هناك أفعي كبيرة تستطيع التهام قارب بأكمله. القفز من أعماق الماء إلي سطح البيوت والالتفاف علي نفسها بقوة كما لو كانت رمزا لمشاكل العالم المتراكمة. ولا أحد بمنأي عن غضبها. بالتأكيد ليس الفريق السينمائي الذي وصل لبعض تلك الأنحاء المعزولة من العالم. هناك أسماك قرش تحيط برجل وإمرأة في عرض البحر بعيدان عن الساحل. بعيدان عن الحياة. لا طعام ولا ماء ولا وسيلة اتصال ولا قارب يتجهان به شرقا أو غربا. بعد نهار وليلة هما متعبان وجائعان, كذلك أسماك القرش وقد انتظرت طويلا ثم أخذت تقضم. ثم هناك ذلك الشيطان الذي يعيش في شرقي أفريقيا حيث يلتقيه الراهب الذي كان يبحث في مسائل الحياة والموت. ذلك اللقاء الذي يحملهما لاحقا إلي مواجهة أخري عندما عاد الراهب إلي نيويورك وفوجيء بأن الشيطان صار هناك وقد دخل جسد فتاة صغيرة. هذه هي مواضيع بعض أفلام الرعب المعروضة حاليا في الولايات المتحدة وقريبا في العالم العربي. إنها علي التوالي' أناكونداس: صيد الأوركيد',' في عرض البحر' و'طارد الأرواح: البداية'. والمستقبل فيه المزيد من هذه الأفلام تتوالي كما الخوف نفسه, موجات موجات. واحد من الأفلام المنتظرة إعادة صنع لـ' شبح الأوبرا', حكاية ذلك الرجل المشوه المختفي تحت أنقاض المسرح القديم واقعا في حب مغنية الأوبرا. جهد آخر للمخرج جوويل شوماكر في مسيرته المتعرجة. والأمر يبدو متلائما مع الجو العام والخوف الأكبر المشاع حاليا في الولايات المتحدة: الخوف من الضربة التالية( التي لن تقع) أو الخوف من ولاية متجددة لجورج بوش( احتمال كبير) أو كليهما معا( احتمال أكبر). رعب هذه الأفلام يسير في خط مواز للرعب السائد خارج صالات السينما, لكن أيا منها لا ينحرف ليتقاطع مع الواقع. لا ثعبان الأمازون ولا قرش المحيط الهندي ولا شيطان أفريقيا( إلا إذا كان مفهوم الفيلم أن الشياطين تجيء من هناك). الفيلم الوحيد الذي يلقي بظلالاته حول الوضع القائم من بين أفلام الرعب الموجودة هو فيلم م. نايت شياملان' القرية'. لكنه أيضا ليس فيلم رعب قائما علي ثعابين أو قروش أو شياطين, بل ينفرد بمنأي عن كل ذلك متحدثا عن واقع داخل الفيلم. الواقع مستمد من الواقع الأكبر خارج الفيلم. لمن لا يريد أن يقرأ تفاصيل عن الفيلم, عليه التوقف عند هذا الحد. ذلك لأن ما سيرد قد يكشف عن النهاية بينما النهاية هي لب الفيلم بأسره. لمن يريد المتابعة وعد بأن يسود سعي لعدم البوح عن التفاصيل حتي يبقي هناك ما يثير حب المتابعة.' القرية', بين جملة الأفلام الجديدة المعروضة حاليا, مختلف في أنه يتعامل مع الواقع الحالي من خلال موضوع الخوف الذي يعيشه إنسان اليوم. هناك نفق مثل النفق الممدود تحت سطح البحر بين أوروبا والجزيرة البريطانية. هناك صعوبة في تقديم فيلم رعب ذي موقع في الحياة الحالية من دون أن يكون مباشرا, لكن هذا ما استطاع المخرج شياملان توفيره. لا أقول إنه فيلم خال من الشوائب والنواقص, لكنه فيلم يتبع منهج المخرج ورؤيته ويتحلي بقدر كبير من الفهم لماهية اللقطة السينمائية ومدلولاتها إذا ما اعتمدت علي هذا النحو أو ذاك. مهارة المخرج الهندي الأصل الذي قدم' الحاسة السادسة' و'غير قابل للكسر' ثم' إشارات' قبل الوصول إلي فيلمه الأخير, هي توظيف ذلك الفهم في المحيط العام للمشاهد فإذا به يتحدث عن موضوع أكبر مما هو مطروح. وما هو مطروح في اختصار هو التالي:
قرية
نطالعها في أزيائها التاريخية. تستخدم كلمات وأساليب لغوية عفا عليها
الزمن.
ترتدي ملابس من تلك التي كانت دارجة أيام' مرتفعات ويذرنغ'
وتعيش علي ما تزرعه
في تلك الأرض. بالقرب منها غابة كبيرة تطل عليها. هناك أصوات وحركات في
تلك
الغابة وحديث عن' الذين لا نتحدث عنهم'. نظريا: مخلوفات مخيفة تعيش
فيها
لكنها, وحسب إتفاق مبرم, لا هي تغير علي القرية ولا أبناء
القرية يدخلون تلك
الغابة. فجأة يقرر بطل الفيلم( واكين فينكس) دخول الغابة. يثير ذلك
دخول
المخلوقات إلي القرية وتهديدها لها. ثم يقرر هو نفسه الزواج من الفتاة
العمياء(
برايس دالاس هوارد إبنة المخرج رون هوارد) وذلك يثير معتوه القرية الذي
يطعنه.
ليس في القرية طبيب ولا دواء ما يفرض علي رئيسها( ويليام
هيرت) إرسال ابنته(
العمياء) إلي' البلدات' وراء الغابة. يخبر ابنته إنها الوحيدة التي
تستطيع
إنقاذ حبيبها وأن لا تصرخ إذا ما خرجت المخلوقات إليها. وأن تعد حالما
تحصل علي
الدواء من هناك. خلال تلك الرحلة تتبدي لنا اللعبة الكبيرة
التي حاكها رئيس
القرية مع بعض كبار من فيها. فالغابة سليمة من الأذي لكن كبير القرية
اخترع لها
عالمها المخيف لكي تبقي القرية بمنأي عن العالم الخارجي وذلك لغاية ليس من
الضروري
الإفصاح عنها هنا. يقول
المخرج بعد أن أعاد ترتيب ما علي
المائدة من زجاجات ماء وصحون إفطار: 'القرية' إذن يتحدث عن حالة البارانويا التي يعيشها إنسان هذا العصر, وخصوصا في أميركا حيث تعزف الحكومة ألحان المخاوف المثارة من احتمالات حادثة إرهابية أخري. هذا التخويف, حسب أفلام مثل' العالم حسب بوش' و'انكشاف: الحرب علي العراق' وبالطبع' فهرنهايت11/9', الذي يمكن البيت الأبيض من الاستمرار في نهج مبدأ الضربة الوقائية. المثير هو أن عزلة أهل الفيلم الناتجة عن قرار جماعي بنبذ المدينة العنيفة في هذه الأيام والتظاهر بأن الحياة لا زالت في قرون سابقة, هو أمر سلبي. أنقل هذا إلي المخرج ** إذا كانت القرية رمزا لأمريكا أليس رمز الحكاية إذن أن تنعزل أمريكا عن العالم؟ 'لا أدري إذا كان بالإمكان إعتبار القرية هي أميركا. هذا سيكون تجاوزا لشروط الرمز. لكني أعلم أن الحالة التي يعكسها الفيلم هي حالة موجودة بالفعل. هناك خوف مستشر بين الأميركيين بفعل الأحداث وهذه هي الصلة التي يمكن إيجادها'. ** لكن حتي إذا لم تكن القرية رمزا لأمريكا... ( مقاطعا):' أنا لا أقول إنها ليست رمزا, لكن إذا كانت هذه هي رؤيتك استنتاجا مما شاهدته فهذا ليس خطأ أيضا'. ** عظيم.. لكن حتي إذا لم تكن القرية رمزا لأمريكا فإن ما يحدث فيها قريب مما يحدث معنا باستثناء أن الفيلم- وربما أنت- تدعوان إلي العزلة كرد علي المخاوف. 'ليس بالضرورة. القرية المعزولة لم تستطع سوي الاتصال بالعالم الخارجي لجلب المعونة. هذا خرق لحالة العزلة'. ** صحيح, لكنها أرسلت فتاة عمياء لن تري, علي أي حال, العالم الذي حولها. بالتالي لن تتعرف علي الفاصل الزمني القائم. 'أعتقد أنك تستطيع أن تصنع العالم الذي تريده حتي وإن كنت في المدينة لا تخرج منها. تؤمن شروط حياتك التي تريد. تعيش كما ترغب بقدر الإمكان. فقط في الريف تستطيع أن تصبح مسيطرا علي الزمن وعامل الوقت أكثر مما تستطيع أن تفعل في المدينة. المسألة في جوهرها بسيطة. أتحدث عن أناس عانوا من عنف المدينة وآثروا الابتعاد عنها وعن الزمن العصري بأسره'. أفلام م. نايت شياملان الثلاث السابقة تلتقي وفيلمه الجديد في أكثر من شأن. إنها دوما مبنية حول مخاوف. في' الحاسة السادسة' الذي كان أقوي أعماله وقعا بين المشاهدين والفيلم الذي جلب الجمهور ذاته إلي الفيلمين اللاحقين, كان هناك الطفل الذي يري موتي. فقط في النهاية تكتشف أن الطبيب الذي يرعاه ويعطف عليه ويحاول معالجته هو من بينهم. في' غير قابل للكسر' هناك بروس ويليس( بطل' الحاسة السادسة' كذلك) ناج وحيد من حطام قطارين اصطدما. يكتشف إنه ذو قوة خارقة وأن هناك شخصا آخر, صامويل ل. جاكسون, يناقضه تماما فهو معتل بمرض في العظام الهشة يجعله غير قادر علي فعل شيء, وفي النهاية نكتشف أن بروس ويليس قد لا يكون سوي نتاج ذهني لذلك الرجل هو وطفله وزوجته وحياته كلها.' إشارات' كان مختلفا إذ فيه زوار من الفضاء وحكاية ليست منتمية تماما إلي ذات العالم, لكنه يدور أيضا حول ذلك الرجل المؤمن بقوته ضد ما هو خارق وغير مفسر.' إشارات' حصد أقل إقبال ممكن.' القرية' جمع إيرادات أقل من سوابقه. بما أن المقابلة تمت قبل عرض' القرية' في أميركا لم يكن من الممكن استطلاع وجهة نظره في هذا الجانب, لكن: ** هل تضع في حسبانك أن لا يواكب الجمهور ما تريد الحديث فيه؟ 'دائما هناك هذا الاحتمال. تضع في حسبانك أن هناك قسما من الجمهور قد لا يتجاوب مع ما تطرحه أو إنه بالطبع لا يحب ما تطرحه أو قد يقرأه علي نحو مختلف. لكن الجمهور شرفني إلي الآن بتجاوبه. حين يقبل علي أفلامي فإنه يقصد أفلام المخرج وليس أفلام الممثل. وهذا عظيم, لكني بالطبع لا آخذ ذلك علي محمل الجد كثيرا. أنا عرضة لكي أخسر هذا الجمهور. أخسر هذا الفضول الذي تولد فيه صوب أعمالي في أي لحظة. والجمهور قد يتغير. ربما بعد عشر سنوات لن يعود لأفلامي بذات التجاوب'. ** من المهم أن تذكر ذلك, لأننا لاحظنا أن جمهور' إشارات' كان أقل من جمهور الفيلمين السابقين... كيف تري استعداد الجمهور لفيلمك الجديد؟ 'لا أدري ولا أستطيع التعليق علي ما لم يقع بعد. لكني أريد أن أذكر لك شيئا أعتبره مهما جدا. الجمهور والنقاد علي حد سواء يؤطران الفنان أيما كان. لو أن سلفادور دالي انطلق فنانا رومانسيا ثم انتقل إلي السوريالية لكان المعجبون به شعروا بخضة. أقصد القول إن هناك دائما ما يؤطر الفنان تبعا لنجاحه الأول'. ** لكنه تأطير خدمك. خدم ألفرد هيتشكوك من قبل... 'صحيح. ما أود أن أقوله هو إنني أقدم روايات تسترعي الانتباه إلي ما تتحدث عنه بصرف النظر عن الشكل أو الكيف. كل النقاد يريدون البحث في الكيفية أولا. هذه ربما المرة الأولي بما يتعلق بفيلم' القرية' التي يتحدث فيها ناقد عن موضوع العلاقة بين ما يطرحه الفيلم والواقع المحيط'. هذا ليس صحيحا تماما إذ تحدث نقاد أميركيون عن هذه العلاقة وإن لم يطرحوها عليه لأنهم لم يسعوا لمقابلته. م. نايت شياملان سينمائي يفاجيء ويترك تأثيرا. لكن الواضح إنه بات يترك انقساما لم يتركه فيلماه السابقان' الحاسة السادسة' و'غير قابل للكسر' وهذا دليل علي أن تأثيره علي النقاد( ولاحقا علي الجمهور) أخذ يخف. خصوصا وإنه علي الرغم من الإختلاف في القصص إلا أن الأجواء لا تختلف. وهو يقول إنه ليس مقيدا لهذه الأجواء, علي الرغم من ذلك فإن الفيلم الذي يعمل عليه الآن ويكتب له السيناريو هو من النوعية ذاتها: 'لا أعتقد أنني حبيس النوع. أستطيع أن أفعل أي شيء أريده. أي نوع. لكن الفيلم المقبل هو أيضا من نوع الغرائبيات. أستطيع أن أخرج فيلما رومانسيا مثلا, لكن الحقيقة هي أن ما قدمته إلي الآن هو النوع الأحب الي'* م. نايت شياملان.. قصة نجاح
اما أفلامه مخرجا( وكاتبا لكل أعماله) هي إلي الآن:
الأهرام العربي في 18 سبتمبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
م. نايت شياملان: مخرج الحاسة السادسة والقرية:
هوليوود/ محمد رضا |
|