شعار الموقع (Our Logo)

 

 

الحرب اللبنانية تجاوزها الزمن، 100 ألف قتيل، 300 سيارة مفخخة، لنضع من عندنا رقماً للمعاقين، بالآلاف طبعاً، لكننا نعرف رقماً للمخطوفين، 17 ألفاً وخمسمئة، هناك أيضا المجازر المتنقلة وكاتولوغات الأعضاء البشرية والنهب والانقلاب الاجتماعي، مع ذلك فإن الحرب اللبنانية تجاوزها الزمن. الذين عاشوا عرفوا العالم ما بعد 11 أيلول سيرونها هكذا، بعيدة ومسبوقة وقديمة، ليست الأرقام وحدها هي التي تقول ذلك فالمقارنات هنا على غير طائل، لكن الحرب اللبنانية تتفسر بما بعدها، لا نستطيع أن نقرأ مثلا نقاش التمديد كله إلا على أنه تفسير متأخّر للحرب. لنقل ان هذه ملاحق صدرت في غير أوانها لكننا نسمع التفسير مرة بعد أخرى ونفهم متأخرين جدا أن هناك عقلاً للحرب. بل ماكينة عقلية، عندما نقرأ أن التهديد بالحرب هو أول ما يخطر بعد قرار مجلس الأمن نفهم فورا أن الحرب معقولة جدا. وأنها تقريبا الحل، بل هي المسار الطبيعي الذي لا نستطيع تحويله إلا بتدخل كبير وقوة من الخارج. نفهم أن الواقع هو الحرب وأن علينا أن نعيش الى الأبد في ما وراء الواقع، أو أن نقبل بنوع من حبس الواقع، بإبقائه دائما في قفص لئلا يتابع مسيرته الدموية، لئلا يجري حيث لا مناص في أن يجري، أي في حقول القتل. نقاش التمديد يجزم بذلك من الجهتين، إنها الحرب يقولها الجميع بلغات مختلفة. يقال من ناحية إنها الحرب النائمة دعوها في رقادها، دعوا تلك اليد الأخرى فوقها لئلا تنهض، يقال إنها أيضا حرب الأميركيين علينا دعونا نتفق على مجابهتها، لنضع جانبا التناقض المنطقي ولا يفهم أحد أن من لا يستطيعون أن يشفوا من حربهم الداخلية يمكنهم أن يتحدوا في حرب ضد العالم، هذا التناقض منطقي طبعا ومن يبالي في الحروب بالتناقضات المنطقية، بل هذا حاصل طبيعي لوجود الحرب؛ أن يتعطل المنطق.

من جهة أخرى هناك من يواجهون التهديد بالحرب بإعلانها، إذا قيل إن الخروج السوري من لبنان يجر الحرب يدعون الى احتفالات حربية ويقفون تحت صور جنرالاتهم القتلى أو المحابيس، وهم الذين خاضوا حتى الركب في دم الآخرين، تحت الرايات وصور الشهداء والهتافات النارية ممجدين ثانية حرب التحرير والمسيرة الاستقلالية. ليس الوقت ملائما لنتذكر أننا عائدون من حرب بالمزاعم نفسها وأن تلك بدأت بالجيران ثم تحولت الى أكل الاخوان، ليس هذا تناقضا منطقيا. بالطبع، الحرب تفسر نفسها ولو بعد حين، بعد كل هذا الوقت، الخطاب نفسه بالفسوخ إياها، الفسوخ التي يتكفل العنف بل التعنيف في الواقع، يتكفل العنف الكاذب والتمثيلي بتجاوزها. سنغرق في لغة الوطنيتين المتذابحتين، الوطنيتين الكاذبتين، وسنقرأ بأي ألعبانية يهدد من يهدد بالحرب وبأي دوي أجوف يقول آخرون في الطرف الآخر إننا لها، وعلى كل فإن الحرب تفسر نفسها بعد حين، تناقضات منطقية يجري جبرها بالدم، تعنيف ينتهي بأن يغدو عنفا، استعراض يقع في أسر نفسه، كذب يحتاج الى كثير من القتل ليغدو أشبه بالصدق. ما يجري بعد الحرب يكاد يفسرها، ونفهم أننا نحن اللبنانيين وضعنا بكل فخر شطارتنا المعهودة في الحرب وجدنا فيها على عادتنا استثمارا سياسيا واقتصاديا رابحا، نحن اللبنانيين لم نستطع أن نخرج من كذبنا الطويل بصدق قط. نحن اللبنانيين شطارتنا سبقتنا، إدعاءاتنا سقطت علينا، كان لا بد من هذا الثمن لإنعاش تجارتنا السياسية. كان لا بد للأكاذيب الكبيرة من فاتورة دموية لتغدو حقيقة، نحن اللبنانيين فعلنا كل شيء، سفحنا الأطفال وانتهكنا وأنشأنا جماليات جديدة من أجزاء الجسد الإنساني لكننا لم نقترب من البنوك. وحين تجاوز بعضنا على هذا المبدأ وجد من قلب الفوضى العاصفة مَن يعيد رسم القوانين. كانت الإباحة هائلة لكن ثمة من يعيد رسم القوانين: المكتبات مباحة والآخرون لكن ليس البنوك، أعيد أبناء الزعماء المخطوفون الى ذويهم وقُطّع الآخرون بالمناشير. في كل ذلك كان هناك دائما شيء متعفن. كان هناك دائما أمر مريب. كان هناك شعور بأن البلاغة إياها التي سمعناها في نقاش التمديد وقبله في نقاش الخلوي، البلاغة البليغة الجوفاء هي ذاتها التي أبصرناها وسمعناها أثناء الحرب قذائف وسيارات مفخخة وحدائق قتل. إن ما جعل المصالحة تستعصي هي ما يتفسر اليوم في ولدنات الحكام وفصاحتهم الفاجرة وتنافرهم الأبدي على أصغر مصلحة، الجعجعة الهائلة التي تخفي ما تتبادله الأيدي تحت الطاولة، الهدايا. ولكن أيضا المقصات، إذ ليس من شيء شبيه بحربنا سوى هذا النقاش، لا شيء يفسر حربنا أكثر من هذا النقاش، إنه الكذب الذي يتحول في لحظة الى وحش حقيقي، إنها القسمة التي لا بد فيها من غش وتحايل وتهرب، إنها الشطارة التي تتجاوز نفسها، الشره الذي لا يخجل.

الحرب اللبنانية تجاوزها الزمن. لقد تحولت، بسحر أصيل الى سيرك كلامي وسجال، سحر أصيل لأنه فيها ولم تغير في سبيله نفسها. من العنف الى الكلام ومن الكلام الى العنف لا يحتاج الأمر الى أكثر من قفزة. قفزة، هي من بلهوانياتنا اليومية، في العنف تعنيف، في العنف تقليد للعنف واستعارة للعنف، في العنف ما في الكلام من فن وتلاعب، في العنف ما في الكلام من تخييل وتشبيه وحرفة، ربما لذلك أهمل الآخرون هذه الحرب التي افتضحت كما يفتضح إنشاء طنان. في كتاب للنوفيل أوبسرفاتور عن المجازر الاستئصالية لم يمر ذكر لبنان وكأن صبرا وشاتيلا والسبوت السود والكرنتينا والدامور والجبل ليست مجازر. ربما لأن هذه الحرب تحولت كلاما ونقاشا أجوف. لأن ما بعدها يفسرها، لأن ما بعدها يفضحها وكأنها ليست سوى تجارة سلاح ولصوصية منظمة.

تجاوز الزمن الحرب اللبنانية، لكن ما بعدها يفسر أكثر زيفها حتى بالنسبة لحرب، ربما يفعل ذلك فيلم دانييل عربيد <<معارك حب>> الذي عرض من قليل في قصر الأونيسكو. فيلم عن الحرب نرى فيه الحرب من بعيد. دوي وليالي ملجأ وبرق قذائف ولا شيء أكثر. الحرب بعيدة كما هي الآن لكنها تجر ذيولها كما هي الآن، الحرب لا تزال في خلفية المشهد كما لا تزال اليوم، ولا تزال تهديدا وتوترا ودويا <<طناناً أو غير طنان>> كما هي في اللحظة. بالطبع للفيلم كما لكل فيلم زمن مفترض يتطابق مع مجرياته، بكلمة، زمن الفيلم المعلن هو زمن الحرب. لكن الحرب وزمنها يلوحان بعيدين خلفيين كما يلوحان لنا هذه الآونة، تفاوت ما بين الزمن المعلن والسياق الجاري للفيلم لا يخطر إلا لمخرج يصنع فيلمه اليوم ويصنعه بوعي إنه اليوم، ويوازن في الفيلم بين الزمن التاريخي والزمن الواقعي، نشعر كأن فرقا ما بين خلفية الحرب البعيدة وسياق الفيلم هو فرق ما بين الأمس واليوم.

الحرب تظهر كتهديد (كما انذرنا مؤيدو التمديد) ونذير كما تظهر في راهننا، ما كان ذلك ليخطر لسمير حبشي بالطبع في فيلمه الذي صنعه أثناء الحرب وصنعه كوثيقة عن الحرب، ما كان ليخطر لجان شمعون في فيلمه الذي شاءه تقريرا شاملا عن الحرب من أسبابها الى نتائجها. كان ذلك ليخطر لشابة لم تعد الحرب بالنسبة لها هي الحرب، لقد رأتها من لحظتها، رأتها في استمرارها في النقاش والسجال والعلاقات السياسية، مفضوحة في استمرارها، مفضوحة تهريجية زائفة وكاذبة. رأتها كما هي في امتدادها طنانة تهويلية محسوبة وتمثيلية. ربما اضيف الى دانييل عربيد ما لم تفكر فيه بالضبط لكن مخرجة شابة كدانييل عربيد هي وحدها التي تستطيع ان تستهين بالحرب فتؤخرها الى الوراء وهي وحدها التي يمكنها ان تتناول الحرب بقلةِ انوِهال من شبعوا من ذكرها والكلام عنها. وهي وحدها التي تجرؤ على تحويلها الى مجرد موتيف من موتيفات الفيلم ولا تسمح لها ان تبتلع الفيلم وان تحوّله الى بقايا لها، كما فعل مخرجون كانت الحرب بالنسبة لهم باهرة هائلة لدرجة انها ابتلعت خيالهم، ولدرجة انهم وقفوا أعمالهم تقريبا على ارشفتها واحصائها وجمع اجزائها واشاراتها.

دوي فقط وليالي ملاجئ وكلاشنكوفات صامتة غالبا وملابس عسكرية، اشارات فقيرة. مع ذلك فالحرب حاضرة، انها تقرع على نوافذ الملاجئ، تعكر الليل، الحرب حاضرة بوصفها دائما على الحدود بين الداخل والخارج. بين الباب وما خلفه، بين المنزل وما بعده. الحرب حاضرة موجودة دائما على الحد. على الحد بدون ان تبتلع الداخل او تبتلع الخارج، بدون ان تغدو هي الواقع كله، وبدون ان تغدو وحدها الحدث ووحدها الحقيقة.

ليست الحرب هي الواقع، انها عصاب الواقع. او انها حساسية في الواقع، او بين داخله وخارجه. الأب المقامر نزق ووغد و<<بهوار>> ومدمن لعب، لا نعرف اين تدخل الحرب هنا واين لا تدخل. انها موجودة وغير موجودة. لا تصنع الحرب مقامرين ومدمنين وبهوارين، بوسع الواقع ان يصنعهم بدونها. لكن نموذجا كهذا يشير من بعيد الى الحرب. انه يشبه مخلوقاتها، وفيه طبعها. الأم المستبَد بها تتلقى عنف زوجها بغضب مكسور. هذا خُلُق يلمح الى خُلُق الجمهور اثناء الحرب. الغضب المكسور والمستسلم. لكن وجه العمة الصنمي والمتعالي بدون أي تعابير وصوتها الجارح بلا أي نغمة وجلوسها الدائم الى طاولة اللعب، كل ذلك لا صلة له بالحرب. لكننا، وللسبب نفسه، نحس ان هذا الوجه الذي يكاد يكون قناع الاخرس المطموس اليابس يحمل بدون أي قرينة ولا وجه شبه وجه الحياة المحنطة المعلقة خلف الباب. في هذا الجلوس الى طاولة اللعب يحوم التوجس والتهديد، انه زمن مسلط على الجميع. الحرب منعكسة على غير أشيائها. ربما هنا شعرية دانييل عربيد. لم يرسم فان غوغ الليل بالأسود ويمكن للحرب ان ترتسم على وجوه اللاعبين وجو اللعب بالدرجة نفسها. لكن شيئا كهذا لم يكن ليحدث لو لم يتحررّ المرء من الثقل الحدثي للحرب. لو لم تتحول الحرب بحد ذاتها تهديدا. لو لم تتحول الحرب الى استعارة ولا نعلم بعد ذلك إذا رمزت الحرب للواقع او رمز هو اليها.

ثمة لعبة أخرى، الاشخاص جميعا خارجون من أطرهم او يتجاوزونها، لا نستطيع ان نجد المقامر المدمن في نطاقه العادي، انه ليس فقط وغدا ونزقا وبهوارا ولكنه حطم هذا الإطار ونحن لا ندري الى أين يتجه. نعثر عليه في لحظة الانفصال شبه الكاملة. انه أب وليس أباً. زوج وليس زوجا. في البيت وليس فيه. العمة أيضا في لحظة تصنيم كاملة. لم تعد شيئا سوى تلك النظرة التي تطل من وراء اللحظة ومن وراء المكان ومن وراء كل واقع وكل ظرف. الخادمة هي أيضا خارج اطارها. انها الأكثر حرية في المكان. الأكثر انطلاقا ومبادرة لكنها ليست الخادمة. إذا كانت هكذا بالنسبة لسيدتها فهي ليست كذلك بالنسبة لنا ولا بالنسبة للصغيرة، الأبنة الصغيرة، وما بينها وبين الابنة انقلاب في العلاقة وخروج من أي إطار.

الحرب ليست هنا انها في الجو، انها الصمت والكهربة والتوجس انها أيضا تحطيم الأطر، وهي أيضا علاقة الانفصال. علاقة اللاعلاقة بين الزوج والزوجة، بين الأخ والأخت، بين الخادمة والسيدة، علاقة اللاعلاقة حين لا نعثر على أحد بإزاء الآخر. حين لا نتبين أي محيط جامع، بيت العمة غير بيت الأخ وكأنهما ليسا في ذات البناية والزوج يأتيه الى بيته غازيا ولصا. بين الصغيرة والخادمة تنقلب اللاعلاقة الى علاقة حقة، حيث يوجد الجدار الطبيعي يحصل التواصل انها لحظة ولادة او لحظة دمار، السقف يتحطم، الكائن يكسر قشرته باتجاه الولادة او باتجاه الموت، اللحظة التي يحصل فيها كل شيء تخيم عامرة بالتهديد والتوجس. اللحظة هي أيضا التوتر الذي يسود كل شيء، ليس توتر الخوف فحسب ولكن توتر الرغبة وتوتر القسوة والموت الروحي. التوتر الذي يجعل كل لحظة كثيفة ومتناقضة، تشهد كادرات دانييل عربيد بذلك، انها سريعة وكثيفة ومحددة جدا لكنها أيضا اشكالية الى أبعد حد، متفارقة ومعلقة كأن ثمة طاقة هائلة مخزونة فيها، كأنها بنت هذا الزمن المركب الحبيس في داخلها، زمن مركب من اليوم والأمس. من الراهن والماضي.

لعل هنا حرب دانييل عربيد. انها حرب مبتعدة لكن دويها على النوافذ. حرب حدثت لكنها لا تزال معلقة، حرب انتهت لكنها لم تغادر. حرب انسحبت من الفعل لكنها لا تزال قلقا وتوترا. حرب في الماضي لكنها عصاب الحاضر. حرب تنعكس على واقع من اطر محطمة منفصلة.

ما بعد الحرب يفسرها أكثر، هنا نجد شعريتها التي حملها فيلم دانييل عربيد، اظن ان الذين يسمعون تهديدا بالحرب كلما تضايقوا يرون من يجاوبون على التهديد بالحرب بالرايات وصور الجنرالات أو الهتافات الحربية. اظن ان من يتجاذبهم لؤم هؤلاء وتهريج أولئك يمكنه ان يفهم أكثر <<معارك حب>> لدانييل عربيد.

ملاحظة أخيرة، لم أحب اسم الفيلم لأسباب اسلوبية لكنه فيما احسب يدعم فهمي للفيلم. الحرب هي على الحد بين الداخل والخارج. بين الماضي والحاضر، وفيلم دانييل عربيد على الحدود نفسها. يحمل في اسلوبه المتوتر عصاب هذه اللحظة وحساسيتها.

السفير اللبنانية في 17 سبتمبر 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"معارك" دانييل عربيد ومناوشات التمديد ..

الحرب تكذب والواقع أيضاً

عباس بيضون