ظلت الصورة التقليدية للطفل في السينما العربية الروائية تظهره دائما على أنه ذكي، لطيف، ظريف ومطيع للوالدين، على الرغم من بعض الشقاوة، المحببة على أية حال، التي تتسم بها بعض تصرفاته. وفي الغالب الأعم، عندما كان يخصص لطفل ما دور كبير في فيلم عربي ما، فإنه غالبا ما كان يوصف في النشرات الدعائية وفي وسائل الإعلام، بالطفل المعجزة. تطور السينما العربية باتجاه معالجة بعض نواحي القضايا والمشاكل الحقيقية للمجتمعات العربية بصورة واقعية، والجرأة المتزايدة لدى المخرجين الشباب خاصة للغوص في هموم الإنسان العربي خاصة المنتمي إلى الفئات الشعبية الفقيرة أسهم في أن تتقدم السينما العربية المعاصرة بطيئا باتجاه استكشاف موضوعات جديدة تمس مناطق كانت محرمة في السابق أو غير مقبول التوغل فيها. هذه الموضوعات الجديدة لا تنأى عن الواقع المعيش بل تتوغل فيه بروحية جريئة في تناولها لقضايا الواقع كاشفة مناحي السواد والبؤس فيه معرية تجلياتها بدون أيما تزويق أو حلول تفاؤلية غير حقيقية وغير صادقة. وهكذا ولأول مرة نجد أنفسنا أمام أفلام سينمائية روائية طويلة تتابع عالم الطفولة المشردة بكل ما فيه من بؤس وقسوة، أفلام ابطالها ليسوا من النجوم وليسوا من الممثلين المحترفين بل هم من الأطفال الذين عاشوا التجربة في واقعهم الحياتي، والذين يخوضون غمار التجربة السينمائية للمرة الأولى، وعلى الأغلب، للمرة الأخيرة، لأن التجربة التي خاضوها لا تنتمي بطبيعتها إلى الأدوار التي تفتح لهم الأبواب أمام عالم السينما التقليدي بحكاياته المسلية وإلى النجومية أو احتراف المهنة وذلك بالرغم من البراعة وقوة الإقناع والتأثير وصدق الأداء الذي تميز به تجسيدهم، جميعا، للأدوار التي قاموا بها. من أبرز الأفلام الروائية المصرية الطويلة التي قدمت صورة مختلفة للطفل الفقير تلقي نظرة متشائمة على مستقبله، نذكر الفيلم المصري “يوم مر يوم حلو” للمخرج خيري بشارة، الذي يحكي عن الأوضاع المتداعية لأسرة من الطبقة المتوسطة بعد وفاة الأب، فتبقى الأم (لعبت دورها فاتن حمامة) تصارع بكل قواها لكي تتمكن هي وبناتها الثلاث وابنها الصغير من العيش ولكي تتلافى الانهيار الذي يهدد مصائر الجميع، غير أنها على الرغم من صراعها البطولي ضد الفقر وما يتسبب به من انهيارات اجتماعية وأخلاقية، تفشل في حماية بناتها وكذلك في حماية ابنها الذي يهرب في النهاية من المنزل ويهيم في شوارع المدينة. وفي الفيلم المصري “الأبواب المغلقة” يتابع المخرج عاطف حتاتة مصير صبيين من الفئات الفقيرة، أحدهما يمتهن البيع في الشارع عند الإشارات الضوئية فيكون مصيره الموت بعد أن صدمته سيارة مسرعة، أما الثاني فيواجه مصيرا قاسيا عندما يضطر لطعن أمه بالسكين بعد أن فاجأها تعانق المدرس الشاب الذي تبرع لمساعدته في دروسه. ونجد ثلاثة نماذج مهمة في السينما الروائية السورية بالعلاقة مع صورة الطفل، الأول منها هو فيلم بعنوان “اليازرلي” للمخرج قيس الزبيدي، المقتبس بتصرف عن قصة متوسطة الطول للكاتب حنا مينة بعنوان “على الأكياس”، يروي فيها عن فترة طفولته التي اضطر فيها للعمل في الميناء وممارسة مهام شاقة لا يقوى عليها إلا الرجال الأشداء. والثاني هو فيلم “أحلام المدينة” للمخرج محمد ملص، والذي يستند إلى سيرة ذاتية ليروي قصة طفل يتيم الأب نزح مع أمه وشقيقه الأصغر من الجولان السوري المحتل وجاء إلى دمشق ليعيش في كنف جد قاس وبخيل، مما يضطره للعمل كأجير مكوجي كي يتمكن من مساعدة والدته، في حين أن شقيقه الأصغر يتوفى بسبب المرض. أما الفيلم الثالث فهو “قمران وزيتونة” للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد والذي يتابع فيه مصير طفل وطفلة في قرية سورية فقيرة نائية، ويركز فيه على معاناة الطفلة التي تعيش في كنف والد عاجز وأم قاسية تنفس عن الكبت والحرمان عن طريق معاقبة ابنتها الفتية، ولا تتورع عن جز شعرها الجميل الطويل بأكمله في لحظة غضب أعمى. أما السينما الفلسطينية فقد عالجت موضوع الطفل الفلسطيني الواقع تحت نير الاحتلال “الإسرائيلي” من خلال فيلم “حكاية الجواهر الثلاث” للمخرج ميشيل خليفي، الذي يصور فيه حياة طفل فلسطيني في مخيم غزة يرتبط بعلاقة صداقة مع طفلة غجرية، يحلم بالسفر إلى أمريكا الجنوبية بحثا عن جواهر ثلاث، فينتهي به الأمر إلى الموت قتلا برصاصة من جندي “إسرائيلي”. وتقدم السينما التونسية بدورها أكثر من تجربة في هذا المجال أبرزها فيلم “عصفور السطح” (أو “حلفاوين”) للمخرج رشيد بو غدير، الذي يصور فيه تطور المشاعر الجنسية لدى طفل صغير من الطبقة المتوسطة ظلت والدته تصطحبه معها إلى حمام النساء العام. وهناك أيضا الفيلم المتميز في موضوعه “السيدة” للمخرج محمد الزرن، الذي يصور الواقع البائس الذي يعيشه الأطفال الفقراء في حي السيدة قرب العاصمة، وذلك من خلال علاقة بين رسام يجيء إلى الحي كي يستمد من واقع الحياة فيه مادة لفنه، وفتى صغير ( قام بالدور فتى فقير من سكان الحي نفسه ) يتورط شيئا فشيئا في السرقة، بما يقوده لمحاولة الانتحار. أما المخرجة اللبنانية ليلى عساف فتقدم في فيلم “الشيخة” قصة حقيقية جرت في لبنان زمن الحرب الأهلية بطلتها طفلة في العاشرة من عمرها نشأت في بيئة فقيرة جدا، ترأست عصابة من الصغار من جيلها وقامت بأعمال السرقة وغيرها. وقد ألقي القبض مرارا على هذه الطفلة ولكنها كانت تعاود استئناف أعمال السرقة بعد كل مرة يفرج عنها فيها. وقد اشتهرت هذه الطفلة بلقب “الشيخة” والذي استخدمته المخرجة عنوانا لفيلمها. ونذكر بهذه المناسبة أن “الشيخة” الحقيقية كانت من الشخصيات الرئيسة في فيلم لبناني آخر هو الفيلم التسجيلي “بيني وبينك بيروت” للمخرجة ديما الجندي، حيث قامت المخرجة بزيارتها حيث تقيم مع أسرتها الفقيرة وأجرت معها أحاديث عن تجربتها في الشوارع وفي السجن. تستعيد ليلى عساف وقائع حياة الشيخة. يبدأ الفيلم بمشهد لها مع عصابتها ومنهم شقيقها الأصغر وهم يسرقون في الشوارع فينجحون في نشل محفظة. وعندما يعودون إلى المنزل حاملين غنيمتهم المتواضعة ويصلون إلى الخرائب القريبة من المنزل يلاقيهم شقيقها الأكبر مع صديقته فيصادر ما غنموه. وعندما يصلون إلى المنزل ينهال عليهم الأب الأحدب السكير بالضرب بسبب ذلك. نتعرف في البيت أيضا الى الأم الصامتة المستسلمة لقدرها وعلى الجدة المتواطئة مع حياة الجريمة. هكذا تعرفنا المخرجة منذ البداية على البيئة العائلية التي نشأت فيها هذه الطفلة المتوازية من حيث الزمن مع أحداث الحرب الأهلية. وهذا التعريف هو مجرد تقديم وتمهيد للحكاية وللوقائع المتعلقة بالطفلة، بطلة الفيلم، وبظروفها، ولا يقصد منه، على الأغلب تبرير الدوافع التي قادتها لتلك الحياة التي عاشتها أو إثارة الشفقة عليها والتعاطف معها. فلو كان الأمر كذلك لأصبح الفيلم تقليديا في بنائه وفي رسمه لشخصية البطلة. فالفيلم في الحقيقة وكما يتبين من متابعة أحداث الفيلم لا يسعى إلا إلى كشف الوقائع بأوضح صورة ممكنة وأكثرها صدقا. هذا على مستوى الصورة، أما على مستوى الفكر، فإن الفيلم ينقض الحلول الوهمية التي تتعامل مع مشاكل الفقر والجريمة الناتجة عنها باعتبارها مشاكل فردية يمكن التغلب عليها بواسطة “أهل الخير” وجمعيات البر والإحسان. ويحسب لفيلم “الشيخة” إنجاز آخر يرتبط بذلك الأداء المذهل لأبطال الفيلم من الأطفال الذين جسدوا أدوارهم بصدق واقناع كبيرين رغم ما في هذه الأدوار من صعوبة وتعقيد. ونظن أن هذا الإنجاز مؤشر على عدم الحاجة، من الناحية الإبداعية، للالتزام باستخدام النجوم المشهورين أو الممثلين المحترفين في الأفلام السينمائية العربية، بخاصة عندما لا يكون الهدف من هذه الأفلام محض تجاري يسعى وراء قيمة تذاكر الدخول إلى صالات العرض. يتشابه الفيلم المغربي “علي زاوه” للمخرج نبيل عيوش ( للمخرج قبل ذلك فيلم طويل بعنوان “مكتوب”)، في اختيار أطفال الشوارع المشردين من لصوص ومتسولين، موضوعا للفيلم، مع الفيلم اللبناني “الشيخة”. ويمكن لنا أن نجد وجها آخر لهذا التشابه ينتمي إلى طبيعة المعالجة السينمائية التي تسعى وراء الواقعية ولكن ضمن اختيارات محددة وضمن عملية انتقاء للمادة المصورة التي تركز على أولئك الأطفال وحكايتهم أكثر مما تركز على الواقع وظروف المجتمع والبيئة التي يعيشون فيها. فالفيلمان يتحدثان عن أولئك الأطفال بالذات وليس عن الواقع الاجتماعي بحد ذاته، وبالتالي فإن العرض السينمائي يركز على الشخصيات ومصائرهم ولا يعنى كثيرا بتحليل الواقع والبحث عن أجوبة أو حلول لما يمكن أن يتضمنه الفيلمان، بالضرورة، ولو عن غير قصد من مخرجي الفيلمين، من أسئلة وقضايا. لكن الفيلمين يختلفان نوعا ما في المنهج. ففي حين يلتزم فيلم “الشيخة” بسرد حكاية حقيقية حديثة العهد عن طفلة في العاشرة تزعمت عصابة للسرقة في بيروت الغربية زمن الحرب الأهلية ويقدم هذه الحكاية بتفاصيل تنتمي إلى المدرسة الطبيعية في الإبداع الأدبي والفني، فإن فيلم “علي زاوه” يسعى نحو الأسطورة وتحويل واقع حياتي، هو واقع الأطفال المشردين، إلى حكاية ذات منحى أو بعد رمزي شعري. وتتميز تجربة العمل على تحقيق “علي زاوه” بخصوصية تعكس نوعا من المفارقة تتمثل في لعبة مخادعة توهم بالإحالة القصدية إلى الواقعية. هذه اللعبة هي لجوء المخرج إلى اختيار أطفال مشردين بالفعل لكي يقوموا ببطولة الفيلم. وحسب ما جاء في المعلومات فإن المخرج عمل مع أولئك الأطفال بشكل مسبق ولمدة عامين تقريبا وبالتعاون مع أخصائية اجتماعية تعمل في مؤسسة لرعاية الأطفال المشردين وذلك كي يستوعب مشاكلهم وظروف حياتهم من ناحية، ولكي يجهزهم للتمثيل في الفيلم الذي يفترض فيه أن يعيد إنتاج شروط حياتهم ويعكس واقعهم بدقة توثيقية وبواقعية صادقة في صورتها المعروضة على الناس. غير أن نتيجة الفيلم عكست جوابا مختلفا ومغايرا لما أوحت أو أوهمت به المعلومات التي تم تناقلها عن سيرورة التجربة والتحضير لها. هذه المفارقة هي ما حدت بناقد مغربي لكي يقف موقفا سلبيا ويكتب مقالا مضادا للفيلم ويعتبر تجربته خديعة كبرى، حيث انه بحث في الفيلم عن صورة الواقع وتحديدا، عن صورة الدار البيضاء، المدينة التي تم فيها تصوير الفيلم، وبحث عن تجسيد واقعي لحياة أولئك الأطفال، فلم يجد تطابقا يفترضه ويطالب به بين صورة الواقع (الوثيقة) وصورة الفيلم (الرمز). ينتهي فيلم “علي زاوه” أيضا نهاية مخادعة، فإذ يتمكن الأصدقاء في نهاية الفيلم من نقل الجثمان إلى مقره الأخير في مياه البحر، فإنه يوحي بأنه توصل إلى نهاية سعيدة بعدما تكللت جهود الأصدقاء بالنجاح. ولكن هذه النهاية السعيدة هي في حقيقتها نهاية مفجعة، ذلك أن الطفل في الحقيقة مات ولم يحقق حلمه. ألا تعكس هذه المفارقة نظرة متشائمة تؤكد لنا أن أولئك الأطفال المشردين سيبقون في الواقع الحياتي مشردين وهم محكومون بذلك نتيجة شروط الحياة الفعلية؟ إن الأطفال الذين سعوا لتحقيق حلم صديقهم الراحل سيبقون عاجزين عن تحقيق أحلامهم الخاصة بهم في حياتهم وسيظلون أطفالا مشردين ولن تفيدهم بشيء الأخصائية الاجتماعية التي أفادت مخرج الفيلم أثناء تحضيره المسبق. الخليج الإماراتية في 13 سبتمبر 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
أفلام عربية عن عالم الأطفال المشردين عدنان مدانات |
|