للشمس ابواب لا عدد لها. وحين اجتمع الحب والصداقة، كانت الحكاية التي تتوالد في حكايات لا تنتهي. النهار اللبنانية في 19 سبتمبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
الحب والصداقة الياس خوري |
|