يلجأ عدد كبير من السينمائيين العرب إلى التمويل الأوربي -خاصة الفرنسي- من أجل خروج أفلامهم إلى النور، وهو ما يثير انقساما في الرأي إلى أكثر من اتجاه: الأول يرى أن هذا التمويل -رغم أهميته- يتطلب تنازلات أخرى هامة لأنه يركز على أفكار معينة دون أخرى ويفرض هيمنة فكرية على ما يقدم من خلال الفن السينمائي، وهو ما يستدعي رفض هذا التمويل بكل أشكاله حتى لو أدى هذا الرفض إلى إنتاج فيلم كل 10 سنوات. بينما يرى اتجاه آخر أن شركات الإنتاج الأوربية تكسب من إنتاج هذه الأفلام وتوزيعها وأنها لا تفرض سيطرتها وفكرها كما يصور البعض، وأنه لولا هذه الشركات الأوربية لما أصبح هناك سينما في دول المغرب العربي مثلا. الاتجاه الثالث متحفظ يرى أنه ليس كل الدول الأوربية يجب الحذر منها، ولكنه يحدد بعضها وفرنسا على الأخص التي تفرض -في رأيه- هذه الهيمنة، بينما هناك دول أخرى يمكن التعامل معها ومشاركتها إنتاجيا لتنفيذ أفلام على مستوى عال من التقنية واللغة السينمائية. سيطرت هذه الاتجاهات الثلاثة بقوة خلال فعاليات مهرجان الإسكندرية السينمائي العشرين الذي استمر في الفترة من 8 إلى 14 سبتمبر الجاري، وذلك من خلال ثلاث تجارب سينمائية هامة لثلاثة مخرجين عرب. الأول المخرج التونسي محمد دمق من خلال فيلم "دار الناس"، والثاني هو المخرج اللبناني بهيج حجاج من خلال فيلمه "زنار النار"، أما الثالث فهو المخرج المغربي محمد عسلي من خلال فيلمه "الملائكة لا تطير فوق الدار البيضاء" الذي فاز بجائزة المهرجان. "إسلام أون لاين.نت" التقت بالمخرجين الثلاثة وتعرفت على رأيهم في قضية التمويل الأوربي للسينما العربية. تجربة تونسية.. "دار الناس" المخرج التونسي محمد دمق رفض تماما مبدأ التعامل مع شركات الإنتاج الأوربية مؤكدا أنه لو ذهب بفيلمه "دار الناس" لشركة إنتاج فرنسية لكانت فرضت عليه إضافات عديدة أهمها الجنس والدين، وقال: "الجنس والدين موضوعان موجودان بالفيلم بالفعل ولكني تناولتهما بشكل غير مبتذل وعرضت أيضا التدين الجميل للأفراد العاديين من خلال الأب الذي خرج على المعاش ويكافح من أجل أسرته". و"دار الناس" هو أول فيلم يتعرض لما يسمى "ثورة الخبز" التي اجتاحت معظم تونس عام 1983م بعد الإعلان عن إلغاء الدعم المخصص لأسعار الخبز ومشتقات الحبوب الأخرى، مما أدى إلى ارتفاع أسعارها لأكثر من الضعف، كما شهدت تونس وقتها أيضا مرحلة تراكمت فيها الأزمات مثل الصراع المفتوح على خلافة الرئيس بورقيبة والإضرابات والمظاهرات وصعود التيار الإسلامي. والفيلم يصور كل هذه الأحداث في فترة الثمانينيات وانعكاس تلك التحولات على طبيعة العائلة التونسية، فاختار أن يقارن بين عائلتين: الأولى عائلة متواضعة يعولها موظف بسيط أحيل إلى التقاعد ويتعلق بالمبادئ والقيم رغم التفكك الذي يكاد يصيب عائلته، والثانية عائلة من مستوى مرتفع، فالأب رجل أعمال يعاني من مشاكل مالية ويتمسك بالسلطة على حساب الأخلاق. ويبدأ الفيلم برسوب "هادي" في البكالوريا للمرة الثالثة مع إحالة والده للتقاعد وتنتقل العائلة إلى حراسة فيلا رجل الأعمال "سي المنصف" الذي ينوي السفر إلى فرنسا لقضاء عطلته، ولدى وصولهم يتعرف هادي على "رملة" وصديقتها من خلال التلصص على فيلا مجاورة وتنشأ قصة حب بينهما لكنه يظل يشعر بالغربة في هذه البيئة الجديدة التي لم يستطع التكيف معها وفي هذه الأثناء يعود شقيقه "رءوف" من أوربا ويكشف له من خلال أنشطته المريبة عن أسرار مجتمع منحل من تهريب ورشوة وعنف، كما يتمكن من إغراء رملة لينتهي الفيلم بمعركة بين الشقيقين ومواجهة هادي للوهم. وقد تعمد دمق أن يظهر المقارنة بين مجتمعين مختلفين تماما ويعرض لآمال الشباب المعلقة دائما بالسفر والهجرة والإحباط الذي يصلون إليه في النهاية. وقد تعرض في الفيلم لبداية التطرف الديني بشكله السلبي من خلال التعاملات التي كان يقوم بها رءوف شقيق هادي وتهريب الأسلحة، وهو ما رفض الشاب هادي أن ينضم إليه، والمقصود بدار الناس هو دار الغير أي أن المكان ليس مكانك، وليس معناها الفيلا التي جاءت إليها عائلة هادي. ويتساءل دمق: "كيف يمكن لي أن أصور كل هذا من خلال تمويل أجنبي أوربي؛ وقتها لن يكون لي خيار في كثير من الأمور داخل السيناريو، خاصة أن كل شركات الإنتاج الأوربية لا بد أن تقرأ السيناريو أولا قبل عقد أي اتفاق لكي يضيفوا ويحذفوا فيه ويملوا شروطهم". تجربة لبنانية.. "زنار النار" على العكس من هذا الرأي يذهب المخرج اللبناني بهيج حجاج الذي يؤكد أنه بدون التعاون مع مؤسسات الإنتاج الأوربية فلن نقدم أي سينما ويفسر: "لأننا في لبنان ليس لدينا أي دعم للسينما وأغلب المخرجين لهم علاقات بمنتجين من أوربا، وأنا تقدمت بالمشروع لمؤسسة إنتاج فرنسية وحصلت على دعم 120 ألف يورو، ودعمتني وزارة الثقافة بلبنان بـ20 ألف دولار فقط، ومع بعض المشاركات تكلف الفيلم 200 ألف دولار وصورته بالديجيتال لأقلل تكلفة الإنتاج وإن كان لم يلحظ أحد من الجمهور ذلك وهو ما يؤكد أن المستقبل كله سيكون للديجيتال وهو موضوع آخر". ويضيف: "لكن لولا مشاركة جهة إنتاج فرنسية لما صورت الفيلم، خاصة أن الجمهور في لبنان قليل جدا في دور العرض وبالتالي الفيلم لا يحقق أي إيرادات داخل دور العرض اللبنانية، والأمر ليس كما يصوره البعض من التحكم في الفيلم والسيطرة عليه فالأمر ليس بهذا الشكل إطلاقا ولكن الفيلم الجيد والذي يحمل مضمونا يتم الموافقة عليه فورا"، ويضرب مثالا بفيلمه "زنار النار" وهو أول تجربة سينمائية لفيلم روائي طويل له، ويروي: "ظللت أحلم به لمدة 10 سنوات ولكني لم يكن لدي الإمكانات لتنفيذه. وفيه صورت الحرب الأهلية اللبنانية من خلال رؤية خاصة لأستاذ جامعي يشارك آخرين في مخبأ بسبب القنابل وفى الظلام تلتصق به فتاة ويمارس معها الجنس وسط الخوف والرهبة من أصوات القنابل التي تنفجر من حولهم، ولكنه لا يعرف من هي هذه الفتاة التي أشعرته بالحب وبالأمل وبدفء المشاعر الذي كان في حاجة إليه، ويظل يبحث عنها دون جدوى حتى يظن أنها حلم وأن شيئا من هذا لم يحدث". ويضيف بهيج قائلا: "لقد عشت الحرب ببيروت وأحببت أن أعرضها بشكل مختلف وبرؤية جديدة فهناك من يريد محو هذه الفترة من حياتنا، ففي الثمانينيات كانت الفوضى هي المسيطرة على لبنان والحرب كانت مثل الفيروس أو الميكروب ينتشر بسرعة في المدينة، ولم أخض في تفاصيل الأحزاب والسياسة، ولكن ركزت على الإنسان والخلل الذي حدث للعديد من الشخصيات". والمقصود بزنار النار هو حزام النار الذي التفت به بيروت من كثرة الحروب والدمار، ويكمل: "لقد أوضحت كيف أن المقاييس انقلبت في المجتمع بسبب الحرب والنتائج مسيطرة ومؤثرة علينا حتى الآن، والوضع الثقافي في انحدار شديد والأغنياء الجدد هم المسيطرون على المجتمع حاليا بينما المثقفون وأساتذة الجامعة ليس لهم أي دور، وقد كانت هناك صعوبة شديدة في الديكور لكي أصور أحداث الثمانينيات فكل شيء تم محوه، ففي لبنان لا يريدون هذه الذكرى تماما رغم أنها جزء من التاريخ". تجربة مغربية.. ضد الفرانكفونية أما محمد عسلي المخرج المغربي فرغم عمله كمنتج لمدة 24 سنة فإنه انتظر طوال هذه الفترة لكي ينتج فيلمه بسبب صعوبة الإنتاج الذي يواجه السينما المغربية، ولكنه يؤكد بشكل قاطع أن له موقفا من الفرانكفونية ويرى أن للفرانكفونيين دورا استعماريا ويريدون التخلف للسينما المغربية. ويقول: "إن بالمغرب 35 مليون نسمة وبعد تحررنا من فرنسا بـ50 سنة ليس لدينا أي كفاءات فنية في السينما مثل المونتير أو مهندس الصوت أو أي فني من طاقم العمل بالفيلم، وفرنسا مثلا لا تريد إلا أفلاما تتكلم عن الجنس أو تهاجم الدين وقد هاجموني لأني إسلامي وأرفض مهاجمة الإسلام، وهو ما حدث في مهرجان "سلا" بالمغرب الذي تركته في آخر أيامه غير حزين لأحضر مهرجان الإسكندرية السينمائي فالمهرجان المغربي يسيطر عليه التمويل الفرانكفوني مما جعلني أستاء جدا مما يحدث". إلا أن محمد عسلي لم يرفض الإنتاج الأوربي تماما وإنما يركز على فرنسا بالذات لأنه تعلم في إيطاليا ويعمل بها في الإنتاج وشارك بفيلمه "الملائكة لا تطير فوق الدار البيضاء" مع جهات إنتاجية إيطالية لكي تقوم بتوزيعه في إيطاليا وهو ما كان يركز عليه في المقام الأول، فهو يقول إنه أنتج أفلاما إيطالية عديدة وكون قاعدة اقتصادية صلبة لكي يكون سينما خاصة به وأستوديوهات ملكا له، وبالفعل يعد حاليا لعمل مجموعة من الأستوديوهات في "ورذات" وهى مدينة صحراوية صغيرة مفتوحة بإيطاليا لكل السينمائيين بالعالم. ويضيف: لدي أمل أن أخلق من هذه المدينة الصحراوية الصغيرة سينما وطنية. وفى فيلم "الملائكة لا تطير فوق الدار البيضاء" يعرض عسلي لثلاث شخصيات رابطهم الوحيد هو تركهم للقرية بحثا عن العمل في المدينة الكبيرة الدار البيضاء ليجدوا أنفسهم عاملين بالخدمة في نفس المطعم. "سعيد" الآتي من قرية بربرية من قرى الأطلس ترك زوجته الحامل وطفليها تحت حماية والدته وأخيه الأصغر، وعلى الرغم من توسلات زوجته فلن يكون في مقدوره حضور ولادة ابنهما الثاني بسبب اعتراض صاحب العمل، وتموت الزوجة في النهاية بسبب المرض وهو بعيد عنها. أما إسماعيل فهو شاب يحلم طوال الفيلم بشراء حذاء بـ1200 درهم وعندما يقوم بشرائه يظل محتارا به لكي يحافظ عليه. أما عثمان الذي غادر قريته بسبب القحط فيعمل بشقاء كي يعول حصانه الذي تركه لأمه العجوز والذي يتهدده كل جزاري الحي، وعندما يأخذ الحصان من القرية ويذهب به إلى المدينة يقع من على الحصان ليجري الحصان بعيدا تاركا صاحبه كأنه يرفض الذهاب إلى المدينة. والفيلم عرض في مهرجان كان، كما نال الجائزة الكبرى من معهد العالم العربي بباريس، وقد استعان عسلي باثنين فقط من الممثلين المحترفين أما باقي فريق التمثيل فكلهم من الهواة، ولم يصنع أي ديكور بالفيلم فقد صور كل المشاهد على الطبيعة وبواقعية شديدة، ويعرض الفيلم حاليا بلندن ويعد أول فيلم مغربي يعرض تجاريا بلندن، وسوف يعرض تجاريا بالمغرب بعد رمضان القادم. ويضيف محمد عسلي أن شخصيات الفيلم رغم خسارتها الشديدة فإنها ظلت واقفة على قدميها للنهاية، فهم خسروا معركة ولم يخسروا الحياة، ولكني أحببت أن أصور طاعون الهجرة لدى الشباب وكيف يمكن أن يؤدى بهم إلى خسائر فادحة.
** صحفي مصري موقع "إسلام إنلاين" في 16 سبتمبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
التمويل الأوربي للسينما العربية.. تجارب وآراء حسام عبدالقادر ** |
|