لابد من الاشارة الي أن مجمل أفلام المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد يمكن قراءتها، وتأويلها، ومشاهدتها بمستويات متعددة، بدءاً من ليالي ابن آوي 1988 ، ومروراً بـ رسائل شفهية 1991، وصعود المطر 1994، ونسيم الروح 1998، وقمران وزيتونة 2001 ، وانتهاءً بفيلم ما يطلبه المستمعون 2003 . فهذا المخرج المبدع الذي اعتاد علي كتابة سيناريوهات أفلامه لأنه يعوّل علي وقع الثيمة، مثلما يعوّل علي الخطاب البصري، وبقية التقنيات الملحقة به، مضافاً اليها الحس الشاعري المرهف الذي يمكن تلمسه في أفلامه التسجيلية أمنيات 1983 و أيدينا 1984 والروائية كلها الي درجة أن الناقد السينمائي المعروف رفيق الصبان قد قال عن فيلمه الأخير ما يطلبه المستمعون واصفاً مشاعره أيضاً: أنا مفتون بالفيلم، فهو مزيج من الشجن والعذوبة وهذا توصيف دقيق يلّم بمختلف جوانب الفيلم علي صعيدي المضمون والتقنيات، كما يشتمل علي النفحة الرومانسية التي جعلت الفيلم قريباً من المتلقين بحيث أحبوه، وتعاطفوا معه، وتماهوا فيه. من هنا نستطيع القول بأن عبد اللطيف عبد الحميد قد حقق فعلاً المعادلة الصعبة التي تجمع بين الجيد والجاد والجماهيري! هذا المخرج يراهن علي الموضوع أكثر من مراهنته علي النجم الذي قد يغري نوعاً من الجمهور لأن يتدافع بالمناكب علي شبّاك التذاكر، ولهذا فقد صرّح غير مرة بأنه يجد متعة كبيرة في الكتابة أكثر من المتعة الاخراجية ، وهذا ما أفضي في النتيجة الي تكريس ما أُصطلح عليه بـ سينما الموضوع كما هو حاصل في العراق والشام وبلدان المغرب العربي، وليس سينما الممثل النجم كما هو الأمر في الكثير من مناحي السينما المصرية. ان ما يميز تجربة المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد هو بعدها الانساني الشفاف، وملامستها لجوهر العواطف والمشاعر الانسانية، هذا ناهيك عن بعدها الوطني. ولو عقدنا مقارنة بسيطة بين فيلم نسيم الروح وبين ما يطلبه المستمعون لتجلي لنا ذلك الحس الانساني العميق الذي نريد ابرازه أو الاشارة اليه. ففي فيلم نسيم الروح يتنازل البطل عن الارتباط بحبيبته لأن هناك شاباً آخر قد وضع أنشوطة الحبل حول رقبته مُهدداً بالانتحار ان لو يتزوج هو هذه المرأة التي أحبها أيضاً. البطل لا يكره هذا الرجل، بل يمجّد فيه هذا التمسك بحبيبته، فيتخلي عنها له، لأن هذا الأخير ظل متمسكاً بها حتي النزع الأخير. يتفجر هذا الحب الفتاك في قلب البطل، فيوزعه علي جميع أهله وأصدقائه ومعارفه، لكنه، مع الأسف الشديد، يُقتل، بدافع الشك، بطلقة من غريمه الذي لم يصدّق الايثار النبيل الذي أبداه بطل الفيلم. فينتهي الفيلم نهاية مأساوية كما انتهي فيلم ما يطلبه المستمعون نهائية مأساوية بموت البطل جراء الغارة الاسرائيلية علي الدفاعات الجوية السورية. آلية السرد التقليدي لـ ما يطلبه المستمعون ينتمي المخرج عبد اللطيف عبد الحميد الي تيار السينما الواقعية الجديدة التي تعتمد علي آلية السرد الكلاسيكي ضمن البنية الأرسطية المتعارف عليها حيث ينمو الحدث من خلال بداية وذروة ونهاية. وقد حافظ السينارست والمخرج عبد الحميد علي هذه الآلية، وراهن علي قوة الثيمة، وتأثيرها في المتلقي، كما راهن علي الجوانب الجمالية الكامنة في فن الصورة السينمائية، وحركة الكاميرا التي تستطيع أن تقدّم المبهر، والمدهش من جماليات المكان المقرون بحدث ما. لم يكن اختيار هذا المكان الذي وقعت فيه مجمل أحداث الفيلم، وهو بيت الجدود اعتباطياً، هذا الاسم الذي ينطوي علي بعد رمزي، ودلالة عميقة لا تخفي علي أحد، كما أن الزمن كان مقصوداً زمن الراديو الجميل هذا الجهاز الذي انتزع دوراً أساسياً لا يقل أهمية عن أدوار الشخصيات الرئيسة في الفيلم، بل أنه البؤرة التي التفت حولها أغلب شخصيات الفيلم. يعتمد الفيلم علي بنية محورية، وهي قصة حب تنشأ بطريقة عفوية بين الشاب جمال و الشابة عزيزة في قرية ريفية نائية. كما يعتمد الفيلم علي قصص جانبية لا تقل أهمية عن القصة الأولي، أو تكون سبباً في ثرائها وتعميقها مثل قصة الرجل المعاق سليم لا حظ الدلالة الكامنة في اسم سليم هذا الشخص الذي يُعامل وكأنه معتوه، أو غير سوي في أفضل الأحوال، يهرب من اضطهاد أهله، وسوء معاملتهم له الي بيت أبي جمال الذي يحدب عليه كواحد من أبنائه بالرغم من ازعاجاته العفوية التي تتذمر منها أم جمال تحديداً. غير أن شخصية سليم هي من الشخصيات التي أثرَتْ الفيلم، ومنحته دلالات مضافة. فسليم هو الشخصية الأظرف في الفيلم، والحاملة لعنصر الانتقاد، والسخرية، وخفة الظل، بدءاً من ألعابة النارية التي يفرقعها في كل مكان من دون الشعور بأي حرج أو خوف لا من أبي جمال أو أم جمال أو أي من الناس القرويين الذين يتوافدون علي صاحب هذا المنزل الكريم الذي فتح قلبه قبل أن يفتح باب بيته المنزل بلا سياج أو باب خارجي! سليم يصنع المراوح الورقية التي تدور ما ان تهب عليها نسمة رياح خفيفة، واذا ما شعرت العائلة برمتها من وطأته فهم لا يجدون ضيراً في اسقائه كأس خمرة ثقيلة كي يدّب دبيبها في رأسه لينام قليلاً بالرغم من أنه لا يهدأ ما لم يقم جمال بتقليد بعض الحركات التي يحبها سليم. وحينما يستمع جمال الي أغنية أقبل الليل لأم كلثوم، وينسجم معها، ويبدأ بشرح معانيها الي سليم، ويفهم هذا الأخير معني كلمة حبيبي ، ويدرك المعني العام الذي تدور حوله الأغنية يجن جنونه، ولا يهدأ الا بعد أن يسقيه أبو جمال كأس خمرة ثقيلة. وعندما يشاهد عزيزة وهي تستمع الي برنامج ما يطلبه المستمعون ينطق كلمة حبيبي بطريقة معبّرة، ودالة، وفكهة. أن جزءاً كبيراً من البنية السردية للفيلم قائمة علي شخصية سليم، وما ينجم عنها من تصرفات، وسلوكيات أغلبها محببة. فذات مرة بدأ بمطاردة جمال طالباً أن منه أن يقلّد له مشهداً كوميدياً ضاحكاً، وحينما تزل قدمه يسقط في أكمة مليئة بالأشواك، ولم ينقذه أبو جمال الا بعد جهد جهيد. بيت أبو جمال هو بمثابة الوطن المصغر لسكان البيوت المتجاورة أو التي تبتعد عن بعضها البعض قليلاً، وحتي الناس البعيدين نوعا ما يتجشمون عناء التنقل مشياً علي الأقدام كل ثلاثاء من أجل الاستماع الي برنامجهم الأسبوعي المفضل ما يطلبه المستمعون أو ليعرفوا أخبار بلدهم أو بعض أخبار العالم من خلال مذياع قديم. فهمهم الأوحد، والمنغص الوحيد لحياتهم، هي حرب الاستنزاف القائمة بين سورية واسرائيل. في أثناء هذه الزيارات الأسبوعية المنتظمة التي يقوم بها فتيان القرية وفتياتها تنشأ علاقة الحب الرومانسية بين جمال وعزيزة التي تدس في يده ذات يوم ورقة مكتوب فيها بما معناه حلمت بك.. أحبك.. ان كنت فرحاً بحبي فاقفز للأعلي بقدر ما تستطيع .. هكذا تتشكل أولي خيوط علاقة الحب الانسانية، وعندما يرقص الجميع علي ايقاع أحد الأغاني التي طلبوها كان جمال يقفز الي أعلي ما يستطيع تأكيداً لفرحه اللامحدود بحبها، فيحرضها بدوره علي الرقص، فتمانع أول الأمر كنوع من الغنج والدلال، وعندما تنهض فكأنها ترقص له وحده. ولعل من الأمور الطريفة هي قصة انتظارها له، والتي تتكرر يومياً عند المساء أو أول الليل، اذ تربط خصلة من شعرها بحبل رفيع يمتد الي مسافة غير قصيرة في البستان الكائن خلف الدار، فما أن يحرّك طرف الخيط حتي تشعر بقدومه فتهب كالممسوسة للقائه، وتأخذه بالأحضان، وتترك له حرية أن يشمها، ويقبلها علي عجل خشية أن يكتشف وجودهما أحد من أهل القرية. وفجأة، ومن دون سابق انذار، تغير الطائرات الاسرائيلية علي المواقع السورية فتقطع الاذاعة السورية بث برامجها لتذيع نبأ التصدي لهذه الطائرات واسقاط اثنين منها. كما يتم استنفار القطعات العسكرية، فيلبي جمال نداء الواجب للدفاع عن الوطن المهدد. وفي أثناء الخدمة العسكرية تحدث مواقف طريفة أخري لعل أبرزها طلب جمال من الضابط أن يسمح له بسماع الأغنية التي أهداها الي حبيبة القلب، كما يأذن له بالذهاب الي المنزل لرؤيتها والاستمتاع بمرأي وجهها ولو للحظة واحدة. وحينما يعود تشن الطائرات الاسرائيلية غارة شعواء علي المواقع السورية فتصيب جمالاً ومن معه بينما كان المذياع يهدي أغنية الأميرة العاشقة لفيروز الي الفارس العتيق. هناك قصة حب أخري موازية نتعاطف معها لغرابتها، وكوميديتها، وانسانيتها أيضاً. فالعم صالح يهيم بحب وصيفة ويحلم بأن يتزوجها، ويشم صدرها ولكنها تمانع، ولا تقبل له طلباً ما لم تُذع الاذاعة السورية الأغنية التي طلبها. فكل ثلاثاء يذهب الي بيت أبي جمال حيث تُذاع أغلب الأغاني التي طلبها أهل القرية باستثناء أغنية سميرة توفيق التي أصبحت شرطاً لا رجوع عنه لقبول وصيفة به. فمرة ينقطع البث، ليذاع خبر نزول أول انسان علي القمر، وينقطع البث ثانية ليذاع خبر اسقاط الطائرات الاسرائيلية، أما صالح فيظل مسكوناً بالحسرة الدائمة علي هذه الأغنية العصية التي طلبها كل أهل القرية ولكن من دون جدوي. لم يخرج نص ما يطلبه المستمعون عن اطار البنية التقليدية، وهذا التوصيف ليس عيباً علي السينارست، طالما أن الفكرة تلامس جوهر العاطفة الانسانية، وتهز المشاهد، وتضع المتلقين في دائرة الابهار. ثمة ملاحظة لابد من التوقف عندها وهي أن أغلب أفلام عبد اللطيف عبد الحميد لا تخلو من الشخصيات المعاقة التي يتعاطف المتلقي، وثمة فجيعة في الكثير من أفلامه. ففي قمران وزيتونة نجد رب الأسرة معاقاً جراء اصابة بليغة تعرّض لها في حرب فلسطين، فأصبح مُقعداً وعاجزاً حتي عن تأدية واجباته الزوجية بحيث ظلت الزوجة تعاني من حرمان مزدوج، اذ بدأت تتحمل أعباء تربية طفليها، وتتحمل مسؤولية المنزل برمته، وتمارس دور الأب أيضاً، وتبرز أشكالاً غير مألوفة من القسوة المغلفة بنوع من الحب الأمومي الذي لا تستطيع كبحه في أثناء حلاقة ابنها الذي يمص ابهامه، وينتف شعر رأسه، كما تعاقب ابنتها بحلاقة رأسها أيضاً لأنها تواطأت مع أخيها .. وفي فيلم نسيم الروح يُقتل الغريم، وفي ما يطلبه المستمعون يستشهد جمال في أثناء تأديته واجب الدفاع عن الوطن. وفي الختام لابد من التنويه الي أن مجمل شخصيات الفيلم قد أدت أدوارها بشكل متقن، ومدروس، وهذه الشخصيات الفنية هي جمال قبش، فايز قزق، محسن غازي، مأمون الخطيب، نبال جزائري، ابراهيم عيسي، ريم علي، ايمان الجابر، موفق الاحمد ورجاء يوسف. كما تجدر الاشارة الي جهود التقنيين تصوير، صوت، مونتاج، ديكور، موسيقي الذين أمدوا الفيلم بكل عناصر النجاح والتميز وهؤلاء هم يوسف بن يوسف، أميل سعادة، علي ليلان، أحمد معلا، ومروان الكرجوسلي. * ناقد عراقي القدس العربي في 18 سبتمبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
سينما الموضوع في فيلم ما يطلبه المستمعون لعبد اللطيف عبد الحميد:
عدنان حسين أحمد* |
|